الخميس ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٨
مسرحية بريتانيكوس
بقلم جميل حمداوي

بين روعة التاريخ وجودة الإخراج

تمهيـــــد:

عرضت بالمركب الثقافي بمدينة الناظور يوم الأحد 25 ماي 2008م مسرحية ناجحة بعنوان" بريتانيكوس" من تقديم جماعة مسرح المدينة الصغيرة بشفشاون، وقد قدمت هذه المسرحية ضمن المهرجان الثقافي والفني لجمعية التربية والتنمية بالناظور.

وقد اشتغلت الفرقة المسرحية الشفشاونية على مسرحية "بريتانيكوس" للكاتب الفرنسي جان راسين(1639-1699م) التي ألفها سنة 1669م، وأثارت آنئذ ضجة نقدية كبيرة أثناء عرضها بفرنسا وخاصة من قبل الكاتب الدرامي المنافس لراسين ألا وهو المسرحي الفرنسي الكبير كورناي.

أما إخراج المسرحية فقد كان من إنجاز الفتى الشاب محمد بوغلاد، وإعداد أحمد السبيع. في حين تكلف عبد الله مويت بالملابس والسينوغرافيا، بينما اهتم محمد بن عمر بجماليات الإضاءة المسرحية، وأشرف حسين أناهال على المؤثرات الصوتية، بينما تخصصت فدوى بن ميمون في ماكياج الممثلين.

زد على ذلك، أن مسرحية " بريتانيكوس" التي قدمتها فرقة شفشاون فازت بالجائزة الكبرى لمهرجان مسرح الشباب بالرباط سنة 2007م.

1/ المعطيات الدلالية والدرامية:

تجسد مسرحية " بريتانيكوس" صراعا دراميا بين نيرون ومنافسه الأمير والقائد العسكري بريتانيكوس. كما تجري أحداث المسرحية في القرن الأول الميلادي في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية القوية. والكل يعرف أن نيرون كان حاكما مستبدا متوحشا، ذميم الوجه، قاسي القلب، بقر بطن أمه؛ لأنها ولدته مشوه المحيا، وقد أحرق روما وهو يضحك من شدة سعادته بذلك الفعل الهستيري.
وقد اتكأ جان راسين على المعطيات التاريخية عند المؤرخ الروماني " تاسيت"، فتصرف في الأحداث التاريخية التي تتعلق بشخصية نيرون، وحذف ما لايهم المسار الدرامي لمسرحيته التراجيدية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور حمادة إبراهيم في كتابه" بانوراما المسرح الفرنسي":" فراسين يأخذ عن الشاعر " تاسيت" شخصية نيرون بقسوتها ووحشيتها، وما تنطوي عليه من غرائز بهيمية، ويأخذ شخصية أگريبين بطموحها الشديد وبما فيها من مشاعر الأمومة. ولكن على المستوى الدرامي، فإن هاتين الشخصيتين، دون أن تفقدا أي ملمح من ملامحهما المذكورة والمعروفة عنهما، تتصرفان عند راسين في ظروف أخرى ومواقف تختلف عن تلك التي يصورها لنا تاسيت. فراسين يضيف من عندياته مثلا موضوع التنافس الغرامي بين نيرون وبريتانيكوس. كما أنه يقتصر في مسرحيته على أحد المربين الموجودين عند ناسيت، وهو باروس. وكذلك يلغي راسين مشهد تجريب السم في العنزة ويجعل هذه المعلومة، وهي مفعول السم، ترد سردا على لسان أحد الشخوص وهو نرسيس الذي يقول:" لقد قتل السم عبدا أمام عيني"، هذه الإشارة البسيطة تكفي دليلا على القسوة والوحشية".

وتبين المسرحية كما قدمتها فرقة شفشاون الصراع الدرامي الموجود بين نيرون والأمير بريتانيكوس، وهو صراع تراجيدي حول الحب والسلطة. فنيرون خطف الحكم من بريتانيكوس بعد أن تخلص من والده الحاكم بمساعدة عشيقته أگريبين التي أوصلته إلى الحكم، فتزوجت به لتحقق طموحاتها وأغراضها السلطوية. لذا، يبدو نيرون في تصرفاته السياسية وقراراته الإدارية متأرجحا بين سلطة أمه العارمة ورغبات زوجته الملكة أگربين.

أما بريتانيكوس، فقد أحب عشيقته الحسناء، وانساق وراء حياة رومانسية ثملة قوامها الحب الصادق والوئام اليوتوبي الفاضل. لكن الحاكم نيرون أضمر الحقد والحسد والشر لمنافسه بريتانيكوس، لما علم بنجاحه العسكري وسعادته الكبرى في الحب مع أجمل فتاة في روما. لذا، قرر نيرون أن يتفرد بعشيقة غريمه الجميلة لكي يتزوجها لتكون ملكا له وحده، مع إصراره على التضحية بحب أگريبن الوفية، والتخلص من أمه عن طريق أسرها في السجن. وهكذا، سيساعد نرسيس الخبيث الحاكم نيرون على تدبير مكيدة لعينة لإزالة بريتانيكوس من طريق نيرون لتحقيق نواياه وآماله البغيضة. ولكن لن يصفو الجو لنيرون وتخلو له حسناء بريتانيكوس إلا بقتله عن طريق السم. وفعلا، نجحت المكيدة المدبرة، فقتل بريتانيكوس سما، وفرح نيرون لذلك فرحا شديدا. بيد أن نيرون الشرير الحاقد لم يعلم بأنه خسر إلى الأبد قلب أگريبين، وقلب معشوقة بريتانيكوس، وقلب أمه الحنون، فبقي نيرون في آخر مشهد مسرحي وحيدا في قصره يجتر ويلات الندم والحزن وفظاعة مااقترفه من ظلم في حق القلوب الثلاثة.

ومن هنا، نستخلص من مغزى العرض أن نيرون يحاول شراء الحب عن طريق السلطة والجبروت، بيد أنه فشل في ذلك فشلا ذريعا؛ لأن العواطف الإنسانية لا يمكن شراؤها بالمال أو السلطة أو بالقوة. وهكذا، انتصرت إرادة الحب والعاطفة على إرادة القوة والبطش والسلطة المستبدة.

وتنتهي المسرحية المعروضة بإيقاع تراجيدي رائع على انسياب الموت الجنائزي وآثار نظرية التطهير الأرسطية لتوقع الراصد في نوع من الخوف والرهبة وجلل الموقف المأساوي.

وعلى أي، فقد استطاع العرض أن يقدم تجربة تاريخية إنسانية حية بالتعامل مع شخصيات تاريخية مذكورة عند المؤرخ والشاعر الروماني " تاسيت"، وعند المسرحي الفرنسي الكبير راسين بشكل فرجوي مأساوي رائع.

2/ المعطيات الفنية والجمالية:

قسم المخرج القدير محمد بوغلاد خشبة الركح تقسيما جيدا، فوضع كرسي العرش في وسط الخشبة، وبالضبط في وسط المثلث الدرامي، باعتبار أن كرسي العرش هو العنصر السينوغرافي الأساس في هذه المسرحية. وجعل الشخصيات الدرامية الرئيسة تتحرك أمام الجمهور في المنطقة المركزية الوسطى والسفلية في مقابل شخصيات أخرى معارضة أو مساعدة تتحرك في المنطقتين المركزية أو السفلية يمينا ويسارا.

وعندما تنتهي بعض المشاهد، تنتقل بعض الشخصيات الرئيسة بين فسحة الصالة تكسيرا للجدار الرابع، وتغييرا لأمكنة التواصل والتحرك. بينما هناك شخصيات خادمة للملك كانت طوال المسرحية بمحاذاة العرش يمينا ويسرة. أما فضاء الكرسي، فكان يتقاسمه كل من نيرون وأگريبين، ويقابله أماميا فضاء الخشبة السفلي المركزي الذي كان فضاء للعشق الرومانسي والسعادة المثالية التي كانت تجمع شمل كل من بريتانيكوس ومعشوقته الجميلة.

وإذا انتقلنا إلى السينوغرافيا المشهدية، فإننا نشيد بقدرات عبد الله مويت، الذي استطاع أن يبدع سينوغرافيا تاريخية تذكرنا بأصالة العمل المعروض ومعايشته للفترة التاريخية المرصودة عن طريق بناء أعمدة رومانية واختيار كرسي عرش روماني يحيلنا على عمل المخرج الألماني ساكس ميننجين الذي قدم مسرحية " يوليوس قيصر" اعتمادا على الخلفية التاريخية، والصدق الفني، والمعايشة الحقيقية لأحداث التاريخ بدون زيف أو تمويه. وتتسم هذه السينوغرافيا الرائعة بخاصية التفكيك والتركيب والتحول إلى تركيبات فضائية أخرى علاوة على الخاصية الوظيفية في الاستعمال وخدمة السياق الدرامي التراجيدي.

وتعبر الملابس بصدق حقيقي عن الفترة الرومانية، وتنقل لنا الأحداث التاريخية بحيوية درامية، وترصد لنا أيضا مقومات الحضارة الرومانية وثقافتها المعمارية وعاداتها وتقاليدها رصدا مشابها صادقا، فحتى الموسيقا كانت وظيفية بطابعها الروماني والسامفوني والتراجيدي.

وقد استطاع المخرج أن يغير بعض أجواء هذه المسرحية التاريخية لينقلنا إلى أجواء معاصرة عن طريق توظيف الموسيقا والأغاني المغربية الأصيلة لخلق جدلية الماضي والحاضر على غرار راسين في تعامله مع أحداث نيرون لدى الشاعر والمؤرخ الروماني تاسيت.

وقد ساهمت السينوغرافيا الموسيقية والمؤثرات الضوئية في خلق أجواء تراجيدية مثيرة، واستطاعت أن تمتع الجمهور الحاضر بتدفقات الألحان النابضة بالحياة والموت، وأن تؤثر في الراصدين بالتغيرات الضوئية الأفقية والعمودية والأرضية والعلوية، والتي كانت تنقل المتفرجين من حالة البياض إلى حالة الاحمرار، ومن حالة الاخضرار إلى حالة السواد، ومن حالة التعبير والثورة الدرامية إلى حالة الصمت والموت التراجيدي.

ولكن ما يميز هذه المسرحية الرائعة إلى جانب جودة السينوغرافيا والإخراج والإضاءة والموسيقا، هيمنة الخطاب الكوليغرافي والاستعراض البصري الراقص. ومن هنا، فالسينوغرافيا لم تكن سينوغرافيا فضائية فقط، بل كانت سينوغرافيا كوليغرافية قائمة على البيوميكانيك أوالروبوتيك الذي يحيل على تراجيدية الموقف، ونثرية الصراع البشري، ومأساوية الأحداث التاريخية، وانبطاح الإنسان أمام الغرائز الشبقية وأهواء الحب والعواطف الإنسانية ومكر السلطة.

وهذه النظرية الإخراجية البيوميكانيكية التي وظفها محمد بوغلاد معروفة لدى المخرج الروسي مايير خولد، والمخرج البولندي گروتوفسكي الذي كان يوظفها في إطار مسرحه الفقير ضمن الشكل الحركي الآسيوي.

أما الممثلون فقد كانوا في مستوى رفيع فوق خشبة الركح، فقد استطاعوا أن يشخصوا المسرحية تشخيصا جيدا بشكل متناسق ووظيفي. ومن هؤلاء الممثلين، نذكر مخلص بودشر، وأحمد السبيع، ونرجس الحلاق، وعبد المغيث المرابط، ومحمد حسون، ويامينة المرابطي.

خاتمــة:

وعليه، فمسرحية " بريتانيكوس" التي قدمتها جماعة مسرح المدينة الصغيرة بشفشاون بالمركب الثقافي بمدينة الناظور نموذج مسرحي ناجح بكل المقاييس؛ وذلك راجع إلى جودة الإخراج وروعة السينوغرافيا التاريخية، وهيمنة الكوليغرافيا البيوميكانيكية والحركات الروبوتية، وقدرة الممثلين الفائقة على التشخيص وتمثيل المواقف التاريخية السياسية والعاطفية بشكل مقنع وصادق. كما نجحت المسرحية على مستوى التقنيات الضوئية والمؤثرات الصوتية والموسيقية، وعلى مستوى اختيار الملابس الملائمة للفترة التاريخية، وعلى مستوى انتقاء الماكياج المناسب الذي يعبر عن كل الحالات الدرامية للشخصيات في أتراحها وأفراحها، وسعادتها وشقائها.

وفي الأخير، نقول إن مسرحية " بريتانيكوس" مسرحية تراجيدية ناجحة بكل المقاييس، تصور صراع الحب والسلطة في ثوب إخراجي كوليغرافي بيوميكانيكي على أرضية ركحية منمقة بسينوغرافيا رومانية تاريخية.

 [1]


[1- الدكتور حمادة إبراهيم: بانوراما المسرح الفرنسي، الكلاسيكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، طبعة 1998م، ص:83؛


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى