الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤
بقلم عبدالواحد علواني

من المجنون يا جايا

إيه يا جايا ، أيها البغل الخرافي.. إلى متى تبقى تدور حول مربطك الأزلي، ومتى تتخلص من الهوام التي تعشعش في أخاديد جسدك الجرب، ترضخ للجراح العميقة وتستكين لها، وعند أول دغدغة تثير كل حممك وأنفاسك، لتحرق منكوبي تضاريسك الآسنة.

أتخيلك أحياناً خالياً من الدماء، ولكن وزماتك الفيضانية، والأعداد الهائلة من الغرقى في طوفان الصديد الذي ينضح من أدرانك الموبوءة، والتي تندفع بعشوائية يندر فيها أن تصيب` وجوه السفلة.. بماذا أفسرها؟.. وتبقى منذ رضوخك لقرن الثور، وإهمالك لأقمارك التي ازدرتها الحيتان، وحتى عهد تصدير الهوام، تثير الأسئلة.. وكلما فسر سؤال وطويت صفحته، راكمت آلافاً من الأسئلة المتكاثرة كالديدان.

تباً لك يا كفري.. ها أنت تحرق ما تبقى من عمر مترع بالألم.. دعني يا كفري.. أريد أن أنسى.. أن أجهل.. أن أتلاشى.. لماذا تسومني العذاب وأنت الجاثم في أعماقي.
تسألني لماذا اعتدت هذا الوجه وأنت الذي ألفت الإطاحة بالوجوه وابتلاعها؟ يا سيدي مللت منك ومن أسئلتك المتعبة، لقد أدركت كنه هذه الوجوه، فما هي إلا أقنعة لآلهة تسلك دروب جراحنا، وتنسل منها، لتطوب في مساحات أنفاسنا أعلاماً لعصور جديدة.. كل ما فيها قديم سوى ذلنا اليومي المتجدد.

أيام زمان..أيام كان الشباب يعربد في عروقي.. كنت أشاهد صوراً تتساقط، وأخرى تحلق مكانها.. وكانت الآمال تنتعش وتتجدد مع كل صورة نطوح بها، لتخمد وتتبدد مع الصورة الصاعدة.. وبقينا نبحث عن الأمل في صورة بدلاً من أن نلتقط مرآة نتفحص فيها تقاسيمنا الهزيلة.

جايا، مراهق أنت يا جايا.. تظن أنك تملك قدرات هائلة من البذل والعطاء والتضحية.. ولكنك نذل تليد.. تخنع للجشعين، ثم تسحق بحوافرك الهوجاء، تلك الدويبات البائسة..وتعتبر الأمر دعابة أو تجربة صغيرة. جايا.. أيها السمج، ابق في دورانك البليد، واسحق ما شئت كل الأفلاك التي لم تتلافاك.

دعني يا كفري.. ولك أن تتخذ ما تشاء من الظنون.. لك أن تتصورني غبياً أيضاً.. فهي صفة عزيزة علي في هذا الزمن الأرعن، أغرب عني يا كفري.. فحضورك يسبب لي المتاعب والآلام.. دعني في سكوني فقد أدمنت الصمت، بل تجاوزت الإدمان إلى التلذذ بالحواف المدببة لتلك الكلمات الشظايا التي أخمدها في دواخلي.. بل باتت تسليتي الوحيدة. انفصل عني يا كفري!.. ودعني أغفو مثلهم.. سمّها ما شئت.. حياة أو موتاً.. لم يعد بمقدوري أن أبدو مختلفاً، لجين تكفيني وتغنيني عن كل ما تحلم به، تتراقص جديلتاها وهي تهرول نحوي.. تعانقني.. تقبلني: بابا.. اشتقت إليك كثيراً يا بابا. ساعتها أنساك أولاً يا كفري.. خير من أبدأ بنسيانه واستئصاله من لحظاتي تلك أنت.. نعم أنت لأنك لا تهدأ ولا تكل ولا تمل، ثم أنحي جانباً كل ما يذكرني بك أو ما يذكرني بحديثك المتعب، لأجد متسعاً في عيني لجين الأثيريتين، ولأبني في فضاء مقلتيها آلاف البيوت والمدن الجميلة. كفاك يا كفري.. كلماتك الجوفاء ما عادت تثيرني، فقدت معناها لدي، وأصبحت الكلمة مجرد مفردة من مفردات صكوك الغفران وبيانات الانتصارات الوهمية وخطابات النفاق التاريخي.. ألم تسمع يا كفري قول أسلافك :"إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب".إنه خير سلوك لهذه الأيام.. وأنت تصر على أن هذا القول من اختراع الشياطين لتلهو في فضاء صمتنا الذليل، أرجوك احتفظ بآرائك لنفسك ودعني أخلد إلى سكينتي. غادرني بهدوء، كفاك ضجيجاً وجلبة، فأنا لا أروم سوى العودة إلى عيني لجين الطافحتين بالحنين، أما هذا المعلق قبالة مكتبي، فأنا لم أحاول مطلقاً أن أتملى في ملامحه، لماذا تريدني أن أمعن النظر فيه الآن.

جايا توقف للحظات! فأنفاسي المتلاحقة بحاجة إلى عملية إحصاء تكشف اللهاث القديم المستديم.. المتوغل في تلافيف دماغي العجوز.

تحدثني يا كفري عن الحرية والوطن.. وكل ما استهلكه السدنة وهم يثقلون كاهلي بتبعات مجونهم، وما أرى في شعاراتك هذه إلا ترهات سمسار جشع، أو مراهق يحمل مسدسا يكتم به أنفاس أجدادك لو شاء.. لو جربت يا كفري .. لو أحست وقع الإهانة لصمتّ إلى الأبد.. حدثني عن الوطن يا كفري وأنت تواجه سفارة تدلي لك لسانها بعد معاناة دامت أياماً وشهوراً وطوابير طويلة وأموالاً هي كل ما تمكنت من توفيره وتأمينه بعد أن بعت كل شيء، ساعتها ستدرك كم أنك تفتقد الوطن وكم أنت محروم من لحظة خاطفة تشعر فيها بأنك كائن محترم ولو للحظة، سترك أن الوطن والذل لا يجتمعان، ومكان تذل فيه ليس وطنك ولو كان موطن تناسل أسرتك منذ مئات السنين أو العقود أو القرون، وقد تقنع حينها أن تحيا غريباً في دارك، فليس من مكان آخر يمنحك الاحترام الذي حرمت منه في مسقط رأسك.

جايا أيها الجرب.. أتوسل إليك أن تغتسل مرة واحدة من هذا الهراء.. واملأ خواءك بكل هذه الهوام.

يجلس أمين الغافي .. الموظف في مصلحة العقارات إلى مكتبه، يطالع الجداول الجديدة التي وصلته هذا الصباح، ليتبين ما يجوز وما لا يجوز.. يهمس أمين الكفري في أذنه:"دعك من هذه الأوراق التافهة.. فبعض الناس يجوز لها كل شيء والبقية لا يجوز لها شيء.. وليس من العسير أن تميزهم، ولن تحتاج إلى قوة الفراسة لتتبين سيماءهم التي ستنبئك عنهم . لا يبالي الغافي بحديث الكفري ويتابع وضع خطوط تحت ما يهمه من عبارات، بينما بذلة أنيقة تجتاز عتبة المكتب.
 تفضل.. ( يقول الغافي)

 بصلف يرد صاحب البذلة: أنجز هذه الأوراق بسرعة!

 يصمت الغافي.. يتمعن في الأوراق التي ناوله إياها صاحب البذلة.. يقول الكفري:"انظر إليه يا غافي..إنه لا يستطيع أن يتصورك إنساناً، يعاملك وكـأنك من عبيده.

 يقول الغافي لصاحب البذلة: يا سيدي لا يوجد ما يثبت ملكيتكم لهذه الأرض من جهة، ومن جهة ثانية هي مخصصة من قبل الدولة لتكون حديقة تتنفس من خلالها الأبنية المحيطة بها.

ترد البذلة بغضب: دعني من أعذارك هذه فأنا لم أستشرك حتى تطيل لسانك، أنجز هذه الأوراق وأحضرها بنفسك إلى سيدي واتق غضبه!

خرج صاحب البذلة، أمين الغافي أصبح في حالة سديمية.

أمين الكفر ي تأجج وتأهب، ولكن حاذر بادئ ذي بدء.

تذكر الغافي تلك الصور الموزعة في أشلاء المدينة لرجال ..يطمحون لأن يكونوا سادة للناس ليتخموهم بالمزيد من الذل، وهذا هو سيد الصور جاثم قبالة مكتبه يبتسم بهشاشة.

يضغط أمين الغافي رأس أمين الكفري.. يمني نفسه أن يلتزم هذا الشيطان الصمت في أعماقه، للحظات يتجاوز محنته الحاضرة ويعود إلى حكمته البليدة.

جايا قذر أنت يا جايا.. كم أود لو تمزقت إلى أشلاء متناثرة، كم وددت لو أنشدت فوق حطامك أغنية الوداع.

إنها فرصتك يا كفري. لتحطم كل شيء، وتثير الزوابع في أركان هذا الغافي عند حدود النشوة.
يصرخ الكفري:

 ابلغ نشوتك يا غافي، وتجاوز الصمت ولو لمرة واحدة.

تسري كلمات الكفري كالصاعقة في عروق الغافي..ينظر إلى الصورة التي ما تزال ترسل ابتسامة ساخرة.. تتسع الابتسامة وتفيض بالخبث، يتسع جرح الغافي.. تنفرج الشفاه الزرقاء عن أنياب اخضرت جذوعها عفناً، تتحول الابتسامة إلى قهقهة هازئة .. يفور الجرح.. تمتلئ أطراف الغافي بما يشبه الدمامل والبثور، تتفشى في جسده سريعاً..ويجري في عروقه صديد كالمهل، يسمع لدمه عويلاً، يخترق العويل أذنه يختلط بإيقاع الموت وطبول الحرب والبيانات العسكرية وضحكات الكروش المزينة بالأوسمة.. يتـأجج الغافي.. ينتبج بالدماء الفائرة التي تنفر نثاراً من أنحاء جسده الهزيل يهتز كمرجل يغلي بشدة.. يتناول المحبرة من الطاولة.. يقذف الصورة بها.. تتخامد القهقهة حتى تختفي.

اغتسل منا جميعاً يا جايا..

احرقنا وتطهر منا..إذا شئت أن تعود إلى براءتك الأولى، واسحق ذلك الكائن الجرب الذي أعلن وصايته عليك واخترق عذريتك ذات غفلة منحته خبثا يسميه العقل.

استيقظ الغافي ..

يقول الكفري لا بل نام.

نظر إلى أجزاء الصورة المتناثرة على الأرض مضرجة بالحبر الأسود.. البقع تملأ الجدار المقابل والبلاط.. بينما الإطار الفارغ لا يزال ينوس معلقاً.

يهرع سدنة الصور وأزلام سيد الصور من الغرف المجاورة.. يشهدون جرم الغافي.. يعلو صوت أحدهم: خائن.

ثان يقول: عميل.

ثالث يقول في سره: مسكين.

رابع يردد في قعر سره: متمرد.

يتهاوى الغافي على مقعده.. يتذكر جديلتي لجين.. وكل المدن التي شيدها في عينيها القلقتين في انتظاره، يحس بالكفري ما زال يضرم النار في أحشائه.

يصرخ الكفري: انطلق يا غافي كعاصفة مجنونة ، فالجنون خير حكمة في وجه الذل.

يقول الغافي: ولكن عيني لجين الطافحتين بالورد، المشرفتين على أفق ممتد.

يصرخ الكفري: لقد فقدت القرار يا صاحبي فإما الجنون ، أو تتسلى بك زبانية الصور حتى لا تبقى لك صورة.

يتردد الغافي بين البكاء والصراخ.. هل خسر المعركة؟ يتفصد عرقاً .. تصعد الدماء الفائرة إلى رأسه ثانية.. تتفجر من عينيه وأنفه، يحمل ثقالة الأوراق الحديدية، ينهال بها على كل شيء يقع تحت بصره.

يعلو صوت السدنة: مجنون.. مجنون..


جايا: الاسم الميثولوجي للكرة الأرضية، ومحور نظرية علمية تفترض أن الكرة الأرضية كائن حي.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى