الجمعة ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٨

الصـــــورة الشعرية قديما وحديثا

بقلم: عبد الحميد قاوي

من المصطلحات النقدية التي نالت اهتمام نقادنا المحدثين
مصطلح الصورة الشعرية، ويرجع هذا الاهتمام إلى الصـورة
الشعرية نفسها، كـونها الأداة المثلى التي يتوسل بها النــاقد
الحصيف للكشف عن أصالة التجربة الشعرية، وطريقة المبـدع
في صياغة أعماله الفنية.ولما كانت الصورة بهذه الأهمية جاء
هذا البحث لتقديم مفهوم لها عند نقادنا القدامى والمحدثين.

مقدمة:

لقد حظي مصطلح (الصورة الشعرية) – إلى جانب المصطلحات النقدية الحديثة والمعاصرة - باهتمام دارسينا ونقدنا المعاصرين، ذلك أنّ الصورة الشعرية ركن أساس من أركان العمل الأدبي، ووسيلة الأديب الأولى التي يستعين بها في صياغة تجربته الإبداعية، وأداة الناقد المثلى التي يتوسّل بها في الحكم على أصالة الأعمال الأدبية، وصدق التجربة الشعرية.

فالصورة الشعرية- كما نعتت – لبّ العمل الشعري الذي يتميّز به، وجوهره الدائم والثابت، بل إنّ ذات الشاعر لـ «تتحقّق موضوعيا في الصورة أكثر ممّا تتحقق في أيّ عنصر آخر من عناصر البناء الشعري»، إلا أن هذا، لا يعني أنّها نالت نصيبها من الدراسة واستوفت حقها من التحليل، بل إنّ المصطلح لا يزال غائما عند الكثير من النقاد والدارسين، ومردّ هذا – في نظرنا – إلى طبيعة المصطلح نفسه، وارتباطاته، بل وتداخله مع مصطلحات أخرى، مثل (الصورة الأدبية)، و (الصورة الفنية)، و (الصورة البلاغية)، و(الصورة البيانية)، و (الصورة المجازية)... ناهيك عن تشعب مفاهيمه، وتعدّد مقاصده المنبثقة عن المذاهب الأدبية، والمناهج النقدية المتعددة، وتطوّر الحقول المعرفية التي يتكئ عليها النقد الحديث في تقييمها.

إنّ الذي عليه أكثر الدراسين، أنّ الصورة الشعرية، بوصفها مصطلحا نقديا حديثا، قد ظهرت في ظلّ المذهب الرومانسي، و مع نظرية (كولردج) في الخيال الانساني والخيال الشعري؛ لكن هل يعني هذا أنّ نقدنا العربي القديم كان خلوا من مباحثها؟، أو أنّ نقدنا العربي القديم – وإن جهل مفهوم الصورة الفنية – لم يعرف مباحث الخيال التي لها صلة مباشرة بهذا المصطلح الذي نزعم أنّه حديث النشأة؟

ليس من السّهل، ولا من الموضوعية، والروح العلمية، قول (نعم) أو (لا)، مالم نقمْ فهْما حقيقيا للمصطلح نفسه، كي يتسنّى لنا البحث، و يتاح له إدراك قضاياه ودلالاته إدراكا يتناسب والظروف التاريخية والحضارية للعصر، ومالم نبتعد عن تقصّى الدلالة الحرفية للمصطلح بمفهومه المعاصر في نقدنا القديم.

بهذا الشّكل يمكننا أن نذهب مذهب الدكتور (جابر عصفور) في أنّنا «قد لا نجد المصطلح بهذه الصياغة الحديثة في التراث البلاغي والنّقدي عند العرب، ولكن المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها، موجودة في التراث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميّزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام».

1- الصورة في النقد العربي القديم:

يعدّ نصّ (الجاحظ) في طليعة النصوص التي يقترب فيها لفظ (صورة) بما نحن بصدد البحث عنه، إذ يقول: «... والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجميّ والعربي، والقرويّ والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الّطبع، وجودة السّبك. فإنّما الشعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير».

وعلى الرّغم من أنّ (الجاحظ) لم يُبيّن لنا كيف أنّ الشعر ضرب من التصوير، فإنّه بالإمكان إماطة اللثام عن ثلاث دلالات، يكتسبها مصطلح (التصوير) عنده، متمثلة في ثلاث مبادئ هي:

أ‌- مبدأ صياغة الأفكار التي تعمل على التأثير واستمالة المتلقي نحو سلوك معين.

ب‌- مبدأ التجسيم – كما يسمى في وقتنا الحاضر – أو التقديم الحسي للمعنى.

جـ- مبدأ التأثير والاستمالة والإشارة، إذ التقديم الحسّي للمعنى، يجعل الشعر مماثلا لفن الرّسم، ومشابها له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقّي، وإنْ اختلفا في المادة التي ينبني عليها كلّ واحد منهما.

ويبدو أنّ (الجاحظ)، عند طرح فكرة التصوير – على هذا النحّو - كان يريد أن يطرح فكرة التقّديم الحسّي للمعنى، وتشكيله على نحو تصويري، وبهذا، يمكننا اعتبار مفهوم التصوير عند الجاحظ مرحلة أولية للتحديد الدلالي لمصطلح (الصورة)، خاصة أنّ (الجاحظ)لم يربط المصطلح بنصوص وشواهد عينية توضح مضمونه وفحواه، زيادة عن اقتران مفهومه بثنائية اللّفظ والمعنى التي شغلت نقادنا القدامى ردحا من الزمن.

وقريب من هذا الفهم والطرح، قول (قدامة بن جعفر) في قضية (اللفظ والمعنى): «إنّ المعاني كلّها معرَّضة للشاعر، وله أن يتكلّم منها فيما أحبّ وآثر، من غير أن يحضر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كلّ صناعة من أنّه لابدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة، والفضّة للصياغة».

لقد جعل (قدامة) الشعر صورة للمعاني، فالمعاني كالمادة الخام للشعر، ومقدرة الشاعر الحاذق تبرز في اللفظ والشكل، لا في المعنى والفكرة، وبالتالي، فإنّ الصورة عند (قدامة)، المتأثر بالمنطق والفلسفة اليونانية، تتحدّد من كونها الوسيلة التي يُستعان بها في تشكيل المادة وصوغها، شأنها في هذا شأن باقي الصناعات، وهي أيضا محاكاة حرفية للمادة الموضوعة، المعنى يزّينها و يحسّنها، ويبرزها في شكل حلية تبرهن على براعة الصائغ، من غير أن يعمل في تغيير هذه المادة، أو تسور روابطها، أو علائقها الوضعية المعروفة.

وكما هو واضح هنا، أنّ (قدامة)لم يضف شيئا ذا بال على نحو ما أقرّه (الجاحظ) وحدّده، وبهذا، يكون تحديده لمفهوم المصطلح امتدادا لمفهوم التصوير عند الجاحظ.

ويمضي (القاضي الجرجاني) في (وساطته) بالصورة قُدُما، فيربطها بروابط شعورية تصلها بالنّفس، وتمزجها بالقلـب، حينما دافـع عن شعر المتنبي. يقول الجرجـاني: «وإنما الكلام أصوات محلّها من الأسماع محّل النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كلّ مذهب، وتقف من التّمام بكلّ طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنّفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قايست واعتبرت، ونظرت وفكّرت - لهذه المزيّة سببا، ولما خصّت به مقتضى».

وإذا كان (القاضي الجرجاني) قد ربط لفظ (الصورة) بوشائج شعورية، تصلها بالنفس، وتمزجها بالقلب – كما سبق وأن ذكرنا – فإنّه مع هذا،لم يحدّدها، أو يصف جوانبها، إذ بقي الأمر لديه مجرّد إحساس، إلى أن جاء (عبد القاهر الجرجاني) فاقترب به من المفهوم المعاصر، وارتبط هذا بنظريته المشهورة في (النّظـم).

لم ينظر (عبد القاهر الجرجاني) إلى الشعر على أنّه معنى، أو مبنى، يسبق أحدهما الآخر، بل نظر إليه على أنّه معنى ومبنى ينتظمان في الصورة، لا سبق، ولا فضل، ولا مزّية لأحدهما عن الآخر. يقول (عبد القاهر): «وأعلم أنّ قولنا (الصورة) إنّما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا، فلمّا رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة، فكان بين إنسان من إنسان، وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك، وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان بين خاتم من خاتم، وسوار من سوار بذلك، ثمّ وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرْقا، عبّرنا عن ذلك الفرق، وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول (الجاحظ): "وإنّما الشعر صناعة وضرب من التصوير" ».

والذي يمكن أن نستخلصه من هذا النّص، بعد أن أقرّ (عبد القاهر الجرجاني) أنّ لفظ (الصورة) كان مستعملا قبله، ولم يكن من ابتداعه، أنّ (الصورة) تمثيل وقيـاس، فإذا كان الاختلاف بين الأشياء الموجودة في الطبيعة، والتباين الواضح بين المعاني في أبيات الشعر المختلفة راجع إلى الاختلاف بين الصور، فمناط الفضيلة في الكلام، راجع إلى (الصورة) التي يرسمها النّظم.

وتنال فكرة (التصوير) عند (عبد القاهر الجرجاني) قيمة أكبر في كتابه (أسرار البلاغة)، إذ ستغدو محور فكرته النقدية التي تبنّاها لتحليل (الصورة البيانية)، وبيان مكانتها في الشعر، خاصة، دورها في التأثير النّفسي.

لقد أقام (عبد القاهر) موازنة بين عمل الشاعر وعمل الرسّام في كيفية تشكيل مادتيهما، وطريقتهما في إثارة المتلقي، فلاحظ أنّ كليهما يهدف إلى إحداث التآزر والتآلف بين عناصر مادتهما، فالشاعر يحدث هذا عن طريق أحرفه وكلامه في القصيدة، أمّا الرسّام، فيحدث هذا عن طريق ألوانه وخطوطه على اللوحة، كما لا حظ أنّ كلاًّ منهما يحدث تأثيرا خاصا في نفوس المتلقين، ويوقع المحاكيات في أوهامهم وحواسهم بطريقة تجعلهم ينفعلون أشد الانفعال بطريقته الحسّية في التقديم، ونجاحه في صياغة مادته.

إنّ لجوء (عبد القاهر الجرجاني)، في (أسراره)، إلى المقابلة بين الشعر والرّسم جعله يركزّ على الجانب البصري في التصوير الشعري، وبهذا يكون قد اقترب من طروحات الفلاسفة المسلمين القدامى الذين رأوا في الشعر، بما يقوم عليه من تخييل،أنّه « يمثّل لمخيّلة المتلقي مشاهـد بصرية واضحة، و إنّ أفضل الوصف الشعري هو ما قلب السّمع، وجعل المتلقي يتمثّل مشهدا منظورا كأنه يراه ويعانيه».

ليس من شكّ أنّ الصورة الفنية نتاج ملكة الخيال، ودينامية الخيال لا تعني محاكاة العالم الخارجي، وإنّما تعني الابتكار والإبداع، وإبراز علاقات جديدة بين عناصر متضادّة، أو متنافرة، أو متباعدة، وعلى هذا الأساس، لا يمكننا قصر الصورة الفنية في الأنماط البصرية فقط، بل إنها تتجاوز هذا إلى إثارة صور، لها صلة بكلّ الإحساسات الممكنة التي يتكوّن منها الإدراك الإنساني ذاته.

ولقد أقرّ علماء النّفس المحدثون هذا الأمر، إذ قدّموا للدارسين والباحثين أنماطا متعدّدة من الصور في الشعر، أهمّها: النمط الذوقي، والنمط الشميّ، والنّمط اللمسي، والنمط السمعي.. وهكذا.

إنّ عبد القاهر الجرجاني – على الرّغم من تركيزه على ما تحدثه الصورة في احساسات المتلقي، وخيالاته، أكثر من تركيزه على بيان طبيعة الصورة الفنية ذاتها - فإنّ جهده ما زال قائما إلى وقتنا الحاضر، حتى بدا لبعض نقادنا المحدثين أنّ بلاغة الصورة الفنية المعاصرة ما هي في حقيقتها إلاّ امتداد لبلاغة الجرجاني وبيانه.

2- الصورة في النقد الحديث:

2-أ - عند النقاد الغربيين:

حصر النقاد الغربيون الصورة في ثلاث دلالات هي:

  الصورة بوصفها نتاجا لعمل الذهن الإنساني أو(الصورة الذهنية):

وهذه الدلالة منبثقة من طروحات الدراسات السيكولوجية التي فتح أبوابها (فرويد) بمباحثه عن العقل الباطن،متجهة في هذا اتجاها سلوكيا من حيث الاهتمام بالصورة الذهنية كنتيجة لدينامية الذهن الإنساني في تأثيره بالإبداع الفني،و يكون التّركيز، في هذه الدلالة، موجّها نحو ما يحدث في ذهن القارئ، أوبعبارة أخرى، نتيجة الاستجابة التي تولّدها الصورة في ذهن المتلقي، وهي محدّدة بالحسّية، تصف العلاقة بين «العبارة المكتوبة في الصفحة، والإحساس الذي تولّده في الذهن، ويتضمّن بحث مشكلتين متوازيتين، تتصل أولهما بوصف القدرات الحسّية لذهن الشاعر، بطريقة موضوعية وتحليلية، وتتصل ثانيتها، بفحص واختيار وربما تحسين قدرة القرّاء على تقدير قيمة الصورة في الشعر، والمنهج المستخدم في ظلّ هذا التعريف منهج (إحصائي)، بمعنى، أن يقرأ الدارس القصيدة التي يحلّلها، ثم يسجّل بطريقة إحصائية وتصنيفية الصور المختلفة التي يمكن أن تثيرها القصيدة في ذهنه».

وتولي هذه الدلالة العنصر الحسّي في الصورة الفنية أهمية بالغة،اذ تصنف الصور بحسب مادتها الى صور بصرية و ذوقية و شمية و سمعية و...أي الصور المستمدة من عمل الحواس، ولا فرق عندها بين الحقيقي والمجازي من الصور، وقد تركّز أحيانا على أحدهما، وغالبا على كليهما.

  الصورة بوصفها نمطا يجسّد رؤية رمزية أو (الصورة الرامزة):

تشترك هذه الدلالة مع الدلالة السابقة في كونها نتاج مباحث الدراسات النفسية، وهي تهتم بوظيفة الصورة الفنية، «سواء كانت حقيقية أو مجازية، او كليهما معا باعتبارها رموزا تستمد فعاليتها من التداعي السيكولوجي.. وبالتالي، يهتم التحليل بتحديد وظيفة الصور المتكرّرة في القصيدة، باعتبارهذه الصور بمثابة لوازم نغمية، ووسائل بنائية، ورموز، تكشف عن دلالة القصيدة وما تشير إليه، كما يهتمّ التحليل بفحص العلاقة بين أنماط صور الشاعر ككلّ، وبين الأنماط المشابهة لها في الشعائر والأساطير».

و الصورة في رحابها تدرس من زاوية كونها تعبيرا رمزيا، فيركز على الأنماط المتكررة التي تدعى بـ(عناقيد الصورة)، وقد توسعت (كارولين سبريجن) بدراستها حول صور شكسبير في هذا المجال،وقيمة الصورة في هذه الدراسات يكمن في كونها تساعد على الكشف على المعاني العميقة التى توحي اليها القصيدة.

  الصورة بوصفها مجازا أو (الصورة المجازية):

تنطوي، تحت هذه الدلالة، جميع التعابير والأساليب غير الحقيقية، من استعارة ومجاز وكناية، أو الأساليب البلاغية المعروفة.

إنّ ارتباط الصورة الفنية بالجانب الحسّي الذي تقدّمه الرؤية البصرية - كما سبق الإشارة إليه – هو أبسط هذه الدلالات، وأقربها إلى الذّهن، ويعدّ تعريف الناقد والشاعر الإنجليزي (سيسل دي لويس -) للصورة الفنية، وأنها « رسم قوامه الكلمات» التعريف الأقرب إلى الدلالة الحرفية لمصطلح الصورة التي تهتمّ بالنمط البصري.

حقاّ، إنّه ليس بالإمكان إهمال الدّور الذي يمثله الجانب الحسّي في مجال مدركاتنا،
كونه من أهمّ وسائل التأثير بالصورة، وتَمْكينها في النّفس، وتقوية جانب المدركات فينا. فالتقديم الحسّي يساعدنا كثيرا على فهم الصورة الفنية، وإظهار مجال الجمال والإبداع فيها، خاصة، فيما ارتبط بتصوير المعنويات أو الأمور المجرّدة التي لا تخضع إلى
المشاهدة ولا تدرك بالمعاينة. وهذا الذي يعتمده الفن والأدب.

بيد أن هذا الأمر ليس حكرا على الفنانين والأدباء وحدهم، بل قد يشمل جميع
الناس. فالناس في أحاديثهم اليومية، عادة ما يستعينون بهذا التجسيد الحسي في تقريب واقعهم الخارجي، أو تقرير عالمهم الداخلي، قصد توضح حقيقة غير مرئية أو غير مشاهدة.. ويبقى السؤال: هل الصورة الفنية هي نتاج رؤية بصرية دوما؟

إنّ الصورة ليست نتاج رؤية بصرية دائما، إذ إنّ هناك صورا تتكوّن من عناصر تجريدية بحتة، لا علاقة لها بالبصر مطلقّا، ولعلّ هذا ما جعل أغلب النقاد الغربيين المعاصرين يتجاوزون المفهوم البصري للصورة، لأنّ الناس كما قال (أوستن وويليك) يختلفون اختلافا شديدا في درجة تبصّرهم، وهاهو (إزرا باوند) -منّظر الحركات الشعرية المعاصرة-، يتسوّر في تعريفه الذي صاغه للصورة الفنية الدلالة التجسمية التي اعتنقها أصحاب الاتجاه المادي أو(التصويري) في الشعر، إذ يقول عنها: هي «تلك التي تقدّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن». ومن هنا، اكتسبت الصورة الفنية مفهوما جديدا، لتصبح كلاّ متكاملاّ، تمتزج فيها المصادر الخارجية من حسّية وموضوعية بالذات الشاعرة.

وثمّة ملاحظة وجب ذكرها هاهنا، ذلك أنّ الدلالة الحسّية التي ارتبطت بالصورة الفنية، جعلت بعض النقاد والدارسين المحدثين والمعاصرين يميلون إلى الأخذ بمصطلح (الاستعارة) بدلا من مصطلح (الصورة)، خاصة، عند (ريتشاردز) الذي يقول: «والصورة نفسها مضلّلة، إذ إننا لولم نحذرها، لانتهينا إلى أنّ الصورة تقدّم إدراكا حرفيا لشيء موجود بالفعل» ويقول جون مدلتون مري «كلّ ما يقال عن الصورة في الشعر، يمكن أن يصب في الاستعارة».

والظاهر عند هؤلاء النقاد، أنّ مصطلح (استعارة) أعمّ وأشمل من مصطلح (صورة)، هذا الذي لا نجده عند بعضهم الآخر من النقاد والدارسين المحدثين. فـ (كارولين سبرجن) – مثلا – ترى أنّ الصورة مصطلح عام، ينضوي تحته الأسلوب التشبيهي والاستعاري والمجازي بوجه عام. تقـول: «إنني أستعمل مصطلح صورة هنا، بحيث يشمل كل من (التشبيه) و (التشبيه المضغوط المركّز)، وأقصد به (الاستعارة). إنّ مصطلح (صورة) يجب أن نفهمه على أنّه يتضمّن كلّ صورة خيالية يعبّر عنها الشاعر، بواسطة انفعاله وتفكيره، سواء أكانت هذه الصورة الخيالية تشبيها، أم استعارة، بما تحمله الكلمات من معنى رحيب، لذ ينبغي أن نبعد عن قولنا الإيحاء الذي يجعل المصطلح معبّرا عن الصورة البصرية فقط.

2 - ب- عند النقاد العرب المحدثين:

يمكننا حصر اتجاهات النقاد العرب المحدثين حول مفهومهم للصورة في ثلاث اتجاهات هي:

 اتجاه تبنى طروحات النقاد الأوربيين الغربيين،ونفى عن العرب معرفتهم للصورة الفنية إذ التفت بعضهم إلى النقد الغربي، واقتبس منه الكثير من الدراسات وراح يطبق ما نهل من معارف وأفكار على نصوص شعرية قديمة، فتراءت له صورة المرأة رمزا للمعبودة الشمس، وصورة الثور الوحشي رمزا للمعبود القمر...، وهذا الذي اعتنقه كلّ من علي البطل في دراسته الموسومة بـ(الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها) ونصرت عبد الرحمن في كتابه (الصورةالفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث).

أما الدكتور مصطفى ناصف في (الصورة الأدبية)، ونعيم اليافي في (مقدمة
لدراسة الصورة الفنية،وتطوردراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث) فلم يبعدا عن سابقيهم في الاعتماد على النقد الأوربي،وتبني طروحاتهم في حقل الصورة.فها هو ناصف - متأثرا بالفكر الغربي- يرى أن مصطلح الاستعارة أهدى من مصطلح الصورة و أنّ كلمة (صورة) تستعمل –عادة – للدلالة على «كل ماله صلة بالتعبير الحسّي، وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، ذلك أنّ لفظ (الاستعارة) إذا حسن إدراكه، قد يكون أهدى من لفظ (الصورة)، وأنّ (الصورة) – إن جاز الحديث المفرد عنها- لن تستقلّ بحال عن الإدراك الاستعاري»

 واتجاه ثان – على قلّته – تشبّث بالقديم،وأعلى من شأنه،فلم يلتفت إلاّ لما أفرزه الفكر العربي القديم من أفكار ونظريات،ويمثّل هذا الاتجاه الدكتور كمال حسن البصير بكتابه (بناء الصورة الفنية في البيان العربي).

  واتجاه أخير معتدل،قرأ بعين الناقد البصير،فأقرّ فضل القديم،وبيّن ميزة الجديد الملائم وأوضحه، ومن هؤلاء علي إبراهيم أبو زيد في (الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي)، وعبد الله صالح نافع في (الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد) و بشرى موسى صالح في (الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث)، وجابر عصفور في (الصورة الفنية في التراث العربي القديم).

وإذا انتقلنا إلى التعاريف المصاغة للصورة وجدناها كثيرة لا يمكن حصرها في مبحث كهذا، ونكتفي باستعراض بعضها، فأحمد الشايب يقول عنها:«هي المادة التي تتركب من اللغة بدلالتها اللغوية والموسيقية، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والطباق وحسن التعليل »)، أمّا الدكتور علي صبح قيقول عنها:« هي التركيب القائم على الإصابة في التنسيق الفني الحي لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر – أعني خواطره ومشاعره وعواطفه - المطلق لعالم المحسّات ؛ ليكتشف عن حقيقة المشهد أوالمعنى، في إطار قوي نام محس مؤثّر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين، و عبد القادر القط يرى فيها:«الشّكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينّظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقات اللغة وإمكانيتها في الدلالة والتركيب والايقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والمجانسة وغيرها من وسائل التعبير الفني »، أمّا عبد الفتاح صالح نافع فيرى فيها:«الصيغة اللفظية التي يقدّم فيها الأديب فكرته، ويصوّر تجربته، ويتضمّن اصطلاح الصورة الشعرية جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يرى عليـه الشيء مشابها أو متفقا مع آخر، ويمكن أن يتركز في ثلاثة أصناف هي: التشبيه والمجاز والرمز»

إنّ اصطلاح (الحقيقة والمجاز) قد اتخذ في النقد الحديث والمعاصر اسم (الصورة) ونحن في دراستنا هذه، آثرنا مصطلح (الصورة) بدل مصطلح (الاستعارة) ذلك أنّ مصطلح (الصورة)، في نظرنا، أوسع وأشمل، فهو يشمل أنماطا تعبيرية مختلفة، بلاغية وغير بلاغية، فهناك أنماط غير بلاغية لا ترتبط بالمجاز مطلقا، وهي مع ذلك، تشكِّل صورة فنية.وما الميل إلى استخدام مصطلح (استعارة) بدل مصطلح (صورة) من بعض النقاد الغربيين والعرب – إلاّ انطلاقا من ادراكهم لطبيعة (الاستعارة)التي لها القدرة على تخطّي الحدود، وكسر الحواجز، وإذابة الفواصل، وخلق التفاعل والتجانس بين جميع العلاقات.

وخلاصة القول لا نرى في الصورة الفنية مجرد وصف تقريري،أومحاكاة أمينة للواقع الخارجي، أو الطبيعة وواقع الحياة، فحسب، بقدر ما نرى فيها أيضا الومضة التلقائية التي تفرض نفسها على المبدع في لحظة من الزمن كتعبير عن حالة نفسية وشعورية.

بقلم: عبد الحميد قاوي

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى