الاثنين ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الغفور الخطيب

السِّفْرُ الدِّمَشْقِيُّ

"ما يُشْبهُ الحُلُمَ "
وربما القصيدةَ
أو
القِصَّةَ
.....
...
إنها
تَعويذةٌ في محرابٍ

المساء: ربما في أيلول 2006 م
المكان: دمشق

انطلقتُ وحدي في شوارعي الدّمشقيّةِ العتيقةِ.
عتيقٌ أبحثُ عن عشقي العتيقِ.
ودمشقُ فقطْ مَنْ يَعرفُ أَسرارَ ورودي وأزهاري
هيَ مَنْ يَعرفُ نجومي وكواكبي...
طوالعَ أَيّامي..
بروجي التي لا تَبدأُ بالدّلوِ...
ولا تنتهي ببرجِ الجدي..
حتّى دوائرُ النُّورِ والعِشقِ في حياتي..
دمشقُ فَقَطْ تَعرِفُ أَينَ تَدورُ..
وفي أَيِّ فَلَكٍ تَسبَحُ..
دمشقُ دائماً جميلةٌ مَعَ عُشّاقها..
رائعةٌ بِهم..
مَعَهم تُصبحُ أُسطوريّةً..
بحكاياتهم تبقى خالدةً أَبديَّةً..
تعطيهم بلا حدودٍ أو مِنَّةٍ..
هلْ نُفصِحُ أَكثَرَ؟
هلْ نَبوحُ أَكثَرَ؟
دمشقُ أَحَدُ يَنابيعِ العَطَاءِ الأُسطوريّةِ..
وربّما أَهمُّها على ما تَذكُرُ الكُتُبُ..
دمشقُ فاتحةُ الحُلُمِ
كَمَا تَحكي الخرافاتُ
دمشقُ بدايةُ التّاريخِ
وخاتمةُ النّهاياتِ
إلا اليومَ..
دمشقُ لا كما عَهِدتُ..
لا كما وَعَتْ آلافُها وآلافي فيها.
مسائي الدّمشقيُّ حزينٌ اليومَ.
الأَشجارُ ذابلةٌ
كأنَّ دورة قَلَقٍ أَصابتْها في روحِها.
الأَزقَّةُ كئيبةٌ..
البيوتُ كأنَّما مَسّها طَائفٌ مِنَ الجِنِّ,
واختطَفَ أَلَقَها مَرَّةً واحدةً
ثُمَّ اختفى في أَوديتِهِ وقِفَارِهِ وصَحاريهِ..
لا عَبَقَ اليومَ لياسمينِ دمشقَ
لا رائحةَ لمسائِها السَّرمديِّ..
دائماً يكونُ عَبِقاً
أَمّا اليومَ فلا ضَوعٌ..
وربّما منذُ بَدءِ أسفاري قَبْلَ شَهرينِ فَائِتينِ.
ترى هَلْ تَنتظِرُ دَمشقُ شيئاً ما لتفرحَ..
أَيكونُ آخرُ نقطةِ دَمٍ في أسفاري.
ربّما لا هذا ولا ذاكَ.
الشّيءُ الأَكيدُ أَنَّ دمشقَ غَريبةٌ اليومَ.
الأَبنيةُ..
الحاراتُ..
المقاهي..
المحلاتُ التّجاريّةُ..
المساجدُ والكنائسُ..
القلعةُ.
الشّوارعُ كُلُّها حزينَةٌ اليومَ..
حتّى مقهى النّوفرةِ
بصخَبِ سُيّاحِهِ مخلتفي اللونِ واللسانِ
بعيدٌ عنّي وأنا أَجلسُ على مقاعِدِهِ..
رائحتُهُ اختلفَتْ
وطبيعتُهُ تَغيَّرَتْ
حتّى لأَكادُ أَكفُرُ بالمكانِ..
عمّ أَبحثُ في هذا المساءِ وأنا ابْنُهُ
كانَ الطّريقُ الموصلُ إلى حيِّ العمارةِ مقصدي الدَّائمَ
في هذا الحيِّ لي شجرةٌ بيضاءُ اللونِ
باسقَةُ الطّولِ ورائعةُ الجمالِ
حدّثتْني عنها الطّيورُ يوماً،
وصفتها لي
أسهبتْ في الوصفِ
حتّى اعتقدتُ أَنَّها مِنَ الحورِ العِيْنِ
التي يُرى مُخّ عِظامِها
لشدّةِ الصَّفاءِ والنَّقاءِ،
والتي إنْ نَزَلتِ الأرضَ
لأذهلتِ العقولَ
وحيَّرتِ الألبابَ..
كانتْ تلكَ الشجرةُ ملكُ أَحَدِ أجدادي
جُلِبَتْ منْ طرابلسَ على مَتْنِ سَحَابَةٍ
ثُمَّ زرعتْ في حَيِّ العَمَارَةِ
كانَ ذلكَ ماضِيَّ المنسيَّ
أَستعيدُهُ في مسائي البائسِ
لينثرَ عليَّ بعضَ الأَلَقِ والعَبَقِ
ويخفِّفَ وحشةَ ما أرى.
آهٍ منْ دمشقَ ومِنْ مسائها الحزينِ
آهٍ لكلماتي البائسةِ على أَرصفَةِ هذا المساءِ
لكلماتي الباكيةِ ونظراتي الحيرى في وجوهِهِ
كلُّ دمشقَ وجومٌ
كأنَّ أَحلامَها نُهِبَتْ..
كأنَّ عفريتاً سليمانيّاً حَمَلَ دمشقَ ووضَعَها في أَحَدِ القطبينِ،
واحدٌ منهما فقطْ كافٍ ليوحِشَهَا..
لتهرُبَ البَسَمَاتُ منها في ثُقوبٍ وراءَ ثُقوبٍ..
لم أستطعْ سؤَالَ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ
ولا سؤالَ شَيءٍ عنْ شيءٍ.
حتّى الباعةُ الصّغارُ
رفضوا هم أيضاً الكلامَ معي،
وأنْ يبيعوني أيّ شيءٍ
أينَ عَبَقُ دمشقَ؟
أينَ سِحْرُها وأَلَقُها؟
أينَ نسرينُها المعرِّشُ على سياجاتِ الرّوحِ؟
أينُ زهادُها وعبادُها وأولياؤها؟
أين علماؤها وفقهاؤها؟
أينَ فلاسفتُها وشعراؤها وكتَّابُها؟
أينَ متصوِّفوها؟
والمرشدونَ إلى الحقيقَةِ
أهلُ الحقِّ واليقينِ
أربابُ الوصولِ والقَبَولِ
أينُ هؤلاءِ وغيرُهُم؟
أينُ عشَّاقُها ومريدوها؟
أينَ مَنْ يُوصلُ عاشقاً مسكيناً مثلي إلى محبوبَتِهِ؟
أينَ مَنْ يخبرُنِي عَنْ حبيبتي..؟
عنْ حَالِ عشقي؟
أينَ من يدلي إلى دلو الإشراقِ،
علِّي أصلُ بهِ إلى حيثُ تَسْكُنُ؟
أينَ أَهلُ الأَحوالِ؟
أينَ إشاراتُهم وعباراتُهم؟
أينَ إلمامُهم وإلهامُهم؟
هلْ مِنْ خَطَراتِ رجاءٍ أَقطفُها مِنْ كرمتِهِمْ؟
أو نفحاتِ صفاءٍ أقبِسُها منهم
أينَ أنتَ أيّها الشّيخُ الأكبرُ؟
دُلَّني..
ضَعْني..
صِلْني..
أمْ أَنَّكَ كمساءِ دمشقَ الأيلوليِّ، غريبُ الدّارِ وكئيبُ الدّهرِ
لِمَ لا تجاهدُ لأَجلي؟
ألستُ عاشقاً؟
ألستُ مغرماً ووالهاً؟
قُمْ أيّها الشّيخُ، فقَدْ طَالَ رقودُكَ..
أينَ هيَ فتوحاتُكِ لتفتَحَ أَمامي الدّروبَ الوَعِرَةَ؟
والقلوبَ الموصدَةَ؟
أينَ مسالِكُكَ الشّريفةُ يا شيخُ...؟
أينَ مكاشفاتُكَ تُنيرُ ظلمةَ روحي؟
توصِلُني بمنْ هَوِيتُ وعَشِقْتُ.
هلْ أَحَدٌ مخبري سِرَّ ما أرى في دمشقَ؟
هلْ مِنْ مُجيبٍ سُؤالَ عَاشِقٍ ولهانْ؟.
 
لا أَحَدَ يتكَلَّمُ
بل لا أَحَدَ يُريدُ التَّكلُّمَ،
لا البشرُ ولا الشجرُ ولا الحجرُ..
أَيُّ أَمَانٍ تُعطينيهِ يا دمشقُ هذا المساءَ؟
مكتوبٌ على أَحَدِ أَبوابِ قَلعَةِ دمشقَ:
« ادخلوها بسلامٍ آمنين »
حزينةٌ دمشقُ..
كئيبةٌ..
يائسةٌ..
قلقةٌ..
موحشةٌ..
غريبةٌ..
مخيفةٌ..
عدتُ أدراجي بحثاً عن عشقي
في مكانٍ آخرَ ليسَ فيهِ مساءٌ كمساءِ دمشقَ.
عندَ زاويةِ أَبي الشّاماتِ قَرأْتُ الفاتِحَةَ.
وَوَلَجْتُ منْ هناكَ إلى القنواتِ..
كانَ بيتُ الزّعيمِ بانتظاري
سألتُ وسألتُ
ولا أَحَدَ يجيبُ..
ترفضُ دمشقُ الحديثَ إلى الآنَ
أَتُراها لو تَكلَّمتْ فماذا سَيحصُلُ؟
لا باعَةَ..
ولا علماءَ أو زُهّادَ..
ولا مثقفونَ
ولا أمراءَ
ولا قادةَ ولا خُلفَاءَ
ولا زُعماءَ..
لا أَحَدَ يُريدُ التَّكلُّمَ
أو يدلَّني إلى طَريقِ عشقي..
كنتُ أَبثُّ بيتَ الزّعيمِ ما بي منْ حُرقَةٍ
ما بي منْ لوعةٍ وشوقٍ لوصالِ حبيبتي
لكنَّ البيتَ تحوَّلَ إلى متحفٍ منذُ فترةٍ
وفي المتاحِفُ يموتُ الزّمَنُ
وينتهي الحُلُمُ..
وقِلّةٌ مِنَ الزُّعمَاءِ
منْ تتحوَّلُ بيوتاتُهم وداراتُهم
إلى متاحفَ أو مزاراتٍ..
قلّةٌ مَنْ يبقونَ في الذَّاكرَةِ..
قِلَّةٌ منهم مَنْ لا تنتهي أَحلامُهم..
فلمَنْ أَبُثُّ إِذنْ شكوى الهَجرِ والبُعْدِ
ومُرَّ النّأيِ والوجْد..ِ
كنتُ أَقرأُ دمشقَ منْ جَديدٍ
أَمامَ بَيتِ الزَّعيمِ، حينَ مَرَّ بي رَجَلٌ عجوزٌ..
تَقَدَّمَ عنّي خطواتٍ أَربَعَةٍ لا تزيدُ،
تَوقَّفَ بعدَها..
نَظَرَ إليَّ وقالَ:
(( مِنْ مَالِ الله يا محسنينَ ))
صوتُ العجوزِ يَصرُخُ في أعماقي
يستحضرُ التّاريخَ الأَسطوريَّ لدمشقَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ
ويَقِفُ أَمامَ عيني على كفِّ عَفريتٍ.
لماذا دمشقُ حزينةٌ اليومَ
بلْ منذُ شهرينِ
وربّما مِنْ زَمَنٍ طويلٍ،
وإلا ما معنى أَنْ ينتقَمَ مِنْ حَجَرٍ
واقفٍ مِنْ مئاتِ السّنينِ إلى شُهورِ قليلةٍ في مَقَابِرِ الصُّوفيَّةِ!!
الضّحيّةُ حجرٌ!
الضّحيّةُ رَمزٌ!
الضّحيّةُ القديمةُ الحديثةُ بَشَرٌ.
غريبٌ أَمرُكِ يا دمشقُ
أُريدُ أَنْ أَعرِفَكِ أَكثرَ
أنْ أَتبصَّرَكِ بعمقٍ
مَنْ أَنْتِ؟
ماذا تعبدينَ؟
أَعرِفُ أنَّ لَكِ الدِّرهَمَ والدِّينارَ
وجدرانَ الصِّينِ
وأبوابَ باريسَ أيضاً.
كانَ صوتُ العجوزِ يَحرِقُ أَعماقي:
ليسَ بَعدَ الليلِ إلا فجرُ مجدٍ يَتَسَامى..
غريبٌ أَمرُ هذا المجدِ
الذي لا يأتي إلا بَعْدَ القَهرِ والاستعبادِ.
لِمَ نَكرَهُ الحُبَّ والخيرَ؟!
نَظرْتُ إلى الرّجلِ العجوزِ.
حَشرَجَةُ الأعماقِ تكادُ تَبْلُغُ التَّراقِ
مَدَّ يَدَهُ
قالَ لي: أَنالَكَ اللهُ مرادَكَ
وأَوصَلَكَ بِمَنْ تَهوى
وبَلَّغَكَ المنى..
وأَجلسَكَ روضاتِ الإجابَةِ والقَبولِ.
أَخْرَجْتُ ما في جَيبي ووضعتُهُ في كَفِّهِ
سَعيدٌ أنا الآنَ بَعْدَ كآبةٍ طويلةٍ
فَرِحٌ أنا...
.. فَقَدْ كَلَّمَنِي أَحَدُهُم المساءَ في دمشقَ
سَألْتُ الرّجُلَ الدّعاءَ
فَقَدْ أُثقِلَتْ روحي اليومَ بالأَزمِنَةِ والأَمكِنَةِ
أَتعبتُها وهيَ تُشرِّقُ وتُغرِّبُ
مِنْ زَاويَةٍ إلى تَكيَّةٍ
مِنْ رِباطٍ إلى ضَريحٍ
ومِنْ قَصرٍ إلى....إلى.....
قالَ الرّجلُ العجوزُ:
لا يُسأل مثلي
اسألْ صَاحِبَ السّؤالِ
العليمَ بالحالِ والأَحوالِ
فَبِهِ يَطمئِنُ البالُ.
أَفرَحَني كَلامُ العجوزِ..
بحاجَةٍ قلبي إلى حُبٍّ وقُرْبٍ
إلى جَمالٍ ووصَالٍ
وهَلْ أَعظَمُ مِنَ اللهِ عَوناً؟
هَلْ أَطلُبُ مِنْ سواهُ وهوُ الحاضِرُ؟
هَلْ أَمشي إلى المفقودِ وأَترُكُ خالِقَ الوجودِ
:
اللهمَّ إليكَ أشكو ما أنا فيهِ مِنْ عِشْقٍ
اللهمَّ على أَعتابِكَ يَقِفُ قلبي
خاشِعاً
راجياً
متضرعاً
اللهمَّ اغمرْ قلبي بنورِكَ
وأَنِرْ قَلبَ حبيبتي بِفيضِ ضِيائِكَ
اللهمَّ بِكَ أَنتَ أَرجو وصالَهَا
يا سَنَدَ العاشقينَ
وملجأَ السَّارحينَ السَّائحينَ
اللهمَّ وَصِلْني بها يا رَحمنُ يا رحيمُ
اللهمَّ يا مَنْ أَنطَقْتَني العبارَةَ بلسانِ القُدرَةِ
احفظْ حبيبتي بأَلطافِ عنايَتِكَ
واغمُرْها بأَطيافِ رِعايَتِكَ
وَوَحِّدْ يا اللهُ بينَ ذَرّاتي وذَرَّاتِها
وهَمَسَاتي وهَمَسَاتِها
وأَطلِقْ يا رَحمنُ حياتي في حَياتِها
منكَ يا ربُّ تَعلَّمتُ ما سَأَلْتُ
فَأَجِبْ سُؤْلَ مَنْ قَصَدَكَ
واهْدِ قَلبَينَا إلى قَلبَينَا
يا رؤوفُ يا قديرُ.
 
كانَ هذا الدّعاءُ آخرَ ما رَدَّدَهُ الشَّيخُ
قبلَ أنْ يَغيبَ عنّي بطرفَةِ عَيْنٍ،
فيما كنتُ أُرَدِّدُ وَرَاءَهُ
آمينْ.. آمينْ..
آمينْ.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى