السبت ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم سحر حسن أبو ليل

القمر الممزق

"أنت لا تحبني، متى تفهم أن عالم الأرقام هو عالم أبله؟ متى ستدرك أنني لست البقرة التي اشتراها أبوك لتحلبها كل يوم، سحقاً لك ولأموالك"!

أزالت فمه الذي تفوح منه رائحة الفودكا وغادرت السرير متجهةً نحو حديقة البيت كثورٍ أسباني هائج، أما هو فقد وقف تمثالاً أبكماً أمام ثورتها العاصفة..

كانت تحرير زوجةً صالحة لزوجها ليث لأكثر من عامين ونصف، لكن صمام الأمان بدأ بالانفجار رويداً رويداً فهي كاتبة، شاعرة ومغنية حساسة، وهو مدير لسلسلة فنادق مشهورة في الناصرة، وكل حياته مبنية على عالم المادة والمظاهر البراقة الكاذبة، والحفلات والمسايرات الاجتماعية المنافقة، وعلى الرغم من كونهما زوجين محبين إلا أن دائرة الصراع كانت تتسع يوماً بعد يوم بين عالم الروحانيات الذي كانت تنتمي إليه تحرير وعالم المادة الذي يسيطر على دماغ زوجها.

هي نامت باكية وحيدة في حديقتها، غير أنها استيقظت نشيطة جميلة كطير فينيقي ساحر، ودخلت البيت تعد قوتها على أنغام الفيروز التي تعشقها عشقاً خرافياً، وبحثت عن زوجها في كل أرجاء المنزل ليشربا القهوة معاً لكنه كان قد غادر لمكتبه باكراً وغير آبهٍ لها أو لجرحها الذي ينزف منذ سنتين!

جلست تشرب القهوة محاولةً أن تستجمع أفكارها وتكتب مقالها الأسبوعي، إلا أن صوت جرس الهاتف كان قد اقتحم عليها خلوتها:

 ألو.. تحرير.. آلا زلت في البيت؟"

 "أجل، الناس تقول صباح الخير أولاً"

 "لا وقت لي للمحاضرات الآن، جهزي نفسك، لدينا حفلة في الفندق الليلة وسيحضر كبار الأغنياء في الدولة، وأريدك أن تغني لهم".

 "ماذا، وهل أخبرك أحدهم أني جاريتك المطيعة؟ ثم أن لدينا حفلة خيرية اليوم لدعم صندوق مرضى السرطان، وهؤلاء أهم بكثير من بطون اصدقائك المنتفخة".

 ماذا؟ هل جننت؟ أتعلمين كم سأكسب؟ ستأتين يعني ستأتين، نقطة سطر جديد".

 "أنا اسمي تحرير يا حبيبي، ولا أحد يأمرني".

وأغلقت الهاتف بغضب لتكسر فنجان قهوتها وتغادر المنزل حتى تبدأ "البروفا" والتمرينات.

في مساء ذاك اليوم دخلت القاعة كحسناء سومرية، وغنت من صميم قلبها فقد لمحت برق الابتسامات وانفراج أسارير المرضى أمامها، وعادت إلى البيت يومها وكأنها قد امتلكت كوكباً من الزهور، فغطت كالطفلة في نوم عميق لشدة سرورها وغبطتها، ولم تستيقظ إلا على صوت سعال زوجها حينما عاد ثملاً في الرابعة صباحاً، فلم تجد مفراً سوى أن تعتني به وتبقى الى جانبه حتى يهدأ وينام!

استيقظ ليث على أنغام عصافير ظهر اليوم التالي فوجد تحرير تكتب قصتها الجديدة بشغف وتأثر، فاشتعلت نيران أعصابه غضباً وجلس أمامها محاولاً كظم غيظه:

 لمن تعزفين على أوتار المبادئ والشعارات، لمن تكتبين هذه الكلمات والمثاليات؟

رسمت ابتسامةً عريضةً وقالت:

 للمعذبين في الأرض مثلي، لهؤلاء الذين يحبون الغوص في النفس الإنسانية!

 لكنك لا تنشرين كل ما تكتبين..

 لماذا لا تفهم يا حبيبي أني اكتب لأريح نبضي أولا؟

 وماذا سيستفيد الآخرون من نبضك هذا؟

 ألستُ إنسانة ولدي تجربتي؟ آلا يستفيد الذكي من تجارب الآخرين؟ ثم أليس
ما أكتب يسمى ابداعاً؟

 تحرير، سئمت شعاراتك هذه، لم أعد قادراً على فهمك، أنت تعيشين في عالم معقم وحياتنا ليست كذلك..

 ليس الأمر بهذه الصورة، المشكلة بيني وبينك منذ البداية هي أنك إنسان عادي وأنا إنسانة مبدعة، ودعني أخبرك ما معنى أن تكون فناناً أو مبدعاً:

إن الإنسان المبدع يعيش حياتنا اليومية كما كل البشر، لكن الفرق هو أن لديه عالماً خيالياً اضافياً يعيش به، لديه جنون ووحي لا يعرف متى يهبط عليه فجأة، فأنت ترى بنفسك ما أعيش من حالات نفسية متقلبة كل الوقت، وهي ذاتها التي تعطيني القدرة على الغناء والكتابة..

 لكنك وحيدة ولا أصدقاء لديك، ونحن خلقنا اجتماعيين..

 لا عليك، فكلما ارتقى الإنسان بنفسه وثقافته ووعيه استطاع الاستغناء عن حياته الاجتماعية.

 لا غنى لك عن البشر يا تحرير...

 وإذا كان عالمنا ملوثاً، ونفوس هؤلاء البشر مجرمة، وأنانيتهم تقتلهم، مالي أنا ولغدرهم، وتفاهاتهم؟

 أوووووووه.. أنت أصبحت لا تطاقين، تقيسين كل حياتك بثقافة الورود، حساسة أكثر من اللزوم وتخشين أن يجرحك أحدهم كل الوقت، لقد سئمتك.. وسئمت هذه الشعارات، أنا أريد امرأة فقط، من قال أن من واجبي حمل هموم البشرية فوق أكتافي؟

 حسناً، سأخبرك ماذا تريد: أنت تريد بقرة تحلبها كل ليلة فوق السرير، تريد جارية تخدمك وتطعمك، تريد رسمةً تتفاخر بها أمام أصدقائك المنافقين، أنت تريد مني أن أكون كرسياً من كراسي مكتبك حتى تسترح وتضاعف أموالك، ولكن هل تعلم أني أنا من سئم منك ومن تفاهة عقلك؟ أنا سأجمع أقلامي وكتبي وأتركك لحفلاتك أيها الدنجوان..

 لا.. لا يا تحرير.. أنت قمري.. أنت... أنت...

 أجل، أنا قمرك الممزق لذلك سأرحل..

حملت تحرير كتبها وأغراضها وهي مؤمنة كل الإيمان أن مكانها في كوكب آخر، وثورتها ستسجل بكتاب التاريخ شاء أم أبى لكن ليس بحضن زوجها... لعلها تنجح في ذلك!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى