الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد نور الدين

زوجتي وعالم الرحيل

بصورة مفاجأة وكاسحة، عادت صورة زوجتي لتحتل بصري، وتزلزل مشاعر الحزن والخسران الأليم داخل صدري، وإني لأكابد ما يشبه النيران اللاهبة، ولا أستطيع أن أتصور منفذا يؤمن لي النجاة والخلاص من هذا النفق المظلم المعبق برائحة الفراق وبرودة الموت الحارقة.

شهر كامل انقضى على موتها.

ماتت زوجتي وهجرت أنا بيت الزوجية المنكوب لأفر من عالم يضج بالذكريات وينبض بالمشاعر التي لا حياة محتملة لي إلا بنسيانها والفكاك منها.

دخلت في نفق من الحزن العميق، فلا أرى إلا السواد. أستجدي بصيص الأمل على شاطئ البحر داخل مقهى يغلفه زجاج شفاف.

والمطر يتساقط في تشرين.

الحزن والمطر والظلام... ثلاثي حميم يتكاتف أعضاؤه ضدي في مؤامرة غير واضحة المعالم، وغير معلومة الأهداف.

لا يفلح مصباح المقهى، بضياءه المبهر، أن يكشح ظلمة الشتاء الذي بدأ يغشى طلائع كانون. وزوجتي كيان لم يفارق وجداني ووعيي منذ أن التقيتها في العيادة أول مرة. كنت طبيبها ومشيرها الى بر الشفاء من داء خبيث، وحسبتها مشيرتي الى حياة زوجية تزخر بالدفئ والحنان، بيد أنها أفضت بي الى عالم من الحزن يقوم على أسس صلبة من اليأس والأسف والحسرة.

برفقتي في المقهى دائما ثمة كتاب. يتغير العنوان، تتبدل ألوان الغلاف والتصميم، لكن يبقى الكتاب معي. أقرأ فيه وأنا أعي وأحس وجود زوجتي الراحلة في بطنه، فأستشعر الدفئ جراء ذلك. ولا أقوى على قراءة كتاب دون أن أدس صورتها بين أوراقه. فذلك طقس جديد قديم فرض نفسه علي بعد موتها المفجع.

هي من حببت القراءة الى نفسي. هي من أهداني القصيدة الأولى.
كنت عبرت لها عن ضيقي بقراءة الشعر، لكنها أصرت، وجرعتني الكأس فجرعتها مرغما. من وقتها وأنا منجرف في سيل من القصائد، سيل لا يبدو أنه يستطيب الوصول، ولا يخطر في بال شاعره الملهم أن يرسم بريشته المعذبة مصب الخلاص والنهاية.

لا نهاية لعذابي، فعذابي قصيدة ممتدة لا ختام لها.

الشتاء يشتد ويطول. ويشتد الألم ويضيق الصدر بالأنفاس. فيضج السؤال في أغوار النفس: متى الخلاص؟!

كان حزني لغزا من الألغاز وأحجية من الأحاجي.

أحاول جاهدا أن أفك طلاسم اللغز دون فلاح.

منذ أيام زارني في المنام طيف حلم غريب لا أعرف ما اذا كان يجوز لي أن أنعته بالكابوس.

رأيت زوجتي بصورة بهية مشعة، كنت قد أنسيتها تماما وغابت عن مخيلتي منذ زمن، ذكرتني بأيام العافية والبهجة. كانت زوجتي وحيدة في المشهد، إلا أنها كانت تنظر إلي وتخاطبني بشكل مباشر.

قالت لي وهي توجه نحوي نظرة باسمة فيها من الحنان ما فيها:

 لا تحزن يا حبيبي، ولا تلم نفسك أبدا..

فوجدتني أقول لها:

 حزني عليك عميق عمق الجراح.

فأتت بهزة محببة من رأسها ذكرتني بأيام خلت، وقالت:

 قلت لك لا تحزن.

ووجدتني أقول لها:

 تحدثتي عن اللوم.. قلت لا تلم نفسك.. ماذا عنيت بذلك؟

لم تحر زوجتي جوابا. وظننتها تمعن التفكير، فلبثت في صمت أنتظر منها الإجابة، لكن فجأة شعرت بهزة عنيفة تشبه الزلزال، وبدأت صورتها بالتغير وقد راح يلف هيأتها ضباب خفيف أبيض، ولهول الهلع أبصرت التحول الرهيب الذي طالها، فقد اسودت بشرته، وخبا البريق في عينيها، وتلاشى البهاء من صفحة وجهها. شعرت لثوان بأنني مروع وبأن خوفا فظيعا يصدع رأسي وصدري، وعلاوة على ذلك كله، رمتني زوجتي بنظرة غريبة صامتة، نظرة شعرت بأنها قاسية وعميقة وتحمل من المعاني والمغازي ما كنت عاجزا تماما عن اكتناه حقيقته. وفي حالة من الذهول ورعشة الوحشة غادرتني صورة زوجتي، لأصحو على رنين في الرأس منشؤه صداع تجاوب مع آلام غشيت مواضع متفرقة من الجسد.

وفي المقهى المغلف بالزجاج والرذاذ، جلست قبالة البحر الشتائي الهائج، وغرقت في حالة من التفكير والتأمل، شعرت بحيرة وقلق، ورغبت في سبر غور الحلم والوصول الى الحقيقة القائمة وراءه.

هل هو مجرد انعكاس لحالة الحزن التي أعيشها؟ أم أنه يحمل مغزى عميقا ويرمز الى أمور هامة تأبى أن تعبر عن نفسها إلا من خلال الأحلام الليلية؟ رغم ميولي العلمية بحكم المهنة والممارسة فإنني لست من رواد النظرية الفرويدية بأي حال، ومع ذلك فقد تدبرت عددا من المقالات النفسية التي تتناول شرح نظرية فرويد حول الأحلام ومغازيها الباطنة والعميقة.

التعب يتمادى في التهام خلايا دماغي كل ما أوغلت في النصوص المعقدة، وحبات العرق ترطب جبيني، والصداع يعود متسللا من بين السطور.

يتولاني اليأس وسط شعور عارم بالضياع وفقدان الثقة والمعنى الصحيح. ويدغدغ شهيتي طيف ناعم لكتاب نزار قباني، فأخرج الكتاب من حقيبة اليد وألوذ بظلال شعرية، طالبا للسلام والصور البهيجة الرائقة.

وتمر علي أيام عدة.

تتصاعد المشاكل في فضاء عيادتي الصغيرة بشكل مفاجأ، ودون مبرر مقنع. تنشب بيني وبين عدد غير يسير من المرضى والمراجعين مشاجرات كثيرة بالغة التعقيد والحدة.

من المسؤول؟ من المخطئ؟ هم أم أنا؟

لست أدري على وجه اليقين، ولكن حدة النزاع تصل بيني وبين إحدى المرضى لدرجة أنها تمسك بكوب الماء الزجاجي وترشقني به قاصدة، على ما يبدو، أن تشق رأسي، ولكن يدها المرتجفة، بفعل التوتر، تخطئ هدفها، وينفجر الكوب بالجدار خلفي فيتناثر الزجاج والماء قذيفة نارية.
ويقودني الإضطراب والتوتر الى حال شبيهة بالجنون.

فأهجر العيادة، وأعتزل الناس والحياة.

وفي غمرة من الظلام والإضطراب، في أعماق من ليل بالغ الكآبة بسواده وهياجه، تظهر زوجتي من وسطل الركام.. تظهر بلباس أسود، وجهها يكسوه تعبير غامض، وفي عينيها كلام.

وقبل أن أنال فرصة كافية لتمييز الخليط الذي انتباني من المشاعر المتضاربة، تقول لي بصوت ذو صدى:

 أنت قتلتني!

فتلسعني دهشة عظيمة. وأقول لها كالمذعور:

 ماذا تقولين؟

فتضحك ضحكة قصيرة فيها قسوة وحدة، وتقول بلهجة صارمة:

 لا تندهش! ومن غيرك قتلني؟

فأقول لها:

 أنا قتلتك؟! حقا لا أستطيع تصديق ما تقولين.

 ليس مهما أن تصدق. ولست أتوقع منك إلا الإنكار.

ساد صمت ثقيل مؤلم، وهي تشمل وجهي بنظرة صارمة قاسية لا تلين، قبل أن يرتفع فجأة صوتها بصيحة حادة خلتها شقت فضاء الكون.

وهمت زوجتي بالرحيل، عرفت ذلك من العوامل المشابهة لرحيلها في الحلم السابق: الضباب، وملامح الوجه، ولون البشرة، وأيضا الأصوات المخيفة التي لا أعرف لها مصدرا. ولكن شيئا طارءا حدث لي قبل أن تبدأ زوجتي بالتلاشي، فقد انتقلت أنا على نحو خاطف من المكان لأستقر بصورة بالغة الغرابة في محيط آخر مختلف تماما، وبعد تأمل قصير لتفاصيل المكان الجديد قدرت أنه عيادة طبيب، وكنت مستلق على السرير الطويل الذي يستخدم للفصح.

كل تلك الأمور الغريبة لم تكن قادرة أن تحجب عن وعيي حقيقة أنني في حلم مزعج، وبذلت جهدا عظيما لأصحو وأعود الى الواقع. لكن طبيب العيادة ظهر أمامي، وقال لي بلهجة ذات معنى:

 لا أنصحك بالعودة الى هناك!

فقالت له مستفسرا:

 بما تنصحني إذا؟

فقال بنبرات أصابت مفاصل بالإرتجاف:

 هنا مستقرك من الآن فصاعدا! هناك قلق وخوف واضطراب، وهنا نسيان عميق وراحة بال تامة. فأي العالمين تختار.

فكرت للحظات في صمت. وبعدها أبلغت الطبيب المنقذ جوابي، ثم أسلمته نفسي المهيضة ليجري عليها عملية إستإصالية تقتضيها ضروريات البقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى