الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

أعرفها من وراء الغيم

سلام عليها أينما كانت، وإلى النرجس الطالع من خديها، وستمسي أهلاً إن جاءت، حينئذ سأزف إليها عريساً يفرغ ذاته في ذاتها، يلقن التاريخ حبا، ويجعل مهرها لون الزمرد، وزرقة البحر وموجه، والشمس وقت الغروب، وتلا من الورود.

بالتأكيد ستكون مصاغة من لؤلؤ ولوز وفلفل أحمر، أو من عقيق وجوز وعسل أصفر، وهي ربما الآن في بلاد قريبة، أو بعيدة , فالحب لا يعرف الجنسية، له لغة واحدة وليس له جواز سفر، وربما هي قريبة مني، أو لم تولد بعد، من يدري؟

بعد ثماني عشرة شعلة، بلغت سن الرشد , ففرح السنونو في دمي آن حصلت على وسام العشق، وسرعان ما رسمت لها لوحة تحمل المثير من الملامح النورانية التي أحبها، وبعدها، دخلت في نعيم دائم، إذاً، عاشق أنا، أجلس وأنهض أسير مع شوقي الذي يعلن عن نفسه باقتدار، أبحث بين أوراق العمر عن مشهد اللقاء الأول، لكنه لا يأتي من تلقاء نفسـه، ويظل حبي لها ينمو كزرع لا يهجره المطر.

المسافات تبدو شائكة, والأيام تتساقط كأوراق الخريف، والوجه الحبيب يسكن العمر، وأنا أرتعش من وجدي، أردد من وراء الليل آهاتي، وفي الصباح، أبحث عند الحقيقة وعند الخيال، عن التي عبأتني وداً ومشاعرا ً، ووجهها صار طريقي ورفيقي، وقلبي يراها مرة على شكل وطن، ومرة بطة برية تفوح بعبق النرجس، تطير فوق أشـرعتي وفي خاطري، ومرة قمراً يسبح في سماء صافية، ومرة يراها نهراً من الشجن، ومرة ظلا دافئا ادفأ من خيوط الشمس.

إنها حقيقتي وليست خيالاتي، وهي ابتسامتي وفرحتي وغاية غاياتي، وحتى لو كانت دمعتي وأناتي، فسأظل لها ظل اً، وسأزرع فيها حبي وعاطفتي وحتى لـّذاتي.

هي لم ترني ولا تعرفني، وأنا لم أرها ولكني أعرفها، أعرف تاريخها وجغرافيتها، جمالها واكتمالها وخصالها، أكثر ما يعجبني فيها شفتاها الرقيقتان، تلك الشــفتان اللتان تباغتاني دائمــا فأراهما من بين جميع أعضائها، أعرف صوتها الرخيم، صدرها العالي، حضــنها الواســع، خصرها المرمري، أناملــها الناعمة الطويلة، جســـدها المثير ببياضـه، بليونته، وبدفئه، أعرف.. وأعرف.. وأعرف..

كلما ينتهي المساء، أفتح أبواب الهوى، أجلس في شرفتي وأريد رؤيتها، آه لو تمت الرؤية، لفاجأت العالم بحبي وعطفي، ولكن كيف تأتي الرؤية وأنا افترش أمانيّ والتهب بنيران وسط الصقيع؟

وآه منها، ويا لقامتها التي هرول عشقي إليها، وأقولها بصدق، إنها تستحق جائزة عالمية للجمال، في كل لحظة يستيقظ الحلم في دمي، فاشرب صبابتي، أمدد تباشير السكون، وبخيالاتي المجنحة،أراها يانعة كالشموس، ناضجة كالتفاح، وشاهقة كالجبال، أراها في زرقة السماء الصافية، وخلف الأفق البعيد، بين النجوم وحبات المطر، مع بيارق الصحو وعند انطفاء الوسن، وأراها دائما تكركر من خلف أسـتار الغيم، فأترنم بها وأرسل شوقي لها سواقي وجد.

ذات صباح صيفي، كنت جالساً في الشرفة، ارتشف قهوتي وأستمع إلى أغنية عزيزة على قلبي:" يا جبل البعيد , خلفك حبايبنا، بتموج متل العيد وهمك متعبنا". وفجأة انتفضت وقلت بصوت أشبه إلى الهمس:

" إنها هي.. حلم الخلاص المنتظر".

رأيت قامة فارهة ووجهاً ـ جماله آسر أو قمرا يهزم الشمس لا أدري ـ يغمر الشارع بالشذا، فسكنتني رعشة وأردت الصياح فلم أجد صوتاً، إلا أن نظراتي حجت إليها وهي وئيدة الخطا فوق الرصيف كأنما خارجة لتوها من عين الشمس.

قبل أن تتحول إلى سراب، انتبهت إلى نفسي، فألقيت منامتي وهبطت السلم بسرعة، وبعد أن حددت هدفي راحت خطواتي تتراكض بخفة طفولية، دخلت شارعا فرعيا لأختصر المسـافة بيني وبينها، وما إن لمحتني سائراً مثل موج ثائر نحوها حتى انتابها شيء من الخوف، أحست بأن خطرا ما يتربص بها، فاختبأت بين المارة:" لا تخافي يا عمري , فأنت المسرّة وأنا الأمان".

تقدمت بحذر خوف اصطدامي بمن يمرون، طوقتها ولم أدع لها مجالاً للابتعاد، ألقيت السلام وبقيت أنظر بعينين أودعت فيهما كل الصبر وكل النجوى، فألبستني دهشتها وعدم اهتمامها. صحيح أن وجهها كان جميلاً، يتألق بكثير من العذوبة، ويسرق بأريحية كل الكلمات، إلا أنه لم يكن الوجه المرسوم في وجداني.

إلى أين تمضي بيّ يا عمر؟ إلى الوجه المسـافر في بيارات الغياب والسراب، أم إلى آخر فصول الخيبة حتى تنفرط الأمنيات؟

أعلم أن الموت خاتمة الحياة، والوصل خاتمة الحب، وأعلم أنها ليست مستحيلة مثل أمنية، كما أعلم علم اليقين أن وجهها طفولي وأنها جميلة مثل أغنية فيروزية، وإذا ما جمعني القدر بها فسأحتويها بهديلي على مر السنين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى