الأربعاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم مروة كريديه

تاريخٌ من نارٍ وفِصام حضاري

"علينا أن نبدّل بنيان مجتمعنا، مظالمه، مناقبيته الفظيعة، التقسيمات التي اصطنعها بين الإنسان والإنسان، الحروب، الافتقار التام إلى المودة والمحبة الذي يدمر العالم " كريشنامورتي

خلال تطور البشرية في مسيرتها عملت الأيديولوجيات ومؤسسات الدين والمرجعيات الروحية على تطويق رقاب الافراد والجماعات وجعلت الشعوب عرضة للاستكانة إلى يقينيات وأفكار أدت إلى انقسامات حادة، تحولت بموجبها الأرض إلى تجمعات تقتنها كائنات عدائية، تمارس الفوقية تجاه بعضها البعض وتستخدم العنف وتسوغه، بل وتجعله أولوية وسببا لاستمرار وجودها وحقًَا مقدّسًا دائمًا من حقوقها المشروعة.

والعنف بكل انواعه ومستوياته، يكتنز "طاقة سلبية " مدمرة، ورغبة عارمة بالانتقام، والعمل على تطويع الآخر وتأديبه وإذلاله وادخاله في دائرة الخضوع والإذعان، هذه الطاقة ترتدّ بعنفٍ "مضاد" وطاقة سلبية مرتدة، قد تتدخل فيها عوامل أخرى محيطة بها تجعلها أكثر او اقل تدميرًا.

هذه التفاعلات تدخل البشرية في "دوامة عنف حقيقية " تعمل "السياسات الدولية واستراتيجيتها "على التخفيف من حدّتها في مكان أوازكائها من مكان اخر، وفق ما تقتضيه مصالح الدول التي تكرس تحركها دورة رأس المال والاقتصاد، حيث أن السلطة والمال متلازمان، وممارسة السلطة تقتضي استخدام العنف، وبين ثالوث السلطة والمال والعنف تُطْحَن الشعوب ويستعبد الانسان.

فهل هناك من يتحمل مسؤولية هذا العنف دون سواه؟؟ وهل هذا الاستبداد سببه حضارة بعينها دون سواها؟؟ أو سببه شعب معين؟؟؟ او سياسات اقليمية ومحاور دولية؟؟

بداية يجب أن نقبل ونقرّ أننا ككائنات بشرية مازلنا نمارس العنف ونعتمد أساليب عاجزة عن حل صراعاتنا، وان الاوضاع المتفاقمة تضعنا أما خيار جديد مغاير للمعهود وللمقبول المُتعارف عليه في حل النزاعات، فهناك حاجة انسانية حقيقية لاحداث نقلة "نوعية" نغادر بموجبها "مستوى الواقع العنفي المستمر "الى مستوى إنساني"، أننا نحتاج إلى تغيير جذري في البنى النفسية المحركة للسلوك الانساني، فالانسان هو محورالتغيير وتحقيق حريّته هي السبيل إلى السلام، وحرّية الإنسان التي أعنيها هي حرية عارية عن اي شروط واشراطات، انها حرية تؤدي إلى انفلات الكائن من قيود يرزح تحتها ابناء البشرية اليوم على اختلاف ألوانهم وألسنتهم.

كيف السبيل؟

الخطوة الأولى ربما تكون عبر "وعي" ما يدور حولنا، وتحقيق الانتباه واليقظة إلى الشروط التي تتحكم بنا وتقودنا إلى النزاعات والصراعات كلها، بدءًا من الصراعات الشخصية وصولا إلى الحروب المدمرة، وذلك عبر جلاء "الرؤية"، التي لا تتحصل ونحن نحمل في اذهاننا صورًا جاهزة معدة سلفًا عن الاشياء والامور؛ وهنا يكمن دور "وسائل الاعلام" السلبي، التي تعمل ليل نهار على "تكريس الصور النمطية الجاهزة " عن الأشياء.

إن يقظة الوعي تعني مغادرة واقع الصورة المتخيلة في الذهنية المثقلة بالاحكام المسبقة إلى رؤية ما هو موجود فعلا.

ذاكرة العنف بين السيرورة التاريخية والذات الحضارية:

إن "رؤية" الصراعات الحالية يقودنا بسهولة إلى معرفة أن هناك رغبة عارمة عند الفرقاء المتنازعين نحو مزيد من "الأنوية الحضارية "، فهذا شيعي والاخر سني، وهذا مسيحي والاخر يهودي، وهذا كردي والآخر عربي، وهذا كاثوليكي والآخر أرثوذكسيّ... والعقلية التجمعية مثقلة بالاحكام الجاهزة المعدة سلفًا لإدانة كل طرف للطرف الآخر، أن عقلية كهذه لا يمكن أن تكون سلمية على الاطلاق وان اتخذت من الشعارات انبلها !

اننا كأفراد شاءت الأقدار أن نكون ابناء منطقة تُعد الأكثر سخونة في العالم، بل واكثرها استقطابًا للعنف وتوليدًا له، نحتاج لان نضع ايدينا على جراحنا النازفة بعيدا عن اية نماذج ترقيعية عبرحلول متكاملة تعبر فينا من واقع الصراع إلى واقع الإنسان ومنها:

أولا:الخروج عن جلد الذات المجتمعية والمقارنة الحضارية: فنحن لسنا خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس ولسنا أسوأ أمة عرفتها البشرية، ولسنا شعبٌ مختارٌ كما أننا لسنا شعوبًا " سائمة"، أننا ببساطة "نحن على ما نحن عليه"...

أن المقارنة الدائمة بين الذوات والحضارات التي لم تهدف سوى لاثبات تفوق مجموعات بشرية على اخرى، أوقعتنا في "عقد دونية "مقيتة وانتماءات وعصبيات، اتخذت من ردود الفعل العُنفية سبيلا لها للدفاع عن "ذات منجرحة" خائفة على هويتها وصيرورتها، المشحونة بالانفعالات الغريزية، التي تعكس غطرسة البشر تجاه بعضهم البعض، وقسوتهم من أجل ارضاء تفوقهم الذاتي، وغرورهم بحجة انهم ابناء الله واحباؤه، وبحجة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر !

إن "العرب" على سبيل المثال لا الحصر اعتادوا بشكل دائم على مقارنة حضارتهم بحضارة الاخرين، الامر الذي اوقعهم اما في "نرجسية مرضية قاتلة " او في "عقدة دونية مميتة"، بحيث أدانوا أنفسهم بشكل مبالغ فيه، اورفعوا من قدر أنفسهم لدرجة التأليه، واليك المقالات اليومية مثالا ينهال اما "جلدًا للذات حضارية " او دفاعا عنها"....

إننا ككائنات إنسانية لا نحتاج لهذه الدوامة أبدً!ّ بل الأجدى أن نصمت ونعمل بشكل بناء ونكون أكثر فعالية في اثراء الحضارة الانسانية ككل.

ثانيا: نقد الذات ومغادرة الذاكرة: أن عدم إدانة أنفسنا والتوقف عن جلدنا للذات، لا يعني أن لا ننتقد دواتنا الحضارية؛ بل لا بد من تفكير نقدي هادئ وعميق يخلصنا من ذاكرتنا التاريخية المثقلة بالجراح؛ أن مغادرة الذاكرة تحدث يقظة في انسانية الحضارة، وهي خروج عن مألوف الثقافة ومغادرة الماضي المستمر إلى غير رجعة.

ثالثًا: التحرر من الفصام الحضاري: أن غالبية شعوب المنطقة، بكل مذاهبهم واثنياتهم يدينون بأديان توصف بأنها "سماوية "، وهي التي كانت في معظم الاحيان محرك الحروب والغزوات ووقودها! فهل المشكل في "جواهر الاديان"الداعية للمحبة وسلام الأرواح؟؟ أم في الممارسات القائمة على محاكمة الآخرين الخاضعة لشروط الذاكرة التاريخية الدامية؟؟

إننا نجد أنفسنا أمام تعقيدات حقيقية ولا منطقية، غير أننا نستطيع أن نستخلص أن حضارات واديان الأرض تعاني من "فصام حضاري" بالغ بين "الدين كحقيقة وجوهر" و"الدين" كممارسات وسياسات خاضعة للاحوال والازمنة ولشروط الذاكرة الحضارية المثقلة بعداء الامم تجاه بعضها البعض.

فالحضارة لا يمكن أن توصف بأنها إنسانية، مالم يكن الانسان فيها حرّا متساميًّا خارجًا عن توترات وازمات التناقض والصراعات، بحيث لا يكون نتاجًا رخيصًا لضلالات الامراء والحكام ورجال الدين ولتفاهات المتحاربين، وليس الباحث عن تفوق ذاتي أنوي....

فهل هذا الطرح مجرد "كلام بكلام "؟؟

لا،إنه بكل بساطة خطوة نحو "إنسان حرّ" ينتمي لكون يشع سلامًا!

وان أول الحكمة أن نعي "إنسانيتنا"!

ولا يَظُنن أحد أن بقاء الكانسان يكون بزوال سواه!

ولن تبقى أجسادنا وقود تاريخٍ من نارٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى