الأربعاء ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم أكرم سلمان حسن

العجيبة

موت يوسف المفاجئ، الولد الوحيد لآغا القرية، أذهلَ قرية أم الصبر، بكى الجميع على العريس الجميل، معشوق فقراء القرية لأنه كان سندهم لتحصيل حقوقهم ، حتى من أبيه.. وحلم نسائها، لأنه كان أجمل شاب ولد في القرية في المائتي عام الأخيرة، وأصبح تاريخ وفاته، مفصلاً تاريخياً، يؤرخ به سكان القرية، الأحداث الكبيرة والصغيرة بما قبل، وما بعد وفاته، فيقول شيخ مسن لحفيده.. سامح الله والدك، تركني وأمك وحيدين، وهجرنا إلى المدينة، كان هذا قبل وفاة الجميل بسنتين. أو تقول امرأة لجارتها، مفحمة إياها بحجة دامغة. ابنتك ولدت قبل الوفاة بخمسة أيام، هذا مؤكد، وابني ولد بعد الوفاة بسنة وشهرين، فكيف يكونان بعمر واحد!!.

كان يوسف في أول يوم من شهر العسل، ردد أهالي القرية((مسكين، لم يقدر له أن يتذوق العسل)). فتغني مزنه (الخرفة) كما يسميها أولاد القرية، لأنها تغني الأغاني الحزينة من الصباح إلى المساء((لم يكن يحتاج العسل، كان ريقه عسلاً)).

بعد حفل الزواج.. الذي استمر حتى ظهيرة اليوم التالي، لأن صبايا القرية رفضن المغادرة وتركه مع زوجته، لم يتقبلن فكرة زواجه((هذا ليس عدلاً، لا يوجد فتاة تستحقه وحدها، عليه أن يتزوج أربع فتيات دفعة واحدة)) صرحت بهذا بنت المختار، عندما شاع خبر رغبته بالزواج من سليمة. عندما سمعتها خادمتها (كلثوم العرجاء) حدجتها بنظرة غاضبة، وهمست رافعة العكاز خلف ظهرها ((ولماذا أربع فقط، أنانية وحمقاء، عليه أن يتزوج أربع ويطلق أربع.. وهكذا.. دون استثناء أي فتاة في القرية.. جميلة كانت أم قبيحة، حدباء أم عرجاء.. نعم.. بهذا فقط.. تتحقق العدالة)).

نتيجة للجو المفعم بالغضب، وخوفاً من حصول مالا تحمد عقباه، اضطرا للتسلل خلسة، بعد أن تنكر يوسف بزي امرأة، ونقلهما الراعي خضور الأقرع، على ظهر حماره، إلى مفرق طريق القرية، حيث استقلا البوسطه العابرة إلى المدينة، وهناك قصدا فندقاً صغيراً، مطلاً على المسرح الروماني، وضعا الحقيبة في عهدة صاحب الفندق، وخرجا((أريد رؤية المدينة، صغيرة كنت عندما جئتها أول مرة مع جدي، اشترى لي صندلاً أحمر، وقطعتين من النمورة المزينة بالفستق، وكأساً من شراب الليمون)) قالت سليمة بحماسة طفلة ترنو إلى صحن من الحلوى.

جالا على أسواق المدينة، وعندما شعرت بالبرد، اشترى لها معطفاً، وشالاً أبيضَ، غطت به كتفيها وعنقها.. دخلا مطعماً صغيراً.. وطلبا من صاحبه بعض اللحم المشوي، حملاه معهما بعد أن همست (( أخجل أن آكل شيئاً أمام غرباء، نأكله سوية في الغرفة)).

في الطريق، حاذيا سوراً حديدياً لقصر الآغا القديم، اشتراه حديثاً صناعي كبير، قالت الخرفة عندما سمعت اسمه((مهرب كبير)) وتابعت غناءها.

هبت ريح مفاجئة، خطفت الشال، الذي طار بحركات التفافية، كحمامة بيضاء، حاطاً أعلى شجرة السنديان في حديقة القصر، يرفرف عليها كعلم ! حزنت سليمة، لكن هيهات ليوسف أن يتركها تغتم.. وبخاصة.. في يوم كهذا.. بخفة قط بري، اعتلى السور وبقفزتين سريعتين كان الشال في يده، لوح به أمامها مزهواً.. ابتسمت سليمة ابتسامتها الأخيرة.. التي غادرتها مسرعة، حين لاحظت انحناء فرع الشجرة إلى الأسفل، صرخت محذرة، قبل أن تشاهده يهوي على قضبان السور الحديدية المسننة، المشرعة كحراب في وجه السماء!! الشال الممسوك بإحكام في قبضة يوسف..اكتسب لوناً جديداً.. غنت الجدة وأبكت حتى صغار القرية واصفة ما حدث(( منتشياً.. سكراناً.. القصر يضحك.. مبرزاً.. أنيابه الحمراء، يقطر منها دم الجميل، يلون خد سليمة السمراء )).

أهل القرية قالوا، أن فرع الشجرة الصغير، انثنى بفعل ثقل جسد العريس الفارع الطول،فكان ما كان، لكن الخرفة غنت(( هراء، كيف لجسده النحيل أن يقهر السنديان!! هذا مستحيل.. إنما هو الحب الذي يحمله لسليمة، ما جعل السنديان يلين و ينحني، هذا تماماً.. ما قتل الجميل)).

في اليوم الثاني، جن جنون صاحب القصر، حين شاهد شجرة السنديان، بلونٍٍ أسودَ، مقلمٍٍ بالأحمر، وكأن هناك من قام بدهنها، فأضحت أشبه بمهرج مر بالمدينة يوماً، أمر بإحضار أكثر المهندسين الزراعيين خبرة، لكنهم وقفوا عاجزين، غير فاهمين ما يحدث.

نصحه بعض العارفين بخبير زراعي من غزة، فقام باستدعائه على عجل، حضر الخبير ..نظر إلى الشجرة بإمعان، ثم وسط ذهول الجميع، فتح حقيبته وأخرج منها سماعة طبية، وضع طرفاً على أذنه والآخر على جذع الشجرة، منقلاً إياه من مكان إلى مكان، متمتماً بكلام غير مسموع، ثم بكى بمرارة، قبل أن يعيد السماعة إلى الحقيبة، مؤكداً لصاحب القصر، أنه سبق له أن عاش نفس التجربة المؤلمة، وقال أنه ولدفي ظل سنديانة، وخلال طفولته كان يقضي نهاراته قربها، إلى أن أجبر يوماً على الرحيل، وكان ذلك عام 1948، قبل الرحيل، أراد وداع أمه (كما كان يدعوها) فوجدها..يابسة..مقلمة بالأحمر والأسود، بكى كثيراً، لكنه توقف عن البكاء، عندما لمح أثراً لحياة تدب فيها، قبلها ورحل.. وقال أنه يتسقط أخبارها.. مازالت مريضة، لكنه مازال مقتنعاً، أنها ستعود كما كانت.

حمل حقيبته وغادر، بعد أن نصحه بأن يحذو حذوه ويصبر، لكن صاحب القصر، اعتبره مجنوناً.. حالماً.. فأمر بقطعها، وبناء ملجأ لكلابه مكانها.. وباعها قطعاً إلى تاجر أخشاب، والذي بدوره باعها إلى نحات.

تقول الخرفة ((مسكينة السنديانة.. قتلها إحساسها بالذنب، اسألوا الخبير.. لقد سمعها تنوح قائلة، ويحي.. كيف لم أنتبه.. أن ملاكاً سكن أحضاني.. عجوز خرفة لا نفع منها.. قد آن آواني )).

النحات.. الذي دفع مبلغاً مجزياً ثمناً للشجرة المقطعة، آملاً أن يصنع منها تحفاً نفيسة آبدة، لطم خده متعجباً لاعناً حظه، أي نحس هذا!!، أبحث عن السنديان وعندما أحظى به، يتفتت تحت وقع أوهى ضربة إزميل، كما لو أنه نشارة خشب!!. وحاول ثانية و ثالثة إلى أن أتى على معظمها، ولم يتبق سوى قطعة من الجذع، نقلها يائساً إلى زاوية المحترف .. لكنه.. وهو المحترف لهذا الفن مذ كان صغيراً، لم يقنع بما كان.. ذهب إلى تاجر الخشب مستوضحاً، فاستغرب الأمر مثله، وقص عليه واقعة موت العريس والسنديانة، عاد النحات وفي رأسه فكرة.. أرسل بطلب صورة للعريس، وعندما وصلته، نظر إليها وبكى.. وظل على هذه الحال أياماً.. قبل أن يبدأ بالعمل على الجذع الباقي.

وحدث ماكان يتوقعه.. فالإزميل تصاحب والسنديان القاسي، دون أية مشكلة، وانكب يعمل على مشروعه، مغلقاً بابه، مكتفياً بالماء و الخبز اليابس، وأخيراً كان أمامَه.. تمثالٌ.. يجسِّدُ العريس يعلو رأسه تاج من أوراق الزيتون، يحمل بيده شالاً.. بلون أحمر قان.

أصبح التمثال حديث المدينة، وزاره الكثير من المهتمين بهذا الفن، حتى بلغت أخباره العاصمة، وتم إحضار التمثال لعرضه في متحفها.

واظبت سليمة على زيارة المتحف كل عام، في ذكرى وفاة يوسف.

يقول مدير المتحف، أن ظاهرة مذهلة لا يجد لها تفسيراً.. تقع سنوياً، حين تحضر سمراء مجهولة، تضع شالاً أحمرَ، تسير إلى حيث التمثال، تقف أمامه لساعات، كتمثال!! وحين تغادره .. تقطر من عينه دمعة حمراء.

تغني الخرفة((ليس إلا زيتاً يرشح.. هي عجيبة بدون أدنى شك، يجب أن يُرْسَلَ التمثالُ إلى بيت لحم، ويُطّوَبَ العريسُ قديساً )).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى