الاثنين ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
(نصوص قصصيَّة قصيرة)

مَتْروكاتٌ لَمْ تُرْصَدْ

مختارات ـ 2

"هذه شذراتٌ من رماد العمر شاء قَدرها أن تبقى عالقةً بغُربال الذاكرة، بينما فَرَّتْ من ثقوبه وآلتْ إلى زوايا النَّسْيان أحداثٌ وذكرياتٌ كنت أعدُّها من جلائل الأمورْ"

(5)

بُورْصَة القُطْن

كانوا يأتون دوماً في مواسم القطن بوجوههم البيضاء المُشرّبة بالحمرة، مُرْتَدين ستراتهم الواسعة الفضفاضة ومُعتمرين قبّعاتهم. نحن الصّغار نترقَّبُ حضورهم كل عامٍ وكأنه كرنفالٌ تزدهي به قريتنا. وكان جَدّي ـ لأمرٍ ما ـ يحتفي بمقدمهم ويولمُ لهم في كرم رغم ما يتردّدُ بيننا من أقاويل عن أنهم لفرط سفههم يُشعلون سجائرهم بأوراق النقد فئة العشر جنيهات. وأقاويل أخرى لابدّ أنها محضُ خيال أعفّ عن ذكرها الآن. كان لهم حضورٌ طاغٍ يشمل بيتنا الريفيّ كله، فتدبُّ فيه حركة النسوة ويموجُ بفورانٍ غريب. أما نحن الصغار فجلُّ هَمُّنا أن نصطفّ عند ثقب الباب نختلسُ النظر إليهم وهم يرطنون بلكنتهم الغريبة ينطقون الحاء خاءً أو هاءً ويتعثرون في الحديث أحياناً فيدارون ارتباكهم بضحكٍ مفاجئ. ويظل الكلام بين أخذٍ ورَدٍّ وشَدٍّ وجَذْبٍ بينهم وبين جدّي حتى يتفقون على سعرٍ فيخرجون محافظهم ويشرعون في عَدّ الأوراق النقدية ويضعونها بِيَدِ جدّي. وتنطلقُ دائماً ضحكة صاخبة من أحدهم وهو يربتُ على كتف جدّي:

 آه يا هاجّ.. دائماً تغلبني..

فيجيبه جَدِّي ضاحكاً:
 أنت يا خواجة.. لا أحد يغلبك.

في ذلك اليوم أسَرَّ جدّي لنا وهو يعيد عَدَّ النقود ووجهه متهلّل بالفرح: لو جاء الموسم القادم على هذه الحال سأتزوج.. فقد اشتقت للنساء بعد رحيل جدّتكم.

لكن الريح لم تأتِ بما يشتهي. جاء عامٌ قيلَ إنه عام الكسادْ. تكدّس القطن في مخازنه ولم يأتِ الخواجات. ظلّ جدّي ينتظرهم وكلّ يومٍ يمرُّ يزدادُ حزناً وشحوباً ويضيقُ صدره بمن حوله. جاءوا أخيراً فانفرجت أسارير جَدّي وطارَ بهم طيراناً. غير أنّ وجوههم كانت أشبه بالكدمة التي احتبس بها الحزن. حتى ضحكهم الصّاخب ذوى وتضاءل حتى صار ابتسامةً باهتةً مُغْتَصَبةً على طرف الشفاه. وحين مَدَّ جدي يده ليتناول نقودهم كان جسده كله يرتجفُ وبدا صوته جافّاً وهو يودّعهم بفتورْ.

 خرابْ بيوتْ..

قال جدّي مُحدّثاً نفسه بعيون زائغة وصوتٍ مبحوح وهو يبسط الجنيهات القليلة على الطاولة.
 إنه خرابُ بيوتْ..

في هذا العام مرض جَدّي وثقُلَ عليه المرض. قبل أن يموت كان قد رأى مناماً قَصَّه علينا. قالَ إنه قابلَ في المنامِ أخاه الذي رحلَ قبله بسنوات، وحين لقيه بادره بالسؤال: صحيحٌ ما سمعته يا حاجّ..؟ تعتزمُ الزواج..؟!

قال جدي: نعم.

أجابه بصوتٍ باتّ: لا تفْعَلْ يا حاجّ مصطفى.. أنت آتينا قريباً..!!

ونبتتْ ابتسامة شاحبة على شفَتَي جَدّي وهو يختمُ حديثه بغمغمةٍ تقطرُ مرارة: ـ مِنْهُم للّه.. الخواجاتْ.. يُعْطونَ بِيَدٍ.. ويَحْصدون أعْمَارنا باليَدَيْن.

واكتسى وجهه بغمامة حُزنٍ كثيف وهو يبتلعُ ريقه ويُحدّقُ بعيْنَيْن خاويتَيْن في فراغٍ سحيقْ.

(6)

مَحَلُّ إقَامَة

كانَ قَصيرَ القامةِ خَفيفَ الحَرَكةِ أصْلَعَ شَعْر الرأس، ولصَوْته إيقاعٌ خاصّ ونَبْرَةٌ مُحَبَّبَة. وكان ـ لأمْرٍ يعلمه الله وحده ـ عاشقاً للزَّحام وصَخَبِ المدينة وتَبْغِ المقاهي ومشاكسة أولي الأمْر. غيْرَ أنَّ علامته الفارقةَ حقّاً كانت مِعطَفَه القديم الذي يرتديه صَيْفَ شِتاءْ. أُلْقيَ عليه القَبْضُ ـ أوَّلَ مَرَّةٍ ـ بتهمةِ تكديرِ صَفْو الأمن العام. وقضى بالحَبْسِ عاماً أو بعض عامٍ بدون مُحَاكمة. وفي المَرَّةِ الثانية لم يَعْرف أحدٌ طبيعةَ الجُرمِ الذي أُخِذَ به، لكنه قالَ ضاحكاً حين عاد للمقهى بعد غيبةِ شهور: كانت تُهمتي أنَّني أجلسُ بالمقهى مهموماً وكأنني أفكِّرُ بِحالٍ من أحوالِ البلد..!!. كان يُسَمِّيهم أوْلادَ العَمّ. كلما طالتْ غيبته عن المقهى وعاد قال فيما يشبه الاعتذار: لا تؤاخذوني.. كنتُ في ضيافة أولاد العَمّ..!! فيبادره أحد الحاضرين بقوله: وهل أكرموا ضيافتك كعادتهم..؟! فيجيبُ ضاحكاً: كانوا أوْلاد عَمٍّ بحَقّ..!! ويمضي مُسترسلاً في سَرْدِ وقائع وأحداث تلك الشهور التي أمضاها بالحَبْس. لكنْ ـ هذه المَرَّة ـ كانت تُهمته جسيمةً وأدِلَّتُها دامغة. حين مَثُلَ أمام القاضي ـ وكانَ بالمُصَادَفةِ غيْرَ مُوَالٍ للنّظام ـ سأله وهو يتأمّلُ حجم المُفارقةِ بين ضآلةِ جُرمه وجسامةِ التُّهمة المدَوَّنة بالأوراقْ:

 هل تعرفُ التُّهمةَ المَنسوبةَ إليك..؟!

قالَ بيقينٍ بدا قاطِعاً: أعْرفها.. وأُقِرُّ بها..

عادَ القاضي يوجّه إليه الحديثَ في دهشة: أنتَ مُتَّهَمٌ بمحاولةِ قَلْبِ نظامِ الحُكْم..

رَدَّ ببداهة: أهو مَعْدولٌ حتّى نَقْلبه..؟!

ضَجَّت القاعة بالضَّحِك وتَبَسَّمَ القاضي رَغْماً عنه وهو يُعاودُ السُّؤال:

 صحيفةُ سَوَابقك مليئةٌ بتُهَم أخرى كثيرة..

أجابه قبل أن يَفرَغَ من سؤاله:

 أعرفها..

ومضى يُعَدِّدُ على أصابعه:

 شُرْب ماء النِّيلْ.. وسَرقَة الكُحْلِ من العين.. واختلاس النظر للمارّة.. و.. الحَرْب مع الكُفّار في غزوة أُحُدْ..

تَصَاعد ضجيج القاعة بضحكٍ صاخب، ولَم يتمالك القاضي نفسه هو الآخر فَنَدَّتْ عنه قهقهةٌ مسموعة قبل أن يُصدرَ حُكمه بإخلاء سبيله بضمان مَحَلّ إقامته. وعقَّبَ ضاحِكاً وهو يَسْأله:

 عِنْدَك مَحَلّ إقامة معروفْ..؟!

أجابه بنبرة صوته العميقة:

 نعمْ.. أقيمُ بهذا المعطف القَديمْ.. إقَامةً دائمة

(7)

قَلْبٌ من ذَهَبْ

قالَتْ له إنَّ الحُزْنَ الجافّ يمتَصُّ نُخاعَ القَلْب وأنّ فراقهما قدرٌ لا مناص منه، فَمَضَى يَحْكي لها حكايةَ الطّائرِ الجميل الذي كان قلبه من ذهبٍ خالصْ وريشه من فِضّة وعيناه جَوْهَرتَيْنِ من عَقيقٍ حُرّ. قالَ لها: وَقَعَ الطّائرُ في هوى صَبِيّةٍ فقيرة لا تَملكُ قوتَ يومها، فكان يَأتي كُلّ ليلةٍ مُحَلّقاً ويحُطُّ على شُرفتها الصغيرة ثُمّ ينزَعُ ريشةً من جناحيه يُسقطها بين يديها. وحين نفذَ ريشُ جناحيه وأصبحَ عاجزاً عن التحليقَ بنى له عُشّاً في شُرفتها، ونزَعَ جوهرتي عينيه ووضعهما بين راحتيْها الناعمتيْن. ذاتَ صباح فتحت الصّبيّة النافذة فوجدت الطّائرَ مَيّتاً من البَرْدِ والوَحْشة. قالتْ: ما أقبحه من طائر..!! وألقتْ به في مجمرة النّارِ وراحتْ تتأمّلُ ألسنة اللهب وهي تلتهمُ الجسم الضّئيل حتى صَارَ رماداً. حين هَمّتْ بإفراغِ الآنية وقعتْ عيناها على شيء يتوهّجُ وسط الرّمادِ فتناولتْه بأطرافِ أصابعها وهي تصيح بنفسٍ مبهور: إنه قَلْبْ.. قَلْبٌ من الذّهَبِ الخالِصْ..!!.

حين فَرَغَ من حكايته ولم يَلمحْ بعيْنَيْها أثر دموع أيْقَنَ أنّ فراقهما قَدرٌ لا مناص منه.

مختارات ـ 2

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى