الجمعة ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢
مذكرات المناضلة اللبنانية والاسيرة السابقة سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة الثالثة - الحـــــرب

عرفتُ الحرب وأنا في السادسة.
أما الآن، وقد ذهبت من عيني التماعات الطفولة، فلا أزال أحمل في خاطري ذكرى اندلاعها الدقيق والعصي على التصديق. كنتُ في دير ميماس. وكان أوان العطلة الصيفية.

كان ذلك في الخامس عشر من أيلول / سبتمبر عام 1973، وهو يوم الاحتفالات بعيد مار ماما. وكالعادة، كنا نتوزع غرف البيت الكبير، نحن وجميع أبناء عمومتي وجداي. وكان في المنزل خمس نساء وخمسة وعشرون ولداً، يعمرون البيت بضحكهم وغنائهم المتواصلين. بينما كان آباؤنا جميعهم يعملون في بيروت. وكان يفترض بنا أن نلقاهم في اليوم التالي، بعد رحلتنا البرية المعتادة.

غير أن هذه الليلة، كانت لنا محض صخب وقصف. ولا أزال أذكر أنه تناهى الى سمعي كلمتان: "غارات"، و "إسرائيليون". وتبين لنا أن الطيران الإسرائيلي مضى يكيل ضربة قاسية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تقيم مخيمات في الجوار، وراحت الطائرات تغير على دفعات، موجهة حممها الى جوار البلدة، وعلى مدار اثنتي عشرة ساعة. وكان يستحيل أن يغمض لنا جفن لشدة التوتر الذي كنا فيه. وحيال هذا الأمر سعت والدتي وعماتي الى إلهائنا، بأن جعلن يخبزن على التنور. وأُعدت المونة لعودتنا الى بيروت. إلا أننا التهمناها في أثناء ليلتنا الليلاء.

وفي الغد، حين تسلقنا متن السرفيس، أعلمنا السائق أن الطريق الرئيسية المفضية الى بيروت باتت مقطوعة، على بعد عشرين دقيقة من القرية. إذ أصابت القنابل الإسرائيلية جسر الخردلي الذي يربط المنطقة بسائر أجزاء البلاد. ولم يكن هذا الجسر الذي يمر نهر الليطاني تحته شأن كل الجسور. كان جسراً خشبياً، وكانت السيارات التي تعبرُه تحدث لدى مُرورها صدىً وأصواتاً لا يمكن أن يلقاها المرء في أي جسر آخر. لا يزال صوت ذلك العبور في أذني. وهو يشكل جزءاً من آلاف الإشارات الطريقية التي تمثل لنا على امتداد تلك المسيرة المألوفة. ولما كان الجسر مدمراً، بات لزاماً علينا أن نسلك طريق البقاع، القائمة الى الشرق. عطفة طويلة كان لها أن تستغرق منا ساعتين لنبلغ بعدهما الى بيروت، أخيراً.

وظل جسر الخردلي مدمراً. ولسوف يكون علينا أن نتعرف الى طرق جديدة، كلما عزمنا على العودة الى دير ميماس، غير أن هذا الفراغ لن يجد له إشباعاً أبداً.

وكان مقدراً لي أن ألاقي الحرب، بعد سنتين من ذلك الزمن، وسط قريتي. والى المعارك شبه اليومية ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين أضيفت المعارك بين اللبنانيين أنفسهم. وكانت أول ليلة مشهودة بالقصف باغتتنا ونحن لا نزال في المنزل. كان الوقت بلا شك، في الثالث عشر من نيسان / أبريل عام 1975، وهو تاريخ بات متعارفاً عليه لكونه يؤرخ لبداية الحرب الأهلية. كنا نقيم في منزلنا الأول، الكائن في حي غاليري سمعان قرب الشياح. فأجبرتنا الإنفجارات على اللجوء الى أحد الجيران. وكانت طلقات القذائف تنير سماء ذلك الليل. ورحتُ أمُد رأسي عبر النافذة لأعاين البروق وخطوط النار التي كانت تنطلق من القصر الرئاسي، غير بعيد عن منزلنا، رغم أن تطلع الصغار كان محظوراً، لسلامتهم، كان ذلك مشهداً رائعاً، لعيني. وعلى هذا، أقمنا جميعنا في غرفة ضيقة، وكان هذا الوضع غير المتوقع والفائق العادة، يفتنني أيما افتتان. بالطبع، كنت ترى الخشية والذهول في عيون الراشدين منا. ولم يكف والدانا عن ترداد أنهم سوف يكفون عن الإشتباك، وأنه ينبغي ألا نخاف، في حين أنهما ظهرا شديدي القلق. وظلا يتكلمان ليحفظا معنوياتهما والآخرين. وجعلا يقولان إن الأمور سوف تتحسن في الغد، ويعود كل شيء الى طبيعته وهدوئه.

ولم يكونا يعلمان أن هذه الليلة سوف تستمر خمسة عشر عاماً بأيامها وأحزانها.

وكان لي أن أكشتف على مر الأسابيع والتفجيرات المتلاحقة هذه الريبة الناجمة عن استهداف المدن، ومن القصف العشوائي الذي كان يطاول السكان المدنيين.

ومما أذكره حدث جرى لنا في ختام سنتنا الدراسية، في حزيران / يونيو من العام نفسه. وكان المعلمون يسلموننا دفاتر علاماتنا. فإذا المعارك الأخوية تندلع في المدينة، واضعة حداً نهائياً لأول احتفال مدرسي لنا. فاندفعنا للتو خارج المدرسة باتجاه منزلنا. رعود عظيمة كانت تمزق السماء. وطائرات، يشار إليها بالإصبع. وكان بوسع أحدنا أن يتميزها بوضوح. وللحال حضرتني تحذيرات والدتي بألا نمس الألعاب التي يمكن أن نجدها على الطرقات أو في الأراضي البور. وكانت الإذاعة اللبنانية أوردت خبراً عن انفجار حصل في الجنوب، وأخطرت في إثره العائلات بضرورة التنبه للأشياء التي يرميها الإسرائيليون بمثابة أفخاخ متفجرة. وركضتُ والتفتُ الى الوراء لأصيح بابنه عمي بألا تلمس شيئاً وأن نسرع الى منازلنا. وخلتُ أن خلفي جسماً قذف به الإنفجار. ولم أدر أذ كان الشخص أصيب بالقصف أم قتل.

اليوم، ما عدت أعرف إذا كنت قد خبرت حقاً هذه الحادثة، أو شاهدتها على شاشة التلفزيون، قبل أن تخالط صور طفولتي الأعظم رسوخاً في مخيلتي.

وبدءاً من هذه السنة ما فتئت المدرسة تتعرض لهذا الانقطاع الذي صارت تفرضه المنازعات. في المرة الأولى شأن لاحقاتها، لم يكن أحد يعلم شيئاً عما يحصل. ولأي سبب كان المعلمون يوقفون الدروس؟ ولأي سبب كنت ترى الأهل منتظرين في باحة المدرسة، والوقت لا يزال صباحاً؟ ولأي سبب كانوا يأتون لأخذنا؟ وما كان أي سؤال ليلقى إجابة منطقية تفسره.

كانت تلك الحقبة التي كان الناس فيها يتوقفون عن العمل دون معرفة المدى الزمني الذي يعاودون بعده أشغالهم، والتي لا يعود فيها المرء وحده الى المنزل، والتي ينبغي فيها توقع مجيء الأهل الىالمدارس ليتمكنوا من اصطحاب أبنائهم الى المنازل. كانت تلك الحقبة التي استشعرت فيها كل مرة بالخوف نفسه: ألا يأتي أحد لاصطحابي هذا اليوم، وأرى نفسي متروكة وحدي وسط القذائف والإنفجارات. وكان الأطفال جميعهم، على حد علمي يتملكهم هذا الخوف، وحتى لو رأيتهم يضاحكوننا لثانية واحدة بعد أن يلمحوا صورة والدهم أو والدتهم. وظلت الدراسة طويلاً على هذا النحو، ولم يتسن للتلاميذ أن يتابعوا سنتهم الدراسية، بعدئذ، الى ختامها المرجو. وما كنا لنعلم في صبيحة توجنا الى المدارس أن يومنا سيكون خالياً من المشاكل. وكان القيمون على التعليم لدينا يختصرون لنا الفصول الدراسية إذ يوزعون لنا دفاتر علاماتنا على نحو مفاجئ. وكان البعض ليعيد صفه بسبب المعارك التي لا عدّ لها، والتي أخذت تندلع بين فصيلين حليفين سابقاً وقد صارا اليوم ألد عدوين.

وظلت الأوضاع على هذه الحال حتى كان العام 1977. وفي خلال هذه السنة أقامت عائلتي في المبنى الحالي. ولكني إستمريت في ارتياد مدرستي، حيث كنت سُجلت في شهر أيلول / سبتمبر، والقائمة في مار مخايل، غير بعيد عن خط التماس. ولما كانت المدرسة بعيدة نوعاً ما عن منزلنا الجديد، شاءت أمي أن توفر لي سيارة "تاكسي"، وهي من نوع المارسيدس الرمادية يقودها رجل سكوت، في الأربعين من عمره. فكان يأتي إلينا ويقلني كل يوم الى المدرسة، ويعيدني منها الى أسفل الدرج لدينا. وذات يوم، وفيما كان السائق يعود بي، بعيد الظهر، وفي معيتي ركاب أربعة إذ بنا نقع وسط المعركة وتبادل القذائف المدفعية على مقربة من المخيم الفلسطيني صبرا وشاتيلا، حيث كان السائق معتاداً على إنزال تلميذين. وتعالت الضوضاء وصعدت غبائر الإنفجار حتى أعمت السائق وسط الشارع. فأصيب كل من حولنا بالذهول والرعب. وسرعان ما انفجرت قنبلة وراءنا. وأخرى انفجرت أمامنا. وبات كل من في السيارة يصرخون ويولولون. والأرض اهتزت من تحتنا. وكان في الأرض قريباً منا، جرحى. ولربما سقط قتلى. ورأيت الناس يهرولون صائحين، ويتراكضون من كل اتجاه أما السائقون بدورهم وقد أصابهم الجنون والهلع، فراحوا يطلقون زماميرهم ويسرعون ما أمكنهم ليشقوا لأنفسهم مجالاً للنجاة وسط الحشود. ومضى السائق بسيارتنا وراح يتعرج سريعاً بين الحواجز والحرائق. حتى أمكن السائق أن يعود بنا، الى شاطئ الأمان سالمين مع أن ذلك اليوم كان من أخطر ما شهدته بيروت وأشد ما عرفت من أيام مرعبة فيها.

لم يعرف أهلي شيئاً مما حدث لنا ذلك النهار. ذلك أن لساني كان أقل طلاقة في ما خص حياتي، ولم أرو لهم هذه العودة الخطرة والشاقة.

وفي زمن ليس بالطويل، بدءاً من العام 1975، جعلت الحرب تفرض علينا مبادئها، وسرعان ما صارت لنا بمثابة الطقوس. وأول هذه المبادئ أن نحتمي جيداً، ما أمكننا، وعليه لم نلبث أن صرنا قادرين على تخمين الوضع الأكثر أمانة، حيث يسعنا أن نختبئ حال تجدد القصف علينا – وكان يفترض بهذا المكان أن يبدو محصناً للغاية، وقائماً بين جدارين على الأقل، تخفيفاً من عزم الصواريخ المحتملة. ولأن شقتنا الأولى لم تكن تتمتع بهذا الامتياز (إنما كانت على العكس، أكثر المنازل تعرضاً للقصف وطلقات القناصة)، كنا نضطر دوماً الى اللجوء لدى جارنا في الطابق نفسه، وقاية من أعمال القصف المفاجئة التي وسعها أن تتأبد ليالي طويلة لا عد لها ولا حصر. غير أننا سرعان ما أخذتنا رتابة الأمور ونسينا الحذر، وأهملنا المخابئ. وفي فترة وجيزة، صرنا خبراء في تخزين الأطعمة على اختلافها والمؤن على أنواعها. وكان لنا أخيراً، أن نكتشف الأسلحة، وأنماطها المختلفة وعياراتها ومصادر انطلاقها التي أمكن لنا تبينها كلما سمعنا صاروخاً أو سلاحاً آلياً.

والحرب تفرض كذلك جوانبها الأخرى. مثل ذلك طقطقة الألحان الخاصة بالأنباء المعجلة في الإذاعة، كلما أدركنا تصعيداً للكراهية والعنف في المعارك. وكان لكل معسكر محطته الإذاعية الناطقة الرسمية باسمه، وكان من اليسير أن يحلل المرء المعلومات التي يدلى بها حالما يعرف الناطق بها. وصار انقطاع المياه والكهرباء، وتوالي انقطاعهما حيناً بعد آخر، القاعدة التي اعتدنا على اتباعها. وتعلمنا أن نعمل بما هو قائم، أي أن نحيا من دون أمور كثيرة. وكلما رسخت الحرب من وجودها بيننا، ازدادت تقنياتنا وبراعاتنا. فكنا نستضيء بحسب ما تمليه علينا السنوات بالشموع أو بالكاز، أو بالغاز، وبناءً على "ميول" المستفيدين من الأوضاع، وقد فرضوها علينا. أما تخزين المياه فكان يطرح في ذاته مسائل شائكة للغاية. ذلك أن ضغط المياه غالباً ما يكون ضعيفاً منذ دفعها من الشركة، فتعجز هذه عن بلوغ الطوابق العليا. وبعد الصفائح الآخذة بالإتساع، والتي نملؤها في الطابق الأرضي، يأتي دور محركات الضخ، فيصير دويها متصلاً بعالمنا الصوتي الجديد، أولاً لتغذية القساطل ومن ثم لملء الخزانات حين يطول انقطاع المياه أياماً كثيرة. وأدركت في برهة قصيرة، أن الحرب تشيع الانعدام في المساواة بين الناس، على نحو ما يؤديه الموت، والمقدار عينيه من اليقين. فكان الأكثر غنىً مقتدرين في كل شيء، ولم يحرموا شيئاً، وكانت محطات الضخ لديهم ومولدات الكهرباء تنطق عن هذا الاختلال. وبالمقابل وجدت الفقراء مضطرين الى سرقة خطوط الكهرباء. بالتعليق على خطوط الشركة التي لا تزال عاملة، حتى أن الناظر الى ظاهرة التعليق في حينه، يجد خيوطاً هائلة أشبه بخيوط العناكب العملاقة وقد امتدت في كل شوارع بيروت وأزقتها.

وكان للمعارك بدورها أن تفرض أسماءها. فاكتشفنا على مدى الأسابيع القليلة التي تلت اندلاع الحرب الكلمات التالية: القناصة، والمهجرين، واللاجئين – أمثالنا ممن حرمتهم أعمال القصف من السكن في منزلهم الأول. وفيما بعد، وإثر احتلال إسرائيل للمنطقة الجنوبية المحاذية لها حماية لحدودها الشمالية، ارتفعت أعداد اللاجئين الى بيروت وضواحيها، وسرعان ما بلغت عشرات الآلاف. ونشأ ما يسمى بتبديل المواقع والمنازل بين الذين فروا من المعارك في بيروت، تاركين بيوتهم فارغة، وبين الذين احتلوها لحرمانهم من كل شيء، ويأساً من إحقاق مطالبهم. والحال أن سكان الجنوب الذين حلوا حديثاً في بيروت اكتشفوا عالماً مدينياً كاملاً، تعمره الأبنية في ورطة مقيمة، ولا نملك منزلاً، فقد رأيت والدي متصدياً لهذه التجربة، مانعاً إيانا من الإقامة في بيت هجره سكانه، حتى ولو أياماً قليلةً.

وإذا ما شئت أن تصف اللاجئين (اللبنانيين بالطبع)، فقد صح وصفهم أنهم صفوف من السيارات التي حُشيت بالعلب وأغراض النوم والملابس، وباتت على أهبة الفرار من ساحات القتال، كلما اندلعت المعارك أو عنفت. وحين غادرنا منزلنا الأول، عام 1975، حملنا معنا البراد والغسالة وبعض قطع الأثاث، سريرين ومقاعد. فكان لهذه المقتنيات البائسة أن تظل في دير ميماس، حيث أودعت في مكان آمن ريثما تعود العائلة أدراجها مطمئنة الى مصيرها. غير أن هذه الأخيرة أصابها ما أصابنا، فرأيتها تلحق بنا في كل منافينا، منهوكةً وتائهةً شأننا، أغراض مهجرة، ولاجئة، وسيئة المزاج، قابعة على سقف سيارة، أو في صندوقها، والتي راحت، شأننا، تعد خسائرها الحقيقية، و"أمواتها"، في الإنفجارات أو الحرائق المتلاحقة.

إذاً، كانت قريتنا دير ميماس أول ملجأ لنا من معارك الحرب الأهلية الأولى. ولم نكن الوحيدين في تصرفنا هذا حيال المعارك. إذ عجت القرية بسكانها وأبنائها ممن نزحوا عن المدينة. حتى رأيت كل امرئ جاهداً في الإقامة، كيفما اتفق، في كنف عائلته الى حين. وكان علي أن أسجل في مدرسة دير ميماس الابتدائية، في حين مضى أخواي وأختي الى ثانوية مرجعيون، البعيدة عن قريتنا كيلو مترات معدودة. فقضينا سنةً في القرية، هي من العمر، بعيداً عن ضوضاء الحرب.

وفي خلال هذه الإقامة، هزني حادث في الصميم. إذ أقدم أحد جيراننا ويدعى "سمعان" على قتل والدته "لور". ولم يكن في القتل ما يدل على السياسة. ذلك أن "لور" ذات الجمال الرائع، ذهبت ضحية الشائعات في ما خص علاقاتها وتصرفاتها. ولما كان ابنها "سمعان" ضنيناً بشرف العائلة رأى أن ينتقم ممن لطخت سمعتها، فأرداها بطلق من بندقيته. وكنتُ في هذه الأثناء أزور منزل المغدورة، لاهيةً مع ابراهيم ابن "لور" الفتي، والمريض عقلياً، وكنتُ أول من وجد جثة "لور" المضرجة بدمائها. فكانت هذه القتيلة أول ميت أنظره بعيني، ومن هذا القرب.

غير أن الحرب لم تشأ أن تجنب هذا الملجأ الأمين من شرورها. فبعد سنتين من عودتنا الى بيروت، عام 1978، قرر الإسرائيليون اجتياح الجنوب ليبعدوا منظمة التحرير الفلسطينية عن حدودهم. في البدء، رمت الطوافات بالمناشير، داعيةً سكان دير ميماس الى الهرب منها. فرأيت غالبية سكان القرية وقد لجأت الى البراري. ومَن اتجه منهم صوب القرى المسلمة، لقوا ترحاباً منهم وإقامة على أيسر ما يكون. ولم يبق في البلدة إلا بعض الأشخاص، المعتصمين ببيوتهم، من دون أن يتعدوا العشرين شخصاً. وما أن هدأ القصف قليلاً حتى رأيت أعداداً كبيرة من الملتجئين يعودون الى ديارهم .

غير أن دير ميماس ظلت لأمد بعيد ، محتلة من قبل الجيش الإسرائيلي.

وبالعودة الى بيروت، وتحديداً في خريف العام 1976، باتت الإشتباكات خبزنا اليومي. وما كانت لتتوقف إلا خلال آونات وقف إطلاق النار الهشة. صارت الحرب لنا شأناً يومياً. تقيس الأيام بمقياسها وتمحو السنوات التي تشابهت في ذاكرتي حتى ما لا يميزها بعضها عن بعض إطلاقاً. فهي أي الحرب، تخلطها خلطاً برعودها وصرخاتها التي لا تنتهي. وهي تحفظ لنا أحياناً بعض اللحظات غير المتوقعة والعبثية. فعلى سبيل المثال كنت مرة برفقة أختيى نلقي بنظرنا في امتداد المشهد، وعصر ذلك اليوم بهي الصفاء، إذا بي ألمح بطارية مدفعية قائمة على بعد مئات الأمتار من منزلنا، فأخطرت أختي بذلك وبي قلق من ذلك المنظر، فأجابتني مغتاظة، بأن ما أقوله محض ادعاء. ولكني سرعان ما انتبهت الى أن فوهة الملالة أخذت تتحرك، وهالني أن أرى قائدها يوجهها شطر بيوت الحي حيث نحن. وما كدتُ أحذر أختي من هول ما ينتظرنا حتى اهتز الفضاء حولنا. فقد أصابت القذيفة منزلاً مجاوراً لمنزلنا وكان سكانه لحسن حظهم قد غادروه.

وكلما تقدمتُ سنةً تكشفت لي المعارك عن وجه مختلف. وقد تسنى لي بفضل انتسابي الى إتحاد الشباب الديموقراطي أن أشهد فصول هذه المأساة، التي بدت مستمرة الى ما لا نهاية. وإذ انخرطنا في الدفاع المدني، الذي كان للصليب والهلال الأحمر اللبنانيين الفضل في تنظيمه، رحنا نمد يد العون الى الجرحى والأشد فقراً، ممن كانوا محرومين من كل شيء وهي في مخابئ بائسة. إلا أنني مضيتُ في اتحاد الشباب الديموقراطي أبعد بكثير من هذه الأعمال الإنسانية.

وكنت غالباً ما أشارك العاملين في المستوصفات القائمة في الأحياء. وكنت أغسل الثياب، وأهتم بالجرحى ممن جروحهم طفيفة، وحتى لو كان الشباب المنتمون الى الاتحاد، غير شيوعيين بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فقد اعتبرنا المقاتلون مناضلين.

في الحرب الأهلية، لا يسعك أن تبحث عن النشاط. إنما النشاط هو ما يستدعيك.

وهكذا صرت أتردد في العام 1984 الى موقع قتالي قريب كائن بين جدران أحد الأندية القديمة في بيروت، نادي الرواد. وكان تبادل القصف بين بيروت الشرقية والغربية يبلغ حدوداً قصوى من العنف. وبات اجتياز الخط الفاصل بينهما أمراً بالغ الخطورة. ذلك أن القناصة المتمركزين على الجانبين كانوا يصطادون المارة على أهون سبيل. وفي هذا الوضع ولا سيما إذا كان الناس مضطرين الى نقل "صديق" أو مريض، مع "ممرر" صديق على الغالب، فيعمد الأخير الى إلهاء القناص بتحريكه ثوباً أو ما أشبه طيف الرجل قبيل لحظة المرور وأثناءها. حتى إذا نجح الممرر اندفعت سيارة الإسعاف وجازت المعبر الخطر في حدود ثانية من الزمن. وكان ينبغي لركاب السيارة أن يظلوا خافضي الرؤوس.

وانصرفت في نادي الرواد الى المهمات المنزلية المعتادة ذات يوم، شرح لي أحد أفراد الميليشيات كيفية استخدام اللاسلكي الذي يتيح لنا الاتصال بكل نقطة عسكرية رابطاً إياها بالأخرى. وكان كل ما فيه مرمزاً. ولا يسمح على الإطلاق بإيضاح الرسائل المنقولة. وبينما كنا نتحدث، إذا بقذيفة تنفجر غير بعيد من النادي. فقتل على الفور أحد أفراد الميليشيا التابعة للحزب التقدمي الإشتراكي. وعلى الفور خلا المركز من مقاتليه. والى جانبي، أخذ اللاسلكي العتيد يرن رنته المعهودة. فرفعت السماعة بصورة آلية وأجبت السائل. فكان المسؤول عن القيادة العامة للحزب وهو يقوم بجولة تفقدية للمراكز التابعة له. ولما كنت قد نسيت تعليمات الأمان رحتُ أجيبُ بحدة ظاهرة، وأفصل في مجريات الحادثة ودقائقها ما جعل محدثي يضيق غيظاً مني حانقاً من عدم تبصري. وفي هذه الأثناء دخل المسؤول عني وأوقف للتو هذه الكارثة. مع ذلك، عوقب لخفته وإهماله مسؤوليته.

وفي ما بعد، اندلع صراع آخر بين فصيلين لبنانيين جعلني انغمس من جديد، في لجة هذا المعترك، الخلي من الأمجاد. وكان الصراع، إذ ذاك دائراً بين الحزب الشيوعي وحركة أمل الشيعية. ومن جديد رأيتني ملتزمة تأمين دوام في مركز للإسعاف ففي أغلب المعارك الشرسة، كان العديد من شبان الاتحاد يُفرزون الى هذا المركز ولكن برفقة زميلين لهم من جمعيات أخرى، أما نحن فبقينا طوال هذه الاشتباكات، نُعنى بالجرحى من ذوي الإصابات الطفيفة، ونضمد جراحهم في مواقعهم. وظللنا على هذا النحو ثلاثة أيام بلياليها وكان في عهدتنا خمسة عشر مقاتلاً، ذلك أن ميلشيات حركة أمل ظلت تفتش المستوصفات ومراكز الإسعاف تفتيشاً دقيقاً بحثاً عن "الأعداء". فإذا ما وجدت أحدهم الى تصفيته للحال.

في المركز الذي تولينا أمره، كنت مسؤولة عن الأدوية الواردة اليه، على سبيل المثال، كان ينبغي لي أن أتأكد من صلاحية كل دواء، وأعنى بالمطبخ والغسيل، على قدم المساواة مع رفيقي. وكان التوتر يبقينا متيقظين دوماً. حتى إذا انقضت اثنتان وسبعون ساعة على الجهود، المواكبة للقتال، صدرت الأوامر إلينا بضرورة إخلاء المواقع، ما دام الوضع في غير صالح الحزب ميدانياً. للحال رحنا نمحو كل أثر من النشاط داخل المركز، وقفلنا عائدين الى منازلنا. وكان خير ما استقبلتني به أمي، وللمرة الأولى، أنها بدت متفهمةً لما أنا فيه، غير متشددة أو عنيفة حيال ما يشوه حياتي العادية.

فهي لم تكن على علم بالمخاطر والأهوال التي اعترضت سبيلي. وفي أثناء خدمتي هذه، كنت استدعيت على عجل لأرافق مسؤولاً في الحزب التقدمي الإشتراكي ، مصاباً إصابة بالغة، الى مستشفى الجامعة الأميركية. في البدء تلقى المصاب علاجاً أولياً في مستوصف قريب، كان يدعى الترك، ولما ساءت حالته تطلب نقله الى مركز أكثر تجهيزاً. ولما كان الإشتراكيون بأمس الحاجة الى دليل، يرشدهم الى الطرق الأكثر أماناً وبعداً عن نار القناصة ليبلغوا الجامعة الأميركية قر الرأي أن نرافقهم. فمضينا بسيارة الإسعاف التابعة للإتحاد تواكبها بعض الآليات التي أعتلاها حراس القائد الإشتراكي المصاب وكانوا كثيرين. وكما بات مألوفاً في ظروف مماثلة، تكون خلالها شخصية سياسية بارزة في إحدى زياراتها أو تنقلاتها العادية، أُطلقت صفارات سيارتنا وأخذ المرافقون يطلقون الرصاص من أسلحة الكلاشينكوف، ويتبعونها بزمامير سياراتهم المدوية.
ونحن على هذه الصورة، أمكن لنا أن نجتاز أكثر نقاط المرور حساسية، من دون أن يصاب أحدنا بأذى. و كنا ثلاثة حول الجريح: أنا الجالسة الى الخلف والمهتمة بتثبيته على محمله داخل سيارة مسرعةٍ على أتم ما يكون الطيش، والسائق والمسعف. ولئن كان رباننا يحفظ الطرقات عن ظهر قلب فإن التوتر الشديد جعل نقاط الإرتكاز لديه تختلط في ذهنه. وكان ينبغي لنا أن نمر للحظةٍ واحدة بشارع يقع على مرمى قوات ميليشا أمل ثم ننعطف بطرفة عين الى اليسار قبل أن يستدركوا أمرهم ويردوا. وما أن بلغت سيارة الإسعاف هذا التفرع انعطفت الى اليمين بدلاً من أن تميل في استدارة واحدة الى اليسار. ولم نجد أنفسنا إلا في مواجهة ميليشيات أمل التي سارع أفرادها الى تلقيم أسلحتهم وتوجيه قاذفاتهم نحو سيارتنا. وللفور صحنا بالسائق بأن يميل بنا الى اليسار، ففعل وبانحرافة مريعة دفع بنا الربان الى شارع مواز، نجانا بها، فأصابت الرصاصات والقذائف جدران الشارع حيث كدنا نصرع.

ولكن ما تراه الحظ فاعلاً حين تشتد الحرب لتبلغ ذروة جنونها؟ ابن عمي مروان لقي مصرعه في العام 1981، وذلك خلال عملية تفجير أصابت محيط الجامعة العربية. ولسوء حظنا وحظ المغدور كان ذلك التفجير الذي استخدمت فيه سيارة مفخخة، أشد عمليات التفجير هولاً وأبشعها فتكاً بأهل العاصمة وأرزاقهم. كان مروان ابن عمي داود، قد صودف وجوده في لبنان، لزيارة كان يقوم بها لأهله بعد فترة دراسية في ألمانيا الشرقية وما أفظعها مأساةً أن يُقتل يوم ميلاده. وكان يفترض به أن يلاقي أصدقاءه وأبناء عمومته للاحتفال بعيد ميلاده في أحد مطاعم العاصمة. كان لا يزال واقفاً حين انفجرت العبوة الناسفة فحصدته ومن حوله. ومع أن ابن عمي كان يقف بعيداً من السيارة المفخخة، إلا أن الانفجار كان من القوة حيث دفعه بعيداً، وأسقطه أرضاً جثة بلا رأس.

وعلى الفور تعالت الأنباء العاجلة من الإذاعات. ولا يزال في خاطري ذكر كل بيان يُقرأ على عجل، وجو الوجوم يعتري وجه كل فرد يسمعها. وكلما حصل انفجار في بيروت، خلت، وكل فرد فيها يسائل نفسه بحرقة وغصة عما إذا كان أحد أقربائه مرّ في ذلك الحي المستهدف أو توقف فيه. فإذا ما ثبت له ذلك، لزمه أن يمضي في جولة استكشاف مضنية ويائسة يتحرى المشارح كاشفاً عن كل جثة عساه يتعرف في إحداها الى وجه عزيزه، أو الى جثمانه.

وغالباً ما كانت حلقة العنف الجهنمية المتمثلة بعمليات التفجير المتنقلة، وشدتها المنقطعة النظير، غالباً ما كانتا تحولان دون التعرف الى جثث القتلى المشوهة تشويهاً لا يطاق. وعليه، فقد كان ذوو القتيل وأصدقاؤه بمحض قرائن صادقة دالة عليه، ليكونوا على بينة من المصير العصي على التصور الذي آل إليه ابنهم أو عزيزهم.

ذلك اليوم، كان إيذاناً لعائلتنا بأن الأمل طوى لواءه وغار في لجة فشله، باكتشاف جثة مروان وانسدال ستار من الحداد ثقيل على حياة كل من أفرادها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى