الجمعة ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد المصري

مفكرة سوداء

(ابتسم أمام عدوك دائما....هو أحق بالسخرية من أي شيء آخر)

هكذا كان أبي يقولها دائما.. وأنا أقف معه في الشرفة كل ليلة قبل أن تدق الساعة ويتوسط القمر سماءنا برقة.. طقوس خاصة تلك التي يفعلها عندما يتحدث إلي عن الحياة فيخرج سيجارته البسيطة و يشعلها بهدوء .. ربما كان يظن أن تلك السيجارة تعطيه جاذبية ما.. وقد كانت تعطيه ذلك فعلا .. مع أول نفثة دخان منها يلقي حكمته متأملا رحلة الدخان إلى الأبدية بابتسامة ساخرة ونظرة متحسرة .. أحيانا كان يخبرني بقصص عن أناس ولوا منذ زمن بعيد.. وبينما هو يلقي ما علمته الحياة من حكم ويتلو علي أخبار السابقين كنت أتفرس ملامح وجهه كأني أراها أول مرة.. في كل يوم يخبرني فيه بشيء جديد كان هناك خط آخر يضاف إلى تجاعيد وجهه المتغضن.. شعر رأسه يزداد شيبة كل مرة.. وأنا بين هذا وذاك أطيح سكرا بحديثه.. كان هذا قبل أن يعتزل أبي تدخين سيجارته المحلية و يعتزل الحياة كلها.

*****

أهرع إلى مفكرتي الصغيرة لأكتب فيها حكمة أبي الجديدة.. في كل يوم كنت أفعل هذا حتى أخذه القدر وتركني وحيدا بكثير من الحكم وقليل من الخبرة.. أذكر أني جعلت ما في مفكرتي دستوري الصغير الذي تسير به حياتي.. ابتسمت كثيرا أمام أناس كثيرين.. بل ضحكت أحيانا..مضت بي الحياة هكذا تلقيني من بئر لآخر وأنا مازلت مبتسما.. كثيرون هم أعدائي.

*****

الباقي من الحياة عشر دقائق.. أقف أمام بنيتي الصغيرة أحكي لها الكثير من الحكايات عمن سبقوا والكثير من الحكم.. تتفرسني في فضول.. هي أيضا أدركت أن وجهي يحمل خطا جديدا في كل يوم أخبرها فيه بشيء جديد من مفكرتي الصغيرة بعد النفثة الأولى من دخان سيجارتي.. ينتهي حديثنا فتودعني ابنتي بابتسامتها البريئة قبل أن تغادر الشرفة إلى مضجعها لتعايش المزيد من الأحلام الوردية.. مازلت أقف في الشرفة أفكر.. أراجع تاريخ حياتي القصيرة لأجد أني نسيت أن ابتسم لنفسي .. ابتسامة ساخرة تراقص الدخان الخارج من فمي.. أفتح مفكرتي الصغيرة وأخرج القلم لأكتب الجملة الأخيرة خاتما كتاب الحياة .
(ابتسم أمام نفسك..هي أحق بالسخرية من أي شيء آخر)
أدخل غرفة الفتاة لأضع المفكرة تحت وسادتها الصغيرة..... ثم أنام

*****

في الصباح تسمع صوت نواح بشع وتلمح في ركن الحجرة فتاة صغيرة أمسكت بمفكرة سوداء .. وتبكي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى