الثلاثاء ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم علي عبد اللطيف

مصر في قصص محمود البدوي ـ القسم الثالث

القـاهرة:

اشتـعلت نيران الحـرب بين الألمـان والإنجليز ، ودوت صفارة الانذار ، وخافت النساء واضطربن وتجمـعن فى الأدوار السفلى من البيوت ، وأسرع الرجـال من الطرقـات إلى مداخـل المساكن وإلى المخابىء ، وسمع أزيز الطائرات وقصف المدافع المضـادة ، وصوت القنابل القريبة وهى تدوى بفظاعة وعنف ، وكلما أرعد الجو وأبرق ، صاحت النســاء وهـن يطرن فزعا .

ودارت المعـارك على أشـدها فى الصـحراء الغربية ، وتطورت الأحوال بسرعة ، والإنجليز وحلفاؤهم يتراجعون ويفرون أمام ضربات روميل القاصمة وهو يزحف فى الصحراء

كانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم ، وكانوا يولون الدبر فى كل ميدان
وأخذ العساكر الإنجليز يتكاثرون فى قلب العاصمة ، وامتلأت بجيوش الانجليز وحلفائهم ، منها يذهبون إلى الميدان وإليها يعودون
وكانوا منكسرين على طول الجبهة ويغطون انكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ، وكانوا يسمعون المصريين يهتفون "تقدم يا روميل" فيزداد غيظهم وسعارهم

وأخذوا يمرحون فى القاهرة ويسكرون فى حاناتها ، ويملأون الدنيا صياحا ويغنون بالانجليزية فى صخب أغان بشعة ، ويخرجون من الحانات ويمشون فى جماعـات ويدورون سكارى صاخبين معربدين ويحتكون بالمارة المسالمين ويشتـبكون معهم فى عراك دموى ، ويكثر وجودهم فى العتـبة وفى شارع كلـوت بك حيث ظلام الحرب والمواخـير والحشـد المتدفق من الجمهور .

وكان السكارى من جنود الحلفاء يعترضون طريق المواطنين ويخطفون طرابيشهم ، فابتعدوا عنهم وعن طريقهم وعن الأماكن التى يسهرون فيها .

وكانت النساء يسرعن عائدات إلى بيوتهن قبل الغروب وقبل الظلام ، وكن يرتجفن من الخوف كلما شاهدن أحدهم مقبلا عليهن من بعيد .
وانقلبت السينمات ، انقلبت فى الظلام إلى مواخير بسبب الحرب وبسبب جنود الحلفاء .

وذهب العمال ليعملوا فى الجيش البريطانى لزيادة أجورهم والكل يجرى وراء الفلوس .

وطـالت الحـرب واستولى اليأس على النفوس ، وسئم الناس من كل شىء ، وخيم الظلام وطال الفقر والجـوع ونقمة المواطنين على التموين ، وكان الخبز يختفى ثم يظهر أسود كالطين ، ومع ذلك كان الناس يأكلون ، ولم يكن المصريون قد اشتركوا فى الحرب أو كان لهم بها شأن ولكنهم اكتووا بنارها ، وسقطت عليهم القنابل ، وجاعوا وتعذبوا بسببها .

وأفسدت الحرب كل شىء ، فقد تجد عربة وعربتين وثلاث عربات واقفات فى الميدان ساعة وأكثر من ساعة وهى محملة بالركاب ولا تتحرك منها واحدة ، وسائقى التاكسيات كانوا يسرعون فى الليل إلى الملاهى لانتظار جنود الحلفاء ولا يستمعون لنداء المواطنين .

وفى محطة القاهرة يدخل الجنود الإنجليز فى فصائل إلى الرصيف ، وكانت المحطة تعج بالجنود الهابطين من القطارات والصــاعدين إليها بأحمالهم وبنادقهم على أكتافهم ، وأثر الهزيمة باد على وجوههم ، والناس يتخاطفون الصحف والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد .

وفى المحطات كان القطار يجىء متأخرا عن ميعاده ساعة وأكثر من ساعة ، مزدحما بالركاب وكئيبا ، وعرباته قذرة ولم تكن فيه إضاءة والمصابيح كلها مرفوعة من سقف العربات ، وإن وجدت ، فالإضاءة ضعيفة والمصابيح مطلية باللون الأزرق .

وبعد مغادرته المحطة ، يتوقف ، ويطول الوقوف ، فإذا سألت عن السبب ، يقولون غارة .. رغم أن الركاب لم يسمعوا صفارة الانذار ، أو صوت طائرة . وفجأة يلمع شىء فى السماء كالشهب ، وتتأجج النيران لمدة خمس دقائق ، ويخيل للركاب أن الجحيم قد أحاطتهم باللهب .
وكان شارع القصر العينى يزخر طول الليل بحركة السيــارات الكبيرة المحملة بالجنود الذاهبة إلى الميدان والعائدة منه ، وكان رتل السيارات لا ينقطع فى هذا الظلام الشديد لحظة واحدة .

وكانت السيارات تنطلق فى سرعة فائقة ، ولهذا كان السائر فى هذا الشارع يسير حذرا خائفا متوجسا من الظلام ومن السـيارات ومن الجنود انفسهم .

وقوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصـحراء تعبر كوبرى "أبو العلا" تقودها النساء الجميلات فى ملابس الحرب .
وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك .

وكان "النوتية" يسرقون حاجات السلطة من "الصنادل" ويبيعونها بأرخص الأسعار والذين يشترون منهم هذه الاشياء يبيعونها لأهل القرى ويكسبون كثيرا .

ومن الناس من كان يتاجر فى مخلفـات الحـرب ، فكان عساكر الانجليز يأتون اليهم باللوريات محملة بالبطاطين والمأكولات المحفوظة، والمعاطف والملابس ، فكانوا يشترونها منهم ببضعة جنيهات ويبيعونها بالألوف ، وكونوا ثروات ضخمة .

ومن الناس من كان يبيع الماء الملون لأصحاب الحوانيت على اعتبار أنه ويسكى اسكتلندى ويبيعه بالصناديق ، المغلفه المختومة .

وكان نساء الإفرنج يستقبلن العساكر الإنجليز والأمريكان على ابواب المعسكرات ويذهبن معهم إلى السينما وإلى البنسيونات ويقضين معهم ساعات من الليل وهن لا يجدن فى الخيانة الزوجية أى بأس .
وكان فى مواجهة الراوى منـزل قد اتخذ مسكنا "للمجندات" وكان يرى هـؤلاء الفتـيات وهن رائحـات وغاديات فى حجرات البيـت وردهاته ، ويشاهدهن وهن جالسـات يدخـن السجـاير ، ويشربن البراندى ، ويراهن يخلعن ملابس المجندات استعدادا للنوم ، ويرتدينها فى الصـباح ، ويقـمن بالحركات الرياضـية "السـويدية" ويشاهدهن فى احزان الوحدة ، أو عندما يعدن من سهرة صاخبة ، وكان منظرهن يثير أعصابه وهو يراهن من نافذة غرفته ، كاشفات عن كل المفاتن.

الرؤية الفلسفية:

مشاهدات الراوى لأحداث رآها :

رأى وهو يعبر ميدان مصطفى كامل ، فتاة مصرية يبدو عليها الجمال والفقر واقفة مع شاب قصير يرتدى جلبابا وعلى رأسه طاقية ، وكان يحادثها بصوت خافت ثم رآه يركبها "تاكسى" مع ثلاثة من العساكر الإنجليز

ورأى فى شارع قصر النيل فتاة مصرية جميلة جمالا نادرا ووقف بجوارها شاب مصرى يرتدى الجلباب وأخذ يهمس فى أذنها فوقفت فى مكانها كأنها تفكر وبعد لحظات شاهدها تركب التاكسى مع عسكرى انجليزى . فانتفض لأنه رأى مثل هذا المنظر من قبل ونسيه.
وفى السيـنما شاهـد فى الصفوف التى أمامه عسكريا من عساكر الانجليز يعانق فتاة بجواره بحرارة وقد ترك الشاشة وانصرف للفتاة .
وقرن الراوى هذه المنـاظر المؤلمة بحـالة عامة ، وهى أن الحـرب تأكل الفقراء من النـاس وعليهم يقع عبؤها الأكبر ، وكل شىء يجرى فى عجلة الحرب ودوامتها .

وعلى الجانب الآخر فإن بعض النفوس لاتزال حية ، وتناضل ببسالة . يقول الراوى فى قصة "الشعلة":

"لم تكن حانة منيرفا بالمكان الذى تجلس فيه النساء ، ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها ، أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم …… وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنهـا مسرح قديم ، كانت ترتفـع عن أرض الحانة بثلاث درجات .....

دخلت سيـدة شابة وجلست إلى مـائدة صغيرة ، وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشـعرت بالأسى لأنها اختـارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من بار . وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة . وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل .

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلى قليلا فتأكدت من هذه النظرة انها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام .

ولكنى استرحت لأن المكان كان لايدخله عساكر من الإنجليز .. ولما أعتطنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه..؟
ـ نو..
قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد على جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة:

ـ اعطنى .. شلنا ..
ـ ليس معى نقود ..
قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة ، ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب .

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..
وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..
وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام .

وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله .
وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..
وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعه .. وتنظر إليه فى رقة :
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..

وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..
ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .
وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .

وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا . وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هناك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلى أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلى ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :

ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى ..؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .
ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .
وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف كل أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت .

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .
وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن اسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشؤومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة .."

وفى قصة "صراع مع الشر" يقول الراوى :

"كانت الحرب دائرة بين الألمان والإنجليز فى الصحراء الغربية .. وكان الإنجليز وحلفاؤهم يفرون مذعورين كالجرزان أمام ضربات روميل القاصمة .
وأخذوا يحرقون أوراقهم فى القاهرة ويعدون العدة لنسف الكبارى والمنشآت العامة وتدمير المدن المصرية على أهلها الوادعين . كانوا ينسحبون انسحابا عاما .. ويعودون من الميدان شاعرين بمرارة الهزيمة ، فيرتكبون فى العاصمة ابشع الجرائم .

وكانوا وهم يتراجعون فى ذعر يرسلون قوافلهم عـبر الصـحراء تحمل ما تبقى لهم من الرجال والعتاد .

وخرجت سيارة من هذه السيارات من معسكر العباسية متجهة إلى الميدان وكان بها خمسة من الإنجليز وسائق العربة ، وكانت قد مرت من النفق وهى تمضى سريعا ، فلما صعدت المنحدر واستوت فى أول شارع الهرم تمهلت قليلا .

وكانت توحيـدة ورفيقتها انشراح عـائدتين الى البيت .. وكانتا تسرعان قبل الغروب وقبل ظلام الحرب .

مرت بجانبهما السيارة وبعد أن تجاوزتهما قليلا توقفت فجأة ونزل منها جندى بريطانى فى قفزة سريعة وأمسك بتوحيدة .. وهربت رفيقتها مذعورة بين المزارع وهى تولول وتصيح بأعلى صوتها .

وتجمع الناس فى الشارع ، ولكن الجنود الانجليز كانوا قد حملوا توحيدة إلى السيارة وانطلقوا بها فى سرعة المجنون .

ونظر الناس بعضهم إلى بعض وكانوا يعلمون أنه ليست هناك قوة يمكن أن تحميهم من هذا العدوان المسلح ، أو تجعلهم يقابلونه بمثله .. فاصفرت وجوههم .

أما إنشراح فقد جرت إلى منـزل توحيدة وأخبرت زوجها بما حدث فخرج يعدو كالمجنون إلى شارع الهرم .. وهناك طالعه الظلام والسكون فلم يكن هناك أثر لسيارة أو ظلها فوقف يدير عينيه حائرا كالمخبول .. ثم انطلق فى عرض الشارع وقد شرد ذهنه وشلته الفاجعة المباغته عن أى عمل .. وعندما اقترب من النفق رأى جماعة يقفون على واجهة حانوت بقال ويقصون الحادث .. فنظر اليهم فى غيظ وقال لنفسه :
ـ هذا ما تصلحون له ايها الجبناء .. تتجمعون وتتحدثون كالنساء
وكان قد فكر فى أن يذهب إلى مركز البوليس .. ثم عدل عن هذه الفكرة وهو يقول لنفسه :
ـ وما الذى سيفعله لى البوليس ..؟
لاشىء..
وارتد عائدا إلى منـزله .. واستلقى بكامل ملابسه على السـرير دون أن يشعل النور .. وقد رأى أن يترك البيت كله فى الظلام حتى لا يزعجه المتطفلون والمواسون باسئلتهم السخيفة .. فيزيدونه تعاسة على تعاسته ..

وقبل منتصف الليل سمع الباب الخارجى يفتح .. ولم يتحرك من مكانه ولم يبادلها كلمة ..

وكانت قد اشعـلت نور الردهـة ثم ارتمت على كنبـة ملاصقة للباب . ولو لم تكن الكنبة فى مكانها لارتمت على الأرض ، فقد كانت فى حالة من الإعياء التام .. وكان وجهها مصفرا وشعرها منفوشا وملابســها ممزقة فى أكثر من موضع من جسمها .

وكان من يراها وهى متكورة على الكنبة وقد دفنت رأسها فى الوسادة وقوست ظهرها ووضعت ساقيها تحت فخذيها وتركت ضفائر شعرها محلولة تغطى عنقها وتمتد إلى ظهرها يتصور انها ضربت عارية بالسياط حتى أدمت وحتى تقطعت أنفاسها .....

وبقيت فى مكانها الى الصباح .. ومع خيوط الشـمس تحركت ودخلت غرفته .. وكان لايزال على حاله منطرحا بكامل ملابسه على السرير ..... وكان وجهه محتنقا وعيناه حمراوين فى لون الدم .. والدم ينفر من عروق جبهته ، وسحنته سحنة ذئب أغبر حيل بينه وبين فريسته .....

وأغمض عينيه حتى لايراها .. ورأت وجهه يتقلص على صدره .. وغيرت ملابسها الممزقه وخرجت ..... وانتابتها نوبة صرع .. وأخذت تنشج وتتمتم بكلام لا معنى له .. كانت تود أن تقول له أن أحدا لم يمسها وانها قاومتهم وأعملت فيهم أظافرها وأسنانها ولما يئسوا منها ألقوها فى العراء ..

كانت تود أن تقول له هذا .. ولكنها لم تستطع ..
ولم يدر بماذا تتمتم .. ولم يسمع شيئا .. كانت نار مشتعلة فى جسمه .. وكان لهب أحمر يشتعل هناك فى رأسه .. وثورة عاتية قد اجتاحته ..

كان لايفكر فيها .. ولا يحس بوجودها ، وانما يفكر فى هؤلاء الأنذال الذين دنسوا شرفه ويتصور ما حدث على بشاعته .. يتصورهم وهم يضعون أيديهم الدنسة على جسمها ويقضقض ويصر بأسنانه من الغيظ ويود أن يحطم كل ما حوله تحطيما .....

وفى الليلة التالية خرج سعيد فى فحمة الليل .. وكمن فى طريق السيارات الإنجليزية الذاهبة إلى الميدان ، ورأى سيارة تخفف من سرعتها ورأى على ظهرها ثلاثة أو أربعة جنود ، واقترب كالثعلب حتى احتمى فى جذع شجرة وأطلق الرصاص وسمع صرخة مفزعة .. ثم أخذ يعدو بكل قوته .. وكانت النيران الحامية تطلق فى أثره ....."

ويحكى الراوى قصة جندى فى حرب 1956 اقترب سنه من الاربعين وأعجب لحماسته ولهفته على القتال لأنه يريد أن يكون أول رجل يلقاهم وأول من يطلق عليـهم النـار ، لأنه يرفض أن يجيـئوا مرة اخـرى وينتهكون الأعراض ويقتلون الأطفال ويحجبون النور عن الأرض ، ويقلبون المدينة البـاسلة إلى مواخـير . ويقول الجنـدى للراوى وهو يحكى عن زوجته : "كانت وديعة وجميلة .. لم يكن فى النساء من هو أجمل وأنضر منها .. وكنت أقيم معها فى شقة صغيرة من دور أرضى على طريق السيارات فى قلب القاهرة . وكان الانجليز وحلفاؤهم يخرجون من الحانات ويدورون فى هذه المنطقة سكارى معربدين .. وكانت الحرب بينهم وبين الألمان على أشدها .. وكانوا فى تلك اللحظة منهزمين .. ويفرون مذعـورين الى القاهرة يســـكرون ويروعون السكان الوادعين .. وكنا نعرف ندالتهم ولا نخرج من البيوت بعد الغروب . وشاء القدر أن يلمحوا زوجتى ذات ليلة من النافذة .. وكانت وحدها .. فوثب ثلاثة منهم إلى الشــقة .. وكانوا يتصورون أنها سترضى .. ولما قاومتهم مزقوا جسدها .. وولوا هاربين فى الظلام.."

وفى قصة "البرج" يحكى الراوى قصـة ساكن فى الدور الأرضى فى عمارة بالإسكندرية يعيش وحيدا ولا يراه إلا لماما ويقول الناس إن زوجته هجرته لما اشتعلت الحرب ، واشتغلت راقصة فى القـاهرة وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته .

"وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره ، قويا طويل العود ، ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقـله فأصابته لوثة من كثرةكلام الناس عن زوجته وتقريعهم ، وكان الصبـيان يتضاحكون عليه ، فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ، وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى البيت إلا اذا خيم الظلام .

وتقول نهاية القصة "وقبـل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء . ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع ، وعساكر من البوليس المصرى والبوليس الحربى الإنجليزى ، وعلـمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ..... وكان الهمس يدور بأن "سليم" الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله ، وهرب سليم ، لم يعثروا له على أثر".

وكل شىء يتغير فى زمن الحرب ، والحضـارة تتحطم والقيم الأخلاقية تنهار . وقد أورد الراوى وحكى عن:
صاحب فندق أجنبى كان بارع الحيـلة فى الحصول على المال بكل الوسائل ، وكان فنـدقه فى فترة الحرب ماخورا لجنود الحلفاء ، وكان يود أن تظل الحرب دائرة إلى أبد الآبدين بصرف النظر عن ضحاياهاومآسيها وويلاتها.

وعلى العكس من ذلك فإنا نجد العزاء والسـلوى فى بعض النفوس الحية التى لم تغير طريقتها فى الحياة ، ولو ساروا مع عجلة الحرب وانغمسوا فى دوامتها لعاد عليهم المال من غير حساب:
كالرجل اليونانى صاحب حانة فى شارع شريف ، عندما جاءت الحـرب بأعاصيرها وقاذوراتها وقـف فى وجهها ، فلم يبع الخمر المغشوشة ، ولم يسرق ، ولم يقدم رشوة لأحد ، ولم يسمح لجندى واحد من جنود الحـلفاء بأن يدخـل البار ، كتب بالخط العريض "ممنــوع" وقد حرمته هذه اللافتة من كل الميزات وكل الخيرات ، ولكنه كان راضيا وسعيدا.

وصاحب حانة آخر لم يكن يبيع الخمور المغشوشة أو يقدم الماء الملون بدل الويسكى أو يفعل أى شىء ضد الحلفاء ، ومع ذلك اعتقل واغلق البار ، لأنه متجنس بالجنسية الإيطالية .

وصاحب محل حقائب فى شارع إبراهيم ، كان لايغالى فى الأسعار رغم ظروف الحرب وبضاعته جيدة واعتقل لأنه ايطالى.
وتحمل الناس الظلام والغارات والجوع ، لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم ، آتية لا ريب فيها ، ولذلك كانوا يصفقون للألمان ، لا حبا فيهم ، ولكن ليخلصوهم من الانجليز .

وفزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة ، وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى احضان الانجليز يعدون العدة للهرب الى السودان.

وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب أصبحت على خطوات من القاهرة .

وخيم الهدوء على جبهة القتال فى العلمين وتوقفت الحرب وعاد الناس الذين ذهبوا إلى الريف أثناء القتال إلى بيوتهم .
ويقول الراوى فى قصة "المهاجر" :

"فى الحرب العالمية الثانية كنت صغيرا وأسكن فى شقة صغيرة فى المنيل قريبة من النيل .. وقريبة أيضا من السماء ، وكنت أرى منها مآذن القلعة ومساجد القاهرة وقبابها وأبراج الكنائس .. كلها مضاءة وشامخة وصامدة فى وجه العدو . وكانت الطائرات تروح وتجىء وتلقى قنابلها .. ولكن المساجد والكنائس والقباب ظلت شامخة وصامدة ولم يصبها السوء قط".

وفى قصة "الورقة" عندما دوت صفارة الانذار ، وكان الراوى قريبا من ورشة تجليد فى بدروم ، أسرع إلى هناك فى الظلام ، ودار حوار بينه وبين صاحب الورشة:

ـ إن الحرب جعلتنى أفكر فى الكتب .. وفى صنعتى .. فمنذ ستين سنة وأنا أقلب الكتب فى يدى وألمسها برفق وأسويها وأمسح عليها بحنان .. حتى أصبحت قطعة من لحمى .. إننى أرى بين سطورها النور الذى يبدد كل ظلام يعم البشرية ، ولكنها لم تستطع فى وقت ما أن تمنع الحروب .. وهذا يحزننى .

ـ لأن الحـرب ظاهرة طبيعـية .. لابد أن تقع كما تقع الزلازل والبراكين .. لابد أن تقع ما دام الإنسان موجودا على الأرض .."

القـاهرة:

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى