الاثنين ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
(نصوص قصصيَّة قصيرة)
بقلم إبراهيم سعد الدين

مَتْروكاتٌ لَمْ تُُرْصَدْ

مختارات ـ 1

"هذه شذراتٌ من رماد العمر شاء قَدرها أن تبقى عالقةً بغُربال الذاكرة، بينما فَرَّتْ من ثقوبه وآلتْ إلى زوايا النَّسْيان أحداثٌ وذكرياتٌ كنت أعدُّها من جلائل الأمورْ"

(1)

صَمْت العَجَائِزْ

لابُدَّ أنني كُنتُ صغيرةً وقتها. صغيرةً وثرثارة. لأنني سمعتُ جدّتي لأبي تصيح بالكبار غيرَ مَرّة: دعوها.. دعوها تُثرثرُ على هَواهَا قبل أن تطعنَ في السِِّنِّ وتلوذَ مِثْلنَا بصَمْتِ العجائز. عشتُ طيلة عُمري أتشاغلُ بالحديث، وحين لا أجدُ أحداً يجاذبني أطرافه أشرعُ أكَلّمُ نفسي. ثمّة إحساسٌ خفيّ كان قد استوطن قلبي بأنّ أولى علامات مشيبي هي أن أكفّ عن الكلام مثل العجائز. لكنَّني ظللتُ مشغولةً بهاجسٍ آخر: لماذا يلوذُ العجائز بصَمْتهم..؟! سألتُ شيخاً طاعناً في السِّنّ من أقاربي فضحك قائلاً: لأنهم يصيرون أكثرَ عَقلاً وحِكْمةً. وسألتُ صبِيّةً في مثل سِنّي فقالت باستخفاف: لأنّ أسنانهم تقعُ وأفواههم تصير خاوية فيُطبقونها على فراغها. وقالَ لي رَجُلٌ طيّبٌ من أهل الطريق: لأنهم ينفضون أيديهم من شواغل الدّنيا ويَزْهدون في مُتَعِهَا. أمّا إمامُ وخطيبُ الجامع القريب من بيتنا وواعظ القرية فقال لي في صرامة: لأنهم يبصرون آخرتهم ويروْنَ عذابَ القَبْر وشيكاً. لكنْ.. ظلّ السؤال مُعَلَّقاً وما مِنْ جوابٍ يشْفي غليلي. حتّى تقلّبتْ بي الأيامُ وتوالت السنون، وصادَفْتُ مجذوب القريةِ يوماً جالساً يهذي بكلامٍ غير مفهومٍ فسألته تَنَدُّراً: لماذا يلوذُ العَجائزُ بصمتهم يا خُضَري..؟! فأطلقَ قهقهةً مُدَوِّية وأشاحَ عنّي بوجهه ولمْ يُحرْ جواباً. حين نظرتُ في مرآتي يومها رأيت تجاعيد وجهي ومشيب رأسي وتذكَّرتُ طفولتي وكلماتِ جَدَّتي. كانت ضحكات المجذوب ما تزال تُدَوّم في سمعي ويترَدّدُ صداها داخلي مُرْجفاً ومُخيفاً.

(2)

نَظْرَة مُوَدِّعْ

تَلقَّتْني عند الباب بعيْنيْن لَوْزيَّتَيْن انطفأ نورهما إلاّ من وميضٍ متقطع، كأنها ذبالة شمعةٍ بلغت نهايتها. كان وجهها أبيض شديد البياضِ في شحوبٍ وملامحها دقيقة وبقايا وسامةٍ ما تزال في سيماء الوجه. سألتها ـ وأنا أنحّي ملاءة السرير جانباً وأتحسّسُ نبض يدها ـ عن اسمها فابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تهمس في خفوت:
 ألم يقولوا لك..؟!

أحسستُ بالحرج فرسمتُ ابتسامة حياءٍ على شفتيّ وتابعتُ فحص جسدها أو ما أبقى المرض منه.
 نعم.. أُمَيْمة.. اسْم جميل

كانت العلّة واضحةً لا لَبْسَ فيها: أنيميا حادة. قلت لها ورغبتي في الحديث تغلب على صوتي:
 قالوا لي أنكِ لا تأكلين..

أومأت برأسها علامة الإيجاب.

سألتُها بدهشة حقيقية وأنا أتساءل بيني وبين نفسي ماذا حلّ بهذا الجسد الذي لم يتجاوز ربيعه الخامس عشر ليزهدَ هكذا في الحياة:
 لماذا..؟!

انفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ فاتنة:
 قُلْ أنتَ.. ألسْتَ الطبيب..؟!

وأردفت بصوتٍ أكثر شحوباً:
 دكتور.. قلْ لهم: دعوها ترحلُ بسلامْ

وأغمضتْ عينيها. بينما تشاغَلْتُ أنا بلملمة حاجياتي. وأنا أحمل حقيبتي وأتوجه صوب الباب تأملتُ وجهها الشاحبَ عن كثبٍ. ولأمْرٍ ما لم أستطعْ مغالبة رغبتي في أن ألقي عليها نظرةً أخيرة قبل أن أغلق باب الغرفة وأنصرف.

(3)

طَائِر الكَنَاري الجَمِيلْ

كان ذلك في يومٍ من أيام الغربة؛ هناك في ذاكَ البلد البعيد حيث يشتد الحرّ صيفاً ويتجمّدُ الدَّمُ في العروقِ شتاءً. وكنتُ ـ كالعادة ـ وحيداً. وحيداً ومهموماً. وهَمُّ الغربة ـ لِمَنْ لا يعرفه ـ ثقيلٌ يستوطنُ قلبكَ كأنه حجرٌ رازِحٌ على صدرك. كان وقت الغروب وبقايا ضوء ذابل يتسلّلُ عبْرَ شيش النافذة الموارب، وأنا مُمَدَّدٌ بطولي على الفراش أتأمّلُ سقفَ الغرفة في صَمتٍ ورأسي نهبٌ لأفكار وخيالاتٍ وهواجس تتجاذبُ وتتنافرُ ويَدْفَعُ بعضُها بعضاً فتنزلقُ على سطح المُخيّلة كالكُريّات الزجاجية. لابُدَّ أنني كنتُ قد غفوتُ بُرهةً أو أقلّ فلم أنتبه له حين حطَّ على إفريز نافذتي واستقرَّ بأمان. طائر كناري أصفر اللون بهيج المنظر، لم يُضَيّع وقتاً فشرعَ في الغناء. هل كان غريباً مثلي جاء يبثني لواعجه ويتحَسَّسُ أوجاعي..؟! رُبَّما. ورُبَّما ضاقَ بِسِجْنِه فتحيّن فرصةً للهرب ما أن تهيَّأت له حتى طار إلى غير وجهة فساقَتْه الأقدارُ إلى نافذتي. لكن صوته كان يتردّدُ صداه في داخلي عذباً شفّافاً نَدِيّاً كحبّاتِ البَرَدِ تتساقطُ على القلبِ وتسري سُكْرَتُه في الجسدِ خدراً ناعماً لذيذاً كما يسري حليبُ الرضاعِ في فمِ طفلٍ بَرَّح به الجوعُ فطعِمَ وشَبِعَ وغلبه النوم. حين صحوتُ أخيراً لم يكن هناك. كانت الغرفة غارقةً في الظلمةِ وأشعة الشمس الغاربة قد تلاشت تماماً عن النافذة. لم يكن ثَمّة غير الوحدة والوحشة والسكون، وبقايا أصداءٍ لصوتٍ رائقٍ شجيّ يتردَّدُ في مسامعي، فيُشرقُ في عيْنَيَّ فتاتُ ضوءٍ شحيح لفرحٍ عابرْ.

(4)

طُفولة آخِرِ العُمْر

عَاشا مَعاً ـ زَوْجاً وزَوْجةً ـ يَتَّكئ أحَدُهمَا على الآخَرْ. لم تَغْفِرْ لنَفْسِها ـ قَطّ ـ أنها لم تَمْنَحْه الوَلَدَ الذي به تكتَمِلُ زينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا. وقَنَعَ هو بأن يكونَ طِفْلَها الوحيد، فيدِلُّ ـ حيناً ـ وينغمسُ ـ أحياناً ـ في نزواتٍ عَدَّها ـ حينَ تقَدَّمَ به العُمرُ ـ خياناتٍ صَغيرةً راحَ يُكَفُِّرُ عَنها بِفَيْضِ عاطفَةٍ منبعها الحُبُّ الصَّافي والفِطْرَةُ السَّليمة.

حين سمعوها ـ وهي على فراشِ المَوْت ـ لا تَفْتأ تُرَدِّد: "خذوني إلى محَطَّة القطار.. طِفْلي مريضٌ بالبيت" أدْرَكوا أنها تَحْتَضِر. أمَّا هو فكان على يَقينٍ بأنَّ طِفْلها الوحيد لن يُشْفَى أبداً، ولَنْ يَكُفَّ ـ لَحْظةً ـ عن البُكاءْ.

مختارات ـ 1

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى