الأربعاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

دافئات المنى

في كل لقاء، كنت أملأ فضاءاتي بالعسل، وأمضي مع زهرة الحلم الوليد إلى أنفاق مدن نحاسية ، تنبت فيها شقائق النعمان، وتصب في انهار تموج بخضرة مياه رائقة، فيها جرار من الهوى والخبز واللوز والعمر المديد، وتمضي هذه الأنهار بين ضفاف لينة ، إلى بحار تشرف على الأبد، وكان فراقها صحراء تستبد بالمياه فتحيلها إلى صلصال أزلي.

ما إن ابتعد عنها ، حتى أحس بأنني فقدت الماء والهواء، وتصـير طريقي وعرة مزروعة بالملل، مسيجة بالكآبة و الانكسار.. أنظر من حولي، فأرى أشباحا بأنياب حادة تسير إلى جانبي، وتسخر مني .. نفسي مريضة .. وعيناي قطعتان زجاجيتان منطفئتان .. قلبي ينبض بخجل.. وأعصابي تستعد لأن تتمزق.

أنا الطير الصغير، أتابع سيري في طريق الندامة، بين الانشغال والتوتر، التأمل والأفكار المتعبة، الحيرة والضياع، عودتي إلى العش باهتة، وقلبي يسير معي بغير هدى. في داخل العش المستفيض بالزمهرير، أتكسر في واجهات الحيرة، وتفاجئني الأشباح سـادّة عليّ طريق الراحة، فيكاد الجنون يقيم في شفتي، وحين يضيق بيّ العش ، أذهب إلى الشرفة، لعلني أتخلص من حيرتي، لكن كتلة الحيرة تكبر وتكبر من حولي، ولا أجد غير السكوت السكوت.

أجلس وحيداً في أشداق الهاوية ، وذاكرتي مفجوعة بثرثرة الفراغ، اشاغل نفسي بالنظر إلى السماء، فلا أرى غير بعض المرايا وبرازخ ساطعة، أشعل في ظلمتي بضع قناديل وانثر في الهواء الكلام الذي لا يجيد الكلام، أطلب من قناديلي أن ترعاني بعين العطف، وأن تبعد عني قدر استطاعتها ليلة حبلى باحتراقات الأنين، غير أنها لا تستجيب لي، بل تحرقني على نار هادئة، ثم تذريني رماداً في غياهب القفار.

أجمع شتات الصور في غربتي المتسخة بالرماد، وأحاول أن اقنع ذاتي بالصبر حتى الصباح، لكن الصبر لا يحتمل صبري، أحاول أن أغرز الصراخ في خاصرة الليل والهواء، لكـن وحوش الكآبة تزمجر في تجاويف رأسي المليء بالطنين، أحاول أن أرسم صورتها على حدقتي عينيّ، لكن قلبي المتعب يدعوني إلى وليمة الانهيار، بعدئذ ترتعش نفسي ، يسيل منها الارتعاش، وأعود إلى شواطئ الكلام من جديد.

فجأة تتناوشني أفكار مألوفة وغير مألوفة ، بعضها تأتيني لتريحني للحظات، وبعضها تأتيني كما تأتي الكوارث على المدن.

أحمل أشلائي وأعود إلى الصالة، ولأن الفراغ جَمَلٌ يقضمني كما يقضم الشوك, يأخذني موج الكلام لأشهد مذبحة الذكريات من جديد.

آه.. كم من الموت البطيء يمر من بؤبؤي..

آه.. كم يريد أن يخلع الإنسان من داخلي..

يطول العذاب، والحزن يصل إلى الأعـماق، فأشعر كأن الزمن توقف عن الدوران، فلا الليل ينجلي ولا الصباح يأتي، أعود السرير، سريري جثة هامدة, وروحي غابة سوداء ، أشجارها مترعة بالأحزان ، ثمارها حبلى بالمرارة، وحطـّابها نهر يصب في عراء الفراغ، أتمدد وفي داخلي شرخ يحك مفاصله بارتخاء، ومن حولي غرابيب سود تسرح وتمرح في كل واد من وديان روحي.

قبل أن يسود صمت.. صمت ثقيل، وأغيب في سراديب الظلام. أيقظني رنين الهاتف ليخرجني من صمتي الثقيل، رفعت الغطاء عن رأسي، مددت يدي بتكاسل، وقبل أن تقترب السماعة من أذني، سقاني صـوتها الهادئ ماءً مستراحاً:

أنا لك السراج والسياج.. تعال لنغرق في دافئات المنى.

بغتة بزغت عيناي شمساً، وبدأت أحس أن الحياة تتوالد من جديد، ألقيت السماعة وبعدها منامتي ، لا وقت لديّ للوقوف أمام المرآة ، فالطريق اخضرّت وبدأت تنمو فيها الأزهار، ثم خرجـت وأنا الهث، مبهور الأنفاس، ولأن كل مساحات قلبي صارت أوطانها، رحت أسرع لأدخل في برزخ الوصول، فكل همي أن ألقي بتعبي وحيرتي في مهاوي النسيان، وأن أغرق في دافئات المنى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى