الأحد ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم أكرم سلمان حسن

العم أبو إبراهيم

صباح اليوم كنت في مكتبي، غارقاً في أوراقي، عندما قرع الباب قرعة استئذان، ودهشت لرؤية صديقي، حسين عبد الغفور، يقف أمامي، أما مبعث الدهشة فهو أنه لم يكن قد مر سوى ساعات على نهاية سهرة جمعتنا .رحبت به ودخل أو بالأحرى دخل شبيه له، لأن شيئاً ما كان ينقص فيه ..أو يزيد .. كان يبدو مرهقاً متوتراً.

أراد الكلام لكن العينين سبقتا اللسان، دمعتان.. كانتا هناك ترقرقان، حاول جاهداً إبقاءهما مقيدتين لكن هيهات فالدمعة عندما تقرر الانعتاق من أسر المقلة .. تفعل، ولو شيد في طريقها سد من الخرسانة .. تدحرجت دمعتان جميلتان على الخد النضر بسرعة متقاربة، تتقدم إحداهما الأخرى كأنهما في سباق، بعد أن تحررتا من عبودية العين وحبال المشاعر.

بدأ الحديث بصوت خلته غريباً على مسمعي، صوت فقد إيقاعه المسالم الناعم وحل مكانة صوت أقرب إلى الحشرجة، قال: << العم جليل>> ثم

صمت .. صمته، أحضر إلى ذاكرتي صورة قبر!!.

عندها تذكرت حديثه المتكرر عن عمه جليل، المكنى بأبي ابراهيم، رغم أنه لم يتزوج قط !، وكيف وصله اتصال هاتفي من جيران العم في لبنان، يعلمه أن العم يشكو مرضاً وخوفاً من الموت وحيداً، ويطلب المساعدة، لم يتردد بدعوته، حينها، رفعت أم محمد حاجبيها ببعض الدهشة والكثير من الاعتراض، متسائلة بيديها! أين ينام العم؟! فالبيت يحتوي غرفتي نوم فقط، واحدة للصغيرتين و الأخرى لهما..؟ هون عليها الأمر مغرياً إياها بالحسنات التي ستكتب لهما، مقترحاً أن تكون الأريكة في الصالون هي الحل، وفي النهار يحلها الحلال .. وافقته أخيراً، فبعد كل شيء هي إنسانة مؤمنة، طيبة، لذا أبدت للعم عند حضوره الترحيب المناسب، وأكرمته كما زوجها، مائدة الإفطار والتي غالباً كانت تقتصر على الزيتون والصعتر، تستضيف يومياً أصنافاً ما كانت تحط عليها إلا مرة كلما هل هلال.

أحاطه بعناية فائقة، جال به على أفضل الأطباء.. حتى انه أخذه إلى مطعم فاخر كان قد دخله مدعواً !! منذ سنين. وبعد مضي أسابيع، أصبح بأحسن حال، يسبق ابن أخيه حينما يمشيان قاصدان مكاناَ ما.. سر به أبو محمد، كيف لا.. وهو الآتي من الماضي الجميل، حاملاً العبق المعتق، ودغدغت مشاعره فكرة أن جزءاً من أبيه.. بلحمه و دمه.. يقيم معه.

تابع حسين حشرجته قائلاً:

عدت البارحة إلى المنزل وكان أبو ابراهيم كالعادة في الصالون يحتل مكانه على الأريكة، تجاذبنا أطراف الحديث قليلاً.. بعدها تركته إلى فراشي. للمرة الثانية يسود صمت مأتميٌ. ثم أضاف:

أفقت قبيل الفجر عطشاً، عبرت الممر الفاصل بين جناح النوم و الصالون، قاصداً المطبخ، أسير على أطراف الأصابع خوفاً من إيقاظ العجوز، عندما اقتربت، سمعت أنيناً مكتوماً. بجزع، نظرت إلى يميني لتبين الأمر، مستعيناً بضوء مصباح المطبخ الساقط على الأريكة.

صمت أبو محمد لبرهة، وبدأ خيالي بالعمل.. <<مسكين.. لا بد أن العجوز أصابه خطب ما، يا لصبره.. يتألم بصمت كي لا يزعج أحد.. الآن فهمت سبب حزن حسين الشديد>>، فقد تذكرت قوله، أنه ينتشي فرحاً لفكرة أن المرحوم هناك في السماء.. يبتسم، مقدراً له إكرام شقيقه. وأن وجود العم، يعيده إليه ذكريات الطفولة، حين حط العم رحاله يوما في منزلهم، وافتتح له المرحوم مشغلاً يرتزق منه، كان حسين يحضر له الغداء يومياً، يتلقى المنحة، عشرة قروش كاملة، ويركض إلى أقرب بائع حلوى، إلا أن سعادته لم تدم، لأن العم، لم يطب له العيش في مدينة صغيرة، فغادر مثلما أتى.. فجأة.. كحلم.

<<كنت قد جالست العم في منزل حسين أكثر من مرة، وفعلاً كان رغم سنه مرحاً.. شيق الحديث.. في الحقيقة.. حسدته على ذاكرته المذهلة و حضوره>>.

تابع أبو محمد واصفاً ما رآه.. ببطء.. كمشهد سينمائي.

ويا للهول.. يا لفجيعته.. عندما وقعت عيناه على أبي ابراهيم عارياً، إلا من قميص داخلي قصير.. عارياً من وقاره.. من كرامته.. من كل قيمة أخلاقية. كان هناك يتلوى و يفح كثعبان.. يلهو مع ثعبان.. كانا ثعبانين مقرفين!!..

هناك بسنيه كلها، منتهكاً حرمة البيت الذي منعه الشارع.. منتهكاً قرابة الدم واللحم، وحتى العظم.

الجسد الذي كان يراه أثناء العناية به أيام المرض، أبيضاً ناعماً وردي اللون، رآه مغطى بحراشف، كما سمكة حفش نسيها صياد يوماً على صخرة قرب الشاطئ، تحت شمس حارقة.

تقيأ حسين.. تقيأ ما في جوفه، وتقيأ العم، وكل ما بقي من ذكريات وحنين للماضي، وتقيأ طيبة قلبه.. وقسم من طفولته.

رفع يده عالياً، مكوراً القبضة وأسقطها بقوة.. قوة الرغبة في تحطيم رأس الثعبان.. كمطرقة هوت نحو الرأس، لكن اليد الممدودة.. في أخر لحظة، تمردت على أمر جملته العصبية.. فسقطت في باطن يده اليسرى.. فهو لم يكن عنيفاً في يوم من الأيام.. لم تتعود يده على اللكم والتحطيم.. بل عشقت التربيت على الظهر ومسح الرأس.

بهدوء مجنون!! فتح حسين بوابة المنزل.. وأمره بالمغادرة.

عندما أنهى حسين قصته، نهض بصعوبة، ومشى باتجاه باب المكتب، هناك استدار.. نظر في عيني، ثم نطق جملته الأخيرة :

<<تخيل.. لو أن إحدى الصغيرات هي التي أصابها العطش؟!!!>>.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى