السبت ١٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨

رصاصة واحدة تكفي

بقلم: عمار الجنيـدي

ليست الواحدة بعد منتصف الليل، وقتا مناسبا لزيارة الأصدقاء، لكن الذي دفعني لزيارة صديقي أحمد، في غرفته المنزوية في ركن قصي من «حي العويسات»، والتي استأجرها منذ سنتين، عندما حضر للعمل في مصنع الرقائق الإلكترونية؛ هو أنني رأيتُ غرفته مضاءة في هذا الوقت المتأخر من الليل..

ولدرايتي بأن أحمد يهجع إلى سريره باكرا، فقد شد انتباهي أن أرى غرفته مضاءة في هذا الوقت المتأخر من الليل..

كان البدر يخاتل صمت المكان، عندما قادتني قدماي إلى ذلك الحي، بعد عودتي المتأخرة من سهرة طرنيب وددتُ لو امتدّتْ إلى مطلع الفجر..

دفعتُ الباب ودخلتُ إلى الغرفة، فرأيتُ الفوضى تدب في أرجائها؛ كتب مبعثره، أوراق ممزقه، وشظايا زجاج مكسور، وجدران عارية إلا من صورة كبيرة بالأبيض والأسود للمناضل (تشي غيفارا)..

نظرتُ إلى أحمد بجلسته الغريبة؛ إذ وضع رأسه بين يديه، وجلس على حافة السرير، والدموع تنساب على وجنتيه بانفعال واضح..

وعلى السرير أثارني منظر مسدس صغير من نوع (توتو)، يهجع بصمت متحفز..
اقتربتُ من أحمد، وحاولتُ أن امسح دموعه، إلا أنه نهرني وأشاح عني..

قلتُ له والذهول يشتِّتُ قلق دهشتي:

 بحق الصداقة، قل لي ما الذي يجري؟..

رفع رأسه، ونظر إلى وجهي الطافح بالقلق. وقف، وقال بضيق:

 كل هذا الخراب، وهذا الواقع المخزي، وتسألني ما الذي يجري؟!!...

تنهّد، وزفر ما في أعماقه من كبت:

 أُحسّ أنني ضائع وسط هذا التيه..

أحنى هامته قليلاً. دار حولي دورتين، ثم وقف إلى جانبي:

 لن يأت زمان كنا نتوهم أننا سنكون فيه شيئا ذا قيمه. سوف يأتي زمان تصير فيه أحلامنا مجرد أوهام كنا نتمناها..

وضع يديه على وجهه، وتنهّد بقهر:

 أُحسّ أن العبث يلهو بمدارج قناعاتي، أُحسّ أنني بلا هدف، بلا غاية سامية تشفع لمبررات وجودي؛ وأن العدم يحشد جيوش
الفشل أينما تطلّعت..

لم يترك لي الفرصة حتى لاستجماع وترتيب أفكاري، إذ تابع بانفعال وقهر:

 الوهم يلفّ مدارات ظنوني. يستبدّ بي همّ قاتل بأن هناك من يسلبني صفائي ونقاء سريرتي، أُحسّ بأنني مسؤول عن كل خطايا العالم؛ عن كل تفاهاته وذنوبه..

أمسكتُ بيديه وحاولتُ تهدئته، إلا أنه نهرني من جديد، ابتَعَدَ عني باتجاه الصورة.حدّق فيها لبرهة، ثم قال:

 لم تعد الحياة ترضيني، لم يعد الوجود يقنعني، أنني الآن على حافة الهاوية.

تابع بأسى: ليتني أتجاوز هذه المحنة..

همستُ بأعماقي: أخشى أن تكمن مشكلتك في عدم وجود مشكله..

التفتَ إليّ، ورفع حاجبيه دهشة؛ مما عزّز من قناعتي بأنه سمعني. حاولتُ أن أواجهه بجدّية المشكلة التي تأكل حسرته:

 أنت في مأزق..
 سأجد مخرجا..

لوّح بإصبعه الشاهد في وجهي:

 لابد أن أجد مخرجا..

ابتعد عن الصورة قليلاً، ثم عاد واقترب منها اكثر:

 لكن كيف !، والغد لا يشدّني نحوه أي أمل. أراه باهتا؛ مشوّه الروح، وكل هذا الضياع والعدم ينعكس بفجائعية على روحي؟!!..

قلتُ بنفاذ صبر:

 إنك تفقد الثقة بنفسك..

تقدمتُ نحوه وأمسكتُ بيديه:

 أنت تحتاج مناخا آخر غير الذي تعيشه،حتى تجد نفسك وتحدد موضع خطواتك..

أشاح بوجهه عني. ثم عاد ليركز نظراته في عينيّ باستغراب: ماذا تقصد ؟..

 الإنسان الذي يعيش حالة هدوء وتصالح مع واقعه، والذي لا يوجد لديه أي حافز لإبراز مواهبه وإطلاق إمكاناته الإبداعية،
هو عادة يعيش حالة القلق الإنساني هذه..

لّص يديه بغضب، وصرخ باستهجان:

 كل هذا الانحطاط الفكري والاجتماعي الذي يحيط بواقعنا، وهذا العهر السياسي الذي يمارس علينا..

رجع إلى السرير وهو يرغي من الغضب والقهر:

 كل هذا التآمر على أمتنا ومصيرنا، وتقول لي أنه لا يوجد حافز لتفجير طاقاتنا الإبداعية ؟..

تقدمتُ إليه، وجلستُ إلى جانبه:

 لا أقصد هذا النوع من القهر الإنساني..

وقف من جديد. مشى خطوتين باتجاه الباب، وهو يهزّ يديه بحيرة: إذاً ماذا تقصد ؟..

ارتبكتُ، ولحقتُ به:

 أقصد أن الحياة التي تمارسها هي حياة راكدة ورتيبة،مليئة بالأسئلة المضجرة التي لا يمكن لأي جواب أن يشفي غليلك منها، وأنت بحاجة لمن يحرّك هذا الركود المقلق..

نظر إليّ باستغراب:

 مثل ماذا ؟..

 امرأة مثلا. ما دمت تعيش حالة ضياع وتشتت وملل؛ فمن المؤكد أن الإحباط والضياع هما ما يحرّكان هوا ء الضجر فيك..

ابتسم بغبن:

 نحن بحاجة إلى ثوره..

ضحكتُ باستهجان: أوف..

 إن التفكير بقضيتنا لا يمكن فصلها عن قضية المجتمع بأسره..

تطلّع نحوي، وكأنه يريد أن يتأكد من وقع كلماته علي:

 لن أغالي إذاً قلتُ أن مشكلتنا هي صورة صغيرة مطابقة لواقع الأمة بأكملها..

 صحيح أن صراع الإنسان مع ذاته، يذوب وينصهر أمام حلقات التآمر على أمته، لأن الهم الصغير يذوب في الهم الكبير، لذا نحن ملزمون بإيجاد طريقة مختلفة لنخرج من حيّز فرديتنا وأنانيتنا، ومن أجل الخروج نحو الهم الإنساني الأكبر..

 إنك دائماً تشدّ الحوار إلى مناخاتك..
 ذلك أنني مشغول بالهاجس الإنساني الأكبر..
 لكن مصير الأفراد محكوم بمصير أممهم..

نهرني من جديد، وأشار بإصبعه الشاهد باتجاه وجهي:

• ماذا قدمتَ لأُمتك ؟.. ماذا قدمتَ للإنسانية ؟..

باغتني اتهامه. لم استطع إخفاء اضطرابي، فقلتُ بحدّة:

 هذه ليست قضيتي..

ارتسمت علامة المنتصر على وجهه وأردف:

 الأمة التي لا تحترم أبنائها، ولا تحميهم من متاهات الضياع، جدير بها أن تُفسِحَ المجال لمن يهتم بهم، ولمن لا يطالبهم بالمعجزات.. الأمة الضعيفة تجلب العار لأبنائها.. الأمة الضعيفة حجر عثرة في طريق تفوّق أبنائها، إنها أشبه ما تكون ببقرة هزيلة؛ مثار اشمئزاز الجميع..

شبك يديه على رأسه وشدّه إلى الخلف:

 يا الله، أما من خلاص ؟!!..

 يا عزيزي: الصوت مهزوز والصورة غير واضحة..

 تبّاً لهذه الحياة؛ كم هي عصيّة على الفهم..

 نحتاج لأكثر من حياة كي نفهم الحياة..

 نعم؛ نحتاج لأكثر من حياة كي نفهم الحياة، وإذاً كانت الحياة لا تقدم لنا إجابات شافية لكل هواجسنا وقناعاتنا بالوجود، فلعل الموت يقدم لنا ما نرغب بمعرفته...

 الموتُ نفي للحياة.. الموتُ ثورة على الوجود..

نهض. تقدم باتجاه الصورة مرة أخرى؛ محدِّقا بتأمل وانكسار:

 نحن لم نختر حياتنا، فَلِمَ لا نختار طريقة موتنا؛ لِمَ لا يكون يكون موقفنا منها حادا..
 الموتُ أسوأ خطوة يمكن أن نتخذها، عندما لا تقنعنا الحياة بعدالة وجودها..
 الموتُ: حياة من لا يشعرون بعدالة الحياة..
 أشعر بالعار حين تتحدث عن الموت..

حك ذقنه، ومسّد شعره بنزق واضطراب:
 نحن مسؤولون عما نفعله، فَلِمَ لا نفعل شيئا يستحق الحياة..
 إذاً هناك شيء ما يستحق الحياة..

ارتبك وشعر بالحرج:

 دعنا نبحث سوية عما يستحق الحياة..
 أخشى يا عزيزتي أننا لا نستحق الحياة..

وضع رأسه على كتفي، وشرع بالبكاء والنحيب.

ضممته بعنف، فكفّ عن البكاء..
 يستبد بي ميل صارخ بتفاهة الحياة الإنسانية وعدم نقائها..

هززتُ كتفيه، وقلتُ بهدوء وثقه؛ محاولا تخفيف انفعاله:

 كلنا نمر بأزمات مشابهة، ثم أنني لا اعرف لماذا إصرارك على أن لا ترى إلا هذا الجانب المظلم من الحياة !!..

نظر إليّ بازدراء:

 يكفيك كذباً ورياءً، فأنت مثلي لا تشعر بهدف يشدك نحو الحياة؛ تعيش فراغا يحطم جدران تمردك.. انك تتحدث
عن الأمل والتفاؤل وأنت غير مقتنع بما تقول، لأنك مثلي لا تشعر بعدالة وجودك..

باغتتني نظرات الاتهام في عينيه. رأيته يحدق في وجهي، وتابع بنبرة قاسية:

 إن هذا الواقع المخزي الذي أراه في كل جزء من حياتي؛ يهبط عزيمتي ويكرس أسباب الذل والإحباط في نفسي، ويدفعني لاتخاذ موقف تجاه هذا العبث..

 وماذا تنوي أن تفعل؟..

تناول المسدس، ووضع فوهته على الجانب الأيمن من رأسه، وفوق الأذن مباشرة، وقال بكثير من الثقة:

 رصاصة واحدة تكفي..

حاولتُ أن أمنعه، إلا أنه شتمني وطردني ثم قال بعزم وجديّه:

 الأفضل لك أن تخرج، لأنني قررتُ الانتحار، ولا أريد أن ترى بنفسك مصرعي..

خرجتُ من عنده مكسور الوجدان، فهذه هي أول مرة في حياتي أعجز فيها عن إقناع خصم لي بالعدول عن فكرة ما. دائماً استغل مواهبي في الجدل والنقاش في إقناع خصمي، لكن هذه المرة مختلفة تماما، فقد حرك النقاش مع أحمد فيّ كل مشاعري التي لم اجرؤ يوما على مواجهتها، لدرجة أنني اقتنعتُ بمعظم ما تحدث به..

وما كدتُ ابتعد بخطواتي عن المكان، حتى سمعتُ صوت رصاصة تنطلق من داخل الغرفة..

أسرعتُ إلى الداخل، لأجد أحمد على الأرض مسجى، وقد انساب من جبهته على الأرض: خيط رفيع من الدم، ويحتقن عند الباب..

كان أحمد بلا حراك، والدم ما يزال ينساب أحمر قانٍ..

أخذتُ المسدس من يده، وجلستُ قبالته أتمعن هذا المصير الذي آل إليه، مستعيدا شريط كلماته المثخنة باللاجدوى، وخصوصا؛ تلك التي كان يوجهها إلى ضميري..

نصف ساعة مرّت، وبعدها سمع أهل الحي صوت رصاصة ثانية، تنطلق من داخل الغرفة..

في صبيحة اليوم التالي، كان العالم يتحدث باهتمام عن نبأ انتحار المدينة..

بقلم: عمار الجنيـدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى