السبت ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
مداخل التغريب
بقلم عمر العسري

في ثقل الفراشة فوق سطح الجرس

تحتل القصة القصيرة بالمغرب وضعا جيدا بالمقارنة مع باقي أشكال التعبير الأدبي، سواء بكثرة الأسماء التي ارتادت هذا الجنس أو بطبيعة النصوص التي قدمتها، على أن ثمة أسماء محددة لا بد للمتلقي من أن يتوقف عندها وينصت إليها بحذر.

وأنيس الرافعي من الأسماء المغربية والعربية الجديرة بالتوقف والإنصات، سواء من منطلق التلقي أو التأويل، المهم هو طبيعة الكتابة وما تفصح عنه من منطلقات رؤيوية وتمظهرات فنية تكشف عن سمات اختلافية تحيد عن المعتاد والمألوف. وهي سمات كامنة في اللغة نفسها وفي طبيعة الرؤية ومسار الحكاية.

التجربة وثيقة الصلة بالتغريب؛ ونقصدبه كل شيء مخالف لما هو معتاد، فآليات الاشتغال على الحكاية وبنياتها لا تقرب للسرد، مما يجعل الحكاية رافدا يستدعي تقنيات علمية، وتشكيلية، وإيقاعية نغمية لا تبتعد كثيرا عن الهندسة المعمارية، واللوحة التجريدية أوالرقمية، والصوت الموسيقي والشعري.

ونحن نقرأ ثقل الفراشة فوق سطح الجرس* وجدنا أن مبادئ الكتابة تتمثل بنية مسبقة وجاهزة لمعنى مقصود يؤديه الكاتب وفق الطريقة التي يرتضيها، وينتظر من المتلقي تحقيق ذلك المعنى. وهذه الطريقة، كما ألمحنا، لا تختلف عن مجالات عديدة وأخرى مجاورة لأن حدود انفتاح النص واردة، واقتراح رؤية جديدة متحققة، مما انعكس على المجموعة وبدت فيها لغة التواصل اليومي والقوانين الضابطة لتفاعلاتها الاجتماعية متفاعلة مع وحدات معجمية آلية مورى بها عن المعاني المقصودة.

فتحت لنا هذه المجموعة كوة قرائية، وجدنا أنها متذرعة بشبكة مفاهيمية تستبطن تشعبات دلالية تصنع إيقاعها الخاص الذي ينحو منحى الفنية والخيال، في ما تبني أسلوبا شبه رياضي ينتظم على شكل وحدات تتردد وكأنها في سياق نغمي وآلي.

1 – الحكي بالاستنتاج

يقوم مبدأ الاستنتاج على الاتفاق الذي يحصل بعد استقراء طبيعة الظاهرة الموصوفة(لوحة، موقف، ظاهرة رياضية، حدث غريب، فعل عادي، حوار بين شخصين) والمعتمد عليها باعتبارها صفات مشتركة في تلك الصور الجزئية »فبالنسبة للرجل الأول، القصة وما فيها، هي عملية جمع مشبوهة بين الشقاء والتطهير. أما بالنسبة للرجل الثاني، فهي عملية طرح نظيفة بين: الذات والخلاص. وبالاستناد إلى السيد هاريس دائما، فإن عمليات الجمع تفضي عادة إلى قصص قصيرة ذات نهايات سعيدة، في حين تنشأ عن عمليات الطرح، بالمقابل، نهايات مأساوية. وهو ما تأكد بالملموس في نهاية هذه القصة تحديدا، لأن الرجل الأول وجد ذات صباح ميتا على فراشه..ربما – بكل بداهة – لأن الرجل الثاني تعب من الطرح أو اختار أن يمكث في الحياد، وبالتالي لم يعاود الظهور عند الفتحة الخلفية أو الأمامية (لا يهم) كي ينجز مهمة إرسال نفسه من جديد إلى الحياة «(ص. 80)

المقطع استنتاج ناتج عن وضع لكليات عامة تتمثل نظرية فوستر هاريس، وهذا الوضع الكلي الذي ارتضاه الكاتب لا يعدو أن يكون مقترحا ذاتيا من خياله. تنطلق الحكاية من كلية تواجه المعنى نحو غرض مقصود، فتخرج من الشيء الواحد إلى أشياء، وتشبه الأشياء بشيء أو العكس، كما تفصل وتبدل وتملأ الصور الجزئية بالكلية، وفي النهاية تضع ما هو كلي في صور جزئية تحت اعتبار معين أسميناه استنتاجا.

ولكن هذه الطريقة الاستنتاجية لا تقدم إلا كليات تحتاج إلى أن تملأ بجزئيات حدثية أو علمية وقد يقع الاختلاف في التسميات والاعتبارات، ولكن سنتحصل على نماذج متكررة ومعطيات تجريدية أو ملموسة يمكن إدراجها تحث أي كلي حدثا كان أو طرحا علميا أو موقفا حياتيا.

2 – الحكي بالتكرار

يتحقق مبدأ التكرار على مستوى حجم النصوص؛ فهي لا تتجاوز الصفحة ونصف الصفحة، وبالتالي تضمن المجموعة انسجامها الكمي، واحترامها مبدأ توزيع البنيات النصية الذي يتأسس على اختصار آليات الحكي والوصف. وهو ما قد نسميه بحالة السرد في حده الأدنى.

التكرار المتحقق في المجموعة لا يخرج عن استراتيجة بناء الحكاية وحجم النصوص، وهو تكرار تقني وآلي، يبني في ما يرتضيه الكاتب وكأن بنية النصوص قائمة على الكتابة بالصياغة؛ لكل حكاية بناءها الخاص الذي يجد له مماثلا في المقترح الثاني من النصوص وهنا تتحقق الكتابة بالنموذج، فالنص الثاني يرتبط بالأول لا على مستوى البناء فحسب بل حتى على مستوى الدلالة. وسيمتد هذا التكرار تبعا لإمكانات تناسبية سنتيرها في الفقرات الآتية.

3 – الحكي بالتجريد

جاء السرد في ثقل الفراشة فوق سطح الجرس مدعوما بالتجريد؛ وذلك على مستوى بناء الحدث، فالتصور الذي يعكسه نص بروبارامو عن الموت مؤسس على رؤية تجريدية، تبني حدثا بسيطا، ركوب الحافلة، في ما تتوالد وقائع تصل إلى نهاية غريبة.

البداية: ركوب الحافلة،

الوسط: عدم اتضاح وجهة الحافلة،

النهاية:الحافلة وسط صحراء وغربان.

القصة في نهاية الأمر هي محصلة أشياء متراكمة وبسيطة تفضح عن أشياء غير معقولة، من هنا تبرر حرية المتخيل واللاوعي، وهي إدانة يعبر عنها بالتغريب وبالرعب. وفي الآن نفسه تريد أيضا إيصال المتلقي إلى حدود الحيرة والتردد وتقبل ما ليس بحتمل وقوعه.

دون اعتبار للأحداث ومسارها فإن الحكاية تبني في ما تحدده الرؤية المرتبطة أساسا بالتجريد ومباشرة اللامتوقع عبر سلسلة حدثية تتجه، بإيقاع أسلوبي خاص، نحو هيمنة المطلق وإرباك الواقع عبر توظيفات رمزية بعيدة في التعبير عن الحاجات والانفعالات الواقعية.

وإذا ما نظرنا إلى اللغة في هذا النص وغيره، سنجدها لغة تشكيلية إشارية رامزة تحيل على مدلولات محددة ومعينة ولكن في سياق غير قابل للتبرير، وهذا يقود إلى القول إن البعد التوصيلي في اللغة لا يمكن النظر إليه إلا من خلال طبيعة الرموز المستغلقة.

فالبعد التجريدي والتشكيلي الرامز في اللغة متلازمان سواء في بناء الحكاية أوفي صياغة حركة تجريدية تبدأ بثبات وتنتهي حيث التباين حاصل بين المنطلقات والنهايات.

لقد سلك طريقة التجريد بعدما أتاحت له طريقة استقراء الظواهر المختلف والمشترك بينها، فاستدعى ما له صلة بالحياتي والعلمي والحضاري والتراثي والأسطوري، وبدت النصوص محاكاة تنزع نحو الوصف والتأشير، والسخرية، والنقد، والنقل، والادعاء، والتبديل.

4 – الحكي بالتناسب

نقصد بالتناسب حدود التوازي المتحقق على مستوى المبنى والمعنى من خلال تحققات لفظية وحدثية وأسلوبية تتضمن بنية نغمية اصطلحنا عليها بإيقاع الأسلوب. ويتبدى هذا التناسب من خلال ثلاثة مستويات.

المستوى الأول: في تعكسه رؤية الحدث السردي، وهي رؤية متقابلة، فكل حكاية تجد لها نظيرا يماثلها على مستوى الصياغة والبناء. فجميع نصوص المقترح الأول تجد لها نظيرا في المقترح الثاني وقد أشر عليه برقم ذيل به النص.

نقرأ في نص تجاوز:« لأن الفنان دأب على خلط الأكواريل بمياه البحر، كلما رسم شاطئا ما عاد على إيقاف حركة المد والجزر داخل اللوحة» (ص. 73) ونقرأ في نص تناسب: « هكذا كان ماغريت يوقع أسفل لوحاته[...]» (ص. 133).

نستنتج كون النص الثاني تتميم للأول، وهذا التعالق بين النصين مقصود ومثير على نحو منتظم ومتجانس، لذلك فإن حدود التناسب الحدثي واقعة ومتمثلة في المشترك النصي عن طريق الإئتلاف اللفظي والحدثي.

لقد تم اعتماد التوافق بين وحدات معجمية؛ الفنان/الأكواريل/رسم/لوحة/لوحات/يوقع. التي عبرت عن قوة حدثية تتناسب مكوناتها وتمتاز بكسر قواعد التباعد والاستقلالية، وقد يفسر هذا التناسب التناظري بين النصوص بطبيعة القوة التذكرية التي تتلاءم مع طبيعة النصوص إذ لكل نص إيقاعه الخاص، وكل إيقاع يذكرنا بآخر سابق.
المستوى الثاني: يعنى هذا المستوى بطبيعة الجملة التي تختزل الحدث وتؤشر عليه عوض تفصيله. « تخيل مخلوقات غامضة ستفد قريبا من كوكب مجهول. تخيل الأبجدية الملغزة التي سيبتدعها لتجاذب أطراف الحديث معهم. تخيل الخريطة الفضائية التي ستمكنهم من الوصول إلى الأرض على نحو سري وبلا تعقيدات تذكر. تخيل مكان إقامتهم في مزرعة شاسعة تقع على هامش إحدى الضواحي النائية للمدينة. تخيل معاهدة السلام التاريخية التي سوف يزف نبأها السعيد لكافة سكان المعمور[...]» (ص. 61)

النص مكون من بنيات تركيبية مقطعة، حيث اللفظ مثقل برؤى تخييلية يتم عبرها الادعاء المستمر لتصورات مرتبطة أشد الارتباط بالعائق الحياتي. وتقضي طبيعة الحدث حتما ترديد بنية تركيبية بعينها، وبقدر ما يتكرر(تخيل) تزيد في المقابل نسبة التحصيل بارتفاع إيقاع الأسلوب عبر النقل المستمر للبنية التركيبية نفسها.

المستوى الثالث: أدت الجملة وظيفة اختزال الحدث وحققت ما يعرف بإيقاع الأسلوب، حيث الترديد المنتظم والمتقطع لا يقوم بتجزيء الحكاية فحسب بل يحيل على تركيبها الآلي، وهو تركيب تم الاعتناء به قدر الإمكان من قبل الكاتب، وكل تصرف في الجملة سيؤثر على بنائها ودلالتها.

نقرا في نص استباق الجملتين:

الآن...بات يعرف أن هذا حدث مساء

الآن...بات يعرف أن ذلك سيحدث صباحا (ص. 95)

الجملتان متواليتان تكونان وحدات معجمية منسجمة، وتسهمان في تكوين قضية/حدث، وقد حقق تكرار (الآن بات يعرف) ذلك الربط بين الفقرتين.

إن حدود التناسب الصوتي حاصل على مستوى الربط بين الفقرة الأولى والثانية، وكأن الأولى مسند إليه والثانية مسند. ويفيد هذا التناسب قوة إنجازية الحكاية، وذلك تبعا لحدود التوافق المكوناتي(حدث, سيحدث/ مساء، صباحا) وهذا التفاعل الحاصل بين الألفاظ والدلالة في بناء الحكاية قد أوقع النص في بنية صوتية تركيبية كامنة وفاعلة بالحضور والغياب، بالمجاورة والتباعد، وفعاليتها تكمن في ما اصطلحنا عليه بالإيقاع الأسلوبي.

ثقل الفراشة فوق سطح الجرس، هي كتابة تثير الانتباه إلى صيغة حكائية واعية ومقصودة على العلاقة المتوترة بين التخييل والواقع، وبين التقنية والإرباك، وبين البناء والهدم، وبين الخفة والثقل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى