الجمعة ٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم أمينة شرادي

الطريق المعبد

أخذت الطريق المعبد المؤدي إلى مكان العمل. إنه طريق طويل بعض الشيء عن الاتجاه الآخر الذي كنت أسلكه عادة. ويسلكه أغلب العاملين معي خاصة الذين يسكنون قريبا من مسكني. كنت قد قررت منذ البارحة أن أغير اتجاه طريقي لأقضي على الروتين الذي استوطنني منذ مدة. أٌقول منذ بدأت العمل بهذه المؤسسة.. يوم ولوجي إليها، أخذت مكتبي بين الموظفين الآخرين، وكان أغلبهم تجاوز سن الأربعين وبدت عليهم علامات الكبر والترهل لا في الحديث ولا في العمل حتى مشيتهم تراجعت ولم يعد لها أي لون. قلت لنفسي" يستحيل أن أتحول إلى شبح يقضي وقته مسجونا بين هذه الكراسي والحيطان.

" كم ضحكت على أحلامي في هذا الصباح خاصة بعدما أدركت أنني تجاوزت السنوات العشر وأنا أعمل بهذه المؤسسة. "لقد هزمني الزمن. "أكملت طريقي علني أجد شيئا جديدا لم تألفه عيني من قبل. هناك أجساد تتمايل يمنة ويسرة، وعيون بلهاء تحدق في الفراغ أو ترى أشياء أمامها. صور مألوفة لا جديد. كأنني بنفس الشارع الذي ألفته في السابق.

تثاقلت خطواتي وتمنيت أن أظل على هذا المنوال ولا أصل إلى مقر عملي. فجأة، وأنا أتجاوز مجموعة من الأزبال مرمية على حافة الطريق، لفت انتباهي قطيع غنم يحاول راعيه أن يجنبه مخاطر الطريق. فكان في كل مرة يلوح بعصاه في الفضاء ويخرج أصواتا مبهمة لا يفهمها سوى القطيع. وفي الخلف، امرأة مسنة، تجر كبشا مشاكسا من بين القطيع ويساعدها طفل صغير لم يتجاوز بعد سن الطفولة. ملحفة بغطاء أبيض وتضع على رأسها رداء من الصوف ولا ترى سوى عينيها الضيقتين.

وآثار الوشم على جبهتها المليئة بالتجاعيد. تصيح بأعلى صوتها الذي ظل متماسكا لم يتأثر بعوامل الزمن"ادفع... سنصل متأخرين.. "الطفل يدفع ويلهث ويسقط ويقوم ويعاود نفس العملية. وهي تصيح وتجر كبشها المشاكس"أسرع.. سنجد السوق فارغا.. "و صاحب القطيع مسكون بخرافه وباحترام النظام العام خوفا أن يحيد أحدهم عن الجماعة فتكون عاقبته قاسية. وتكررت العملية طيلة الطريق المؤدي إلى السوق. نادت على الراعي طالبة منه أن ينتظرها حتى تدخل معه السوق. لكن صوتها ضاع في الفضاء واختفى الراعي وخرافه وظلت هي عنيدة ترفض الاستسلام قالت"طيب، سأصل بدونك.. " اقتربت منها وطلبت منها أن تستريح بعض الشيء وتريح الطفل.

ابتسمت وأعادت ترتيب لحافها الأبيض وقالت"أين هي الراحة. ليس هناك من راحة سوى راحة القبر". وضحكت وفي نفس الوقت نهرت الطفل وطلبت منه أن يترجل أكثر وإلا سينال علقة ساخنة إن عادت إلى البيت دون أن تبيع الكبش. تبعتها وهي تجر الكبش وتعاند الطريق وأنا أسأل من جديد"ليس هناك في بيتك من يقوم بهذا العمل مكانك؟"لم ترغب في التوقف بل استعملت يديها الاثنتين وأحكمت قبضتها وصاحت"هيه.. هيا تحرك"رمقتني بطرف عين كأنها تستهزئ بي أو تضحك مني. قالت" منذ كنت صبية وأنا أقوم ببيع الخراف في السوق. وأنا أكره أن أبقى دون عمل" قلت لكي أفهم شيئا لا يهمني"و من يكون الراعي الذي لم ينتظرك؟"قالت وهي منحية الرأس "انه ابني. لكنه يرفض أن يسمع كلامي.. "لما وصلنا إلى مفترق الطرق. وأثار انتباهي ردها وطيبة خاطرها. قلت بسرعة دون أن أنتبه إلى الطريق الذي سلكته معها والمؤدي إلى السوق" كل هذا العمر وأنت تقومين بهذه المهمة. ألم تملين؟"قالت للولد الذي يرافقها

"أسرع.. لقد وصلنا.. » التفتت إلي دون أن تجيب وحيتني وهي تحمل بين ضلوعها كل حماس التائهين والمهمشين. صارت تدك الأرض برجليها الصلبتين والابتسامة العريضة الجميلة تمتلك كل محياها. عدت إلى عملي دون أن أدرك كيف وصلت وجدت مكتبي في أحسن حال، لا غبار عليه ولا أوراق تالفة. مضى الوقت بسرعة غير معهودة وعند العودة، أخذت طريقي الذي تعودت عليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى