الأحد ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد النبي حجازي

أعمِل لرزقك كلّ آله

حسين أبوعلي فلاح كهل ينتمي إلى عائلة دينية معروفة بطريقتها الصوفية، حفظ القرآن صغيراً عند الشيخ، وأطلق شعر لحيته الأشقر الموشى بالشيب وسطاً بين لحى رجال الدين وسائر الخلق، يعتمر كوفية كالحة وعقالاً أسود ويرتدي ثوباً وسروالاً من القماش الخام المصبوغ بقشور الرمان ويمشي حافياً. يذهب إلى أرضه بعد صلاة الفجر يعمل حتى المساء على صهوة حمارته الرمادية مبرقشاً برذعتها بخرزات زرقاء تفقأ عيون الحاسدين، لايترجل عنها أنى ذهب واضعاً على كتفه قمبازه الحريري الأبيض الذي تهرّأتْ بعض خيوطه، وزناره ذا المحفظة الجلدية العريضة التي حال لونها وتآكلتْ حوافّها، وتحت إبطه (مشّايته) الحلبية الحمراء، وعندما يخرج من بيته لصلاة الجمعة يخرج راجلاً مرتدياً قمبازه لافّاً خصره بزناره منتعلاً مشّايته.

كان أبو علي كثيراً ما يغادر القرية مع بزوغ الفجر، وعندما يلتفت إلى الوراء وتصبح بيوتها منمنات صغيرة يضع كوفيته وعقاله في عين الخرج ويستل (لفّته) الداكنة، ينفض عنها الغبار ويثبّتها على رأسه , فيقول أهله إنه يذهب لزيارة أصحاب له في ديرة الجبل. يقضي أبوعلي بضعة أيام ويعود في الهزيع، وقبل أن يدخل القرية يعيد العمامة إلى عين الخرج ويسوّي الكوفية والعقال على رأسه، ويتلبّث.

بعد بضعة أسابيع يفّد إلى القرية نفر من أهل الجبل نساءً ورجالاً ممن حبلت نساؤهم وشفي مرضاهم، والتأمت حياتهم الزوجي، وعاش صغارهم، وكثر رزقهم، وبرئت عقول مجانينهم، وتزوجت عوانسهم.. يحملون إلى بيت أبي علي الفقير إلى الله (الزاهد) النذور من كلٍّ بحسب قدره وقدرته: (ثِنْياً) خروفاً أتمّ العامين، قفصاً من الدجاج، كيساً من التين اليابس والزبيب والجوز، علبة خشبية ملأى بأقراص الجبن... ويستزيده المستزيدون فيتأهب لهم بريشة من القصب وحبر بنفسجي ويكتب حروزاً على ورق أصفر يحرّم عليهم رؤيتها فيخيط كلٌّ حرزه (حجابه) بمحفظة قماشية مربعة ويشدها إلى خصره ويخيط (حوطته ـ هكذا كان اسمها) بمحفظة صغيرة مثلثة ويدسها تحت إبطه ويقول أبو علي بخشوع"كله من الله إذا شاء تحقق مرادكم وإلا.. فما أنا إلا عبد فقير" وأبو علي يقدم أحرازه في سبيل الله ويعفّ عن تقاضي أجر من النقود لكنه يتقبل الهبات التي تقدم إليه من نفوس راضية , ويعفي الفقراء والمعوزين، وكانت تلك الهبات تفيض عن حاجته فتبيعها زوجته بأسعار مغرية تقلّ عن أسعار السوق، فيُفتي أبوعلي "رحم الله امرءاً نفع واستنفع".

واختلفت الآراء في أبي علي بعضهم يرى أنه مُعطى من الله، وأن مايكتبه هداية وإلهام، وبعضهم يرى أنه ماكر منافق أميّ يكتب ولا يعرف الكتابة، ورغم أن أحدهم تجرّأ وفتح (حوطة وحجاباً) فلم يبدُ فيهما سوى حروف متناثرة متكررة تتقاطع بأشكال عشوائية بيد أن مؤيدي أبي علي لم يتراجعوا عن آرائهم.

كان ذاك في أواسط الخمسينات ولا أظن أن في سورية اليوم رجلاً ملهماً كأبي علي إلا أن يكون على سبيل الاحتمال في ركن قصيّ من الريف وإن وجد فلا أتوقع أنه يتمتّع بإلهام كإلهام أبي علي. لكنك ترى كثرة كاثرة من المواقع الإلكترونية على ساحة الإنترنت مشيحة عن التطورات العلمية والحضارية، وعن حديث الرسول (ص) "طلب العلم فريضة على كل مسلمٍ ومسلمة" ومايدهشك أن معظمها ينطلق من البلاد التي تحارب الخرافات وترفع شعاراً لها حديث الرسول (ص) "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".

*من المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني:

أعمل لرزقك كل آله

لاتقعدنّ بذلّ حاله

وانهض بكل عزيمـة

فالمرء يعجز لامحاله


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى