الخميس ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
طفولة مزمنة 4
بقلم ناصر الريماوي

جدار مائل

كانت تتبع سرباً للنمل يسري خلف جدار يميل قليلا جهة الباحة السفلية، على الجانب الآخر كنا نستهلك الدقائق الباقية للفسحة، نلوذ بمساحة المكان المتاحة، فيعلو صراخنا، نراوح في الساحة المطلية برمل المشتل المجاور ليأخذ كل منّا دوره فوق أرجوحة اللعب الوحيدة.

الكتابات الركيكة، غدتْ باهته تميل مع الجدار، كلما تقدمتُ في درس القراءة أصبحتُ اكثر إلماما بما تعنيه، وبأنني المقصود بها دون سواي "عيب... في حماية فتاه"... "أنت نصف ولد" وغيرها...

تدور مع الجدار بعد رحيل أسراب النمل إلى جوف الأرض، حتى تصير أمامي تُبرر غيابها بعذر وحيد ومألوف: العيادة الأسبوعية للطبيب...
  غيابك المتكرر يربكني هنا... ماذا أفعل لتظلي حاضرة؟
  تريد ان تعرف؟ ولم تنتظر إجابتي... ركضت نحو بوابة الباحة وهي تقول: فقط إتبعني.

أخذتني إلى المشتل المجاور، كان بأشتاله المبللة يبتلع النصف المتبقي للطريق الخلفية، أشارت لأسراب النمل وهي تعبر بمحاذاة السور المدرسي، لتلتقي في حزمة واحدة هناك، ثم تغيب خلف بيت بلاستيكي ينتصب خلف أسلاك شائكة، توقفنا هناك، همست لي في أسى: لا أخفيك فقد بدأ صدري يضيق بهذا الدبيب... لو أني أعثر على بيت النمل خلف هذا السياج... لتخلصتُ منه فوراً... فينتهي كل شيء.

وصلتُ متاخراً، إستوقفتني المربية، وهي تنفض عن يديها بقايا طبشور عالق، أين كنتْ؟
- عند المشتل المجاور برفقة " رهف"... هل تأذني لي بالجلوس؟
قبضتْ على أذني وهي تقول: تأتي متاخراً... ثم تكذب! كلنا يعلم ان " رهف" غادرتنا منذ زمن ولمكان بعيد؟

أعادت لي نصف الشطيرة، مسحتُ دموعي وأنا أسندُ ظهري لسور الباحة منفرداً، كي أراها... كانت بزيها الرمادي كزهرة حقيقية، نضجت للتوً، حنتْ جذعها لتهمس في أذني: لا تسمح لأحد بخطف شطيرتك... أخفها داخل الحقيبة... ثم تلاشتْ في زحام الباحة بقية الفسحة...

الغرفة لا تتسع للمزيد مغلقة تضج في صخب ينخر أذناي، لم أحظَ بأحد منهم كي يشاركني الحديث مثل البقية، تلفعتُ بصمتي وألوان حقيبتي الزهرية، ولذتُ وحيداً بهاجسي ووجه أمي، كان يوماً طويلا كشهر، وجه الفتاة ذات الزي الرمادي يطل ثم يختفي بين رفاق الغرفة، كانوا يحيطون بها في شبه دائرة، وددت لو أصف لأمي في تلك اللحظة مدى إنكساري في غيابها...

عند المساء تذرعتُ بتلك اللحظة، هالني صراخ آخر وانا أعلن عن تمردي، أخذت أتلفت حولي في تيه وخوف، خلته يأتيني من تلك الغرفة الصاخبة، الضيقة حيث إلتبس الأمر هناك، ثم لمحتُ سبابته تلوح في الهواء محذرة، أفقتُ على يد امي تهزني و"تبسمل" ثم توجه حديثها لأبي: سيذهب... غداً لا عليك، فقط هو يومه الأول... وغداً يعتاد.

تحول نحوي بشعره الاصفر وملامحه القاسية حيث كنت أقف بإنتظار دوري عند حدود المساحة الرملية، خطف حقيبتي بعنف، عض على شفته السفلى ثم رمى بها وسط الباحة المكتظة، صرخ في وجهي: لن آخذ شطيرتك اليوم... فقط إذهب من هنا... هذه الألعاب لنا وحدنا.

ترجلتُ عن الارجوحة بعد تأكيدي لها بأني اكتفيتْ، خالطني سرور مشوب بقليل من الرهبة، حين شيعتني عيون الأولاد بنظرات حانقة، تخطينا الساحة الرملية وهي تمسك بيدي، توجهنا لغرفة الدرس،هناك كنتُ أصنع لها قبعة من ورق مقوى تدلى من حائط الغرفة، بخفة فائقة، لم تخفِ تلك القبعة جديلتيها ولا إمتنانها امام الآخرين... سألتها عن إسمها أجابت بخجل لا يتفق مع نظرة التحدي التي شكلتْ ملامحها منذ قليل في ساحة الألعاب: رهف... إسمي رهف، ثم إستعادت طبيعتها وهي تضيف: ستظل تأخذ دوري هناك على الأرجوحة، في كل يوم... مثلما إتفقنا... فقط لا تخف من أحد.

كتابات بلون داكن ملأت جدران الباحة الخارجية، والممرات الداخلية بين الصفوف، كانت تبدو لي رسوماً وطلاسم لم اعرها إهتماماً، كانت عيون الكثيرين من الصفوف العليا تطالعها ثم تشملني بنظرة خبيثة، شعرت بحصار مطبق وكانها تعنيني تلك الطلاسم، رفض الجميع قرائتها لي حتى المربية تراجعت واكتفت بالقول لا عليك سنمحوها، فأيقنتٌ انها عني.

خلتها لن تأتي وأن المشتل قد إبتلعها، لكنها حضرتْ...كانت تموج مترعة بجديد مرتقب حين ولجتْ غرفة الدرس، دون أن يشعر بها احد... تمهد لفوضى محتملة، بتُ اعلمُ مسبقاً، لكنها تأخذ كرسيا وتصغي هذه المرة، تختلس النظر إلى حيث اجلس، فابدو مطارداً، زفراتها المتلاحقة تنهش جسد الصمت المطبق في الغرفة...

  عثرتُ على بيت النمل،... تهمس جذلى، في حين تطغى أنفاسها على كل شيء.
  ليس الآن... نتحدث لاحقاً... أجبتُ بصوت مسموع.
أنتَ مرة اخرى... سكوت من فضلكْ، ثم رمتني بنظرة حائرة ذات مغزى قاسي، فاعتذرتُ للمقاطعة، ولم أصدق... ألم تسمع تلك المربية احداً غيري يتحدث...؟

رفعتْ " رهف" كرسيها وعبرت بين الجميع، وضعته بجانبي، ولم تجلس عليه، إرتمت عند قدماي فوق أرضية الغرفة، ثم راحتْ تزحف على ظهرها ببطء أثار حفيظتي، كان لهاثاً مسموعاً للجميع لكن احداً لم يصغِ، ثم توقفتْ، كان لهاثها قد توقف أيضاً، رأيتها جثة هامدة لعينين جاحظتين وفم يشهق، تلك هي أو ما تبقى... صرختُ في الجميع: رهف تختنق... لكن احداً لم يكترث! جثوت إلى جانب الجسد النحيل، حيث بدأ ينتفض وبقوة ثم... تدفق سيل كثيف من النمل وجد طريقه عبر فمها لينتشر فوق باقي الجسد، فلم احتمل... تناهي لسمعي تداخل كثيف لأصوات تحثني على الوقوف، في حين اخذتُ أصرخ في هلع: النمل... النمل يخرج من صدر "رهف" ولم أعي ماحدث، سوى وجه المربية وهو ينزف الواناً قاتمة سكبتها فوق مخيلتي حين أخذتْ تصفعني بتلك الملامح القاسية: يكفي... يكفي انت تثير فزع الآخرين... ثم دنت بيديها مني، ميزتها للحظة، ثم عرفتها تماماً حين أخذت تهزني فأدركتُ اني في سريري، ضوء كثيف غمر المكان، حمل جثة "رهف" بعيداً، لُذتُ بحافة السرير، تحصنتُ بغلالة النوم وانا اواصل، النمل... النمل... كان هنا، بينما وجه أمي يرقبني في فزع وهو يواصل صفعاته بتلك الملامح القاسية: غدا ستذهب لتلك المدرسة... رغماً عنكْ، هل تفهم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى