السبت ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
طفولة مزمنة 2
بقلم ناصر الريماوي

عروق الدالية

مع من تتحدث يا صغيري!؟

سؤال يبعث على الكآبة، لو أن والدي أبقاني يقظاً تلك الليلة... لما تكرر هذا السؤال المبهم، ولأشهر طويلة...

بكيت بحرقة، حين أطبقت على صدري تلك الدهشة الممزوجة بألم خفي، كان ذلك في الصباح التالي، فقد ولجت الباب الخارجي للبيت بنزق كعادتي... فلم أجد المصطبة ولا علب الصفيح المملوءة بالرمل الاحمر ونبات "المدّاد" المتسلقة من حولها، لم تكن الأرجوحة أيضاً، ولا ظل الدالية، نظرت حولي في دهشة... بحثت عن ممرنا الوحيد المرصوف ببلاط أبيض والذي يقودني دوماً لبيت " لارا "... فلم أجده، الفسحة الباقية، كانت ضيقة وفارغة، محاطة بسور مرتفع قليلا، ومرصوفة بالكامل... لكن بلون مستهجن، لم أعرف له إسماً، أخذت أدور حول نفسي، في كل إتجاه، أين ذهبتْ؟ وكيف إختفتْ؟ وحده أبي يعرف، وحده من يستطيع فعل ذلك... لكن لماذا؟ فأنا لم أرتكب ذنباً يستحق هذا العقاب! أحسست برأسي يتدلى على صدري، كان مفزعاً، لم تكن امي قريبة، فأخذت أصرخ بصوت عالٍ وانادي على " لارا" ولما لم يجبني احد... عاودني الإختناق، فبكيتُ بحرقة.

كانت كفيلة بإشاعة مناخ من التعزية، كنت ألفت صوتها يقطرُ ألماً وهي تحدث والدي منفردة، عند المساء: لقد أبكاني هذا الولد صباحاً، عندما لم يجد أحداً... أو حتى شيئاً يلهو به!!

رماني بنظرة قاسية وهو يقول: " هل كان من الضروري أن نبقيك يقظاً حتى الصباح...؟ حدث ما حدث وإنتهى الأمر... عليك أن تألف حياتك الجديدة."

مر اليوم الأول من غير " لارا "، والأرجوحة، ومصطبة الفِناء الخارجي، رجوت أمي قبل النوم... أن يعفو عني والدي. فتناثرتْ على سريري الماً ولم ُتعلِّقْ، طلبت منه الصفح قبل خروجه في اليوم التالي فأشاح عني ولم يمهلني لأكمل... فأنتحبت، ورفضتُ الخروج إلى حيث لا احد...

عناقيد مكتنزة، رايتها من خلال الثقوب التي طرزت اكياس الورق، نثرْتُ بعض حباتها على يدها الصغيرة تحت الدالية، جمعتها لها بعد عناء، لكن لم يأذن لنا احد... هكذا إستدركت " لارا " وهي تلفظها بعيداً بإمتعاض، كذلك فعلت أنا، تبدل طعمها لم يكن حامضاً بهذا القدر ليلة الأمس... ألم أقل لكْ... أنت لم تستأذن أحداً.

كانت ظلالاً معتادة تحت ضوء القمر تحركها نسائم الليل فتهتز عروقها المثقلة بأوراق المساء، كانت هي الاخرى بطعم الحصرم، لكنها ترسم أشكالاً على زجاج النافذة، كانت تتشكل في رحم المخيلة فتبعث على خدر لذيذ يثقل الجفون... فأنام.

كنت منكسراً، لست انسى ما حدث ليلتها من تقريع، في الصباح ناولتني نصف المكعبات البلاستيكية، قالتها بلطف زائد: هي لكْ فلا تحزن، تناوبنا على ركوب دراجة الهواء الوحيدة، كانت تمنحني وقتاً اكبر عندما يحين دوري، فاحببتها... لم نتخطـَ ظلال الدالية، ولا علب الصفيح المموهة بنبتة " المدّاد" المتسلقة.

بعد الظهيرة لم تعد " لارا " لبناء قلعتها، كانت المكعبات لا تكفي... وعدتها بالمزيد حتى نصل بها إلى القمر ذات يوم... لم تذكرني بوعودي السابقة... لكنها قفزت لدراجتها الهوائية، أشارت لي فقررنا المضي حتى ولجنا عتبة المساء بالتناوب.

قبل شعاع القمر ورفيف أغصان الدالية على زجاج النافذة كانت ترمي بأكياس المكعبات اللدنة على سريري، لم تطل بي تلك العقوبة، عرفت هذا من أبي فقد أستبق صيحتي المعتادة في التعبير عن الفرح، محذراً: إياك أن تعبث بثمار الدالية مرة أخرى... هل تفهم؟ ألقى بالدراجة الهوائية بدوره في ركن الغرفة: إفراج... قال معقباً، لم أكتف، قفزت فوق السرير وانا أطالب بإعادة الارجوحة إلى جذع الدالية... لكن أحداً لم يصغِ، فذبت تحت الغطاء خجلا من سعادتي.

كانت حقائب كثيرة تزدحم أمام قلعة "لارا" وكان الليل قد ارخى سدوله باكراً بعد موسم أتى على كل عناقيد الدالية، إنتفضتُ تحت رعشة المساء الباردة بعد أن نفذتْ كل المكعبات ولم نصل لما نريد، قال أبي : هيا تكمل فيما بعد... لم تؤيد مطلبي " لارا " واكتفت بالوقوف واجمة بين والديها، طالعتني بملامح لم اعتد عليها ثم أقتربت مني وقبلتني، الأرجوحة لكِ قال والدي... ثم نظر إلي وقال هيا... نصل عند الفجر... أدركتُ نية مبيته بالذهاب لمكان ما ثم العودة، رجوته ان أظل مستيقظا حتى الوصول، فوافق... أحطتُ ما حولي بنظرة عادية قلت لـ" لارا " أن تنتظر عودتي عند الصباح... لنكمل قلعتنا... لوحتْ لي بيدها... كستها ظلال موسمية غالباً ما تمر بالدالية فلا تترك على أرض الفنِاء سوى أثراً باهتاً لعروق جرداء تنذر بموسم آخر.

غادرنا المكان كلنا،ولم نعد، لم تكن شرفتنا الجديدة لتتسع لجذع دالية أو دراجة هوائية واحدة، كانت قلعةً مفتوحة على السماء أكملتها لوحدي، لم تعانق ضوء القمر ولا لمرة، كانت تتسع لمقعدين صغيرين فقط، واحد لي وآخر "للارا"... حوارات تبدأ مع الصباح ولاتنتهي، فقط تساؤل مبهم كان يتردد في كل مرة :مع من تتحدث يا صغيري؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى