الخميس ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

ثقافة "الإيمو"

انزعجت السيدة العربية من وجود كلمة "إيمو" المكتوبة على ذراع ابنتها، وتخيلت أن الاسم لحبيب لها. وهو الأمر الذي أشعل غضبها، وأثار حنقها. لم تكن الكتابة بالقلم، لكنها كانت بآلة حادة خلفت وراءها جروحا غائرة وبقايا دماء متخثرة. وبعد شد وجذب وعراك بين الأم وابنتها بينت الفتاة المراهقة أن الإيمو مجرد نمط حياة، "ستايل" جديد يتبناه المراهقون ويتعايشون معه. وأنها لم تحب أحدا بعد، ولم تقع في شباك مراهق آخر. كان على الأم التعسة أن تهدأ وأن تحاول أن تفهم ما لم تفهمه، وتدرك تلك التحولات التي أصابت ابنتها، بل أصابت الكثيرين ممن هم في مثل عمرها.

الإيمو ثقافة فرعية ضد ثقافة الجماعة المتعارف عليها، ترتبط بالمراهقين دون سن السابعة عشر. وتفرعت ثقافة الإيمو من موسيقى البانك الأكثر انتشارا في بريطانيا، والتي ترتبط بالأساس بأشكال موسيقية صاخبة وحزينة ومضادة للمتعارف عليه من الكلمات والألحان. كما أنها ترتبط أيضا بموسيقى الروك والميتال البالغة الصخب. وكما تعني كلمة البانك في أصولها اللغوية المواجهة والمعاداة لثقافة الجماعية السائدة، فإن الإيمو تمثل نوعا من الانسحاب والعزلة عن السياق العام المحيط وعدم التعامل معه. فالإيمو حالة تمرد بالسلب على الآخرين والانسحاب عنهم، تظهر سماتها من خلال ممارسات كثيرة ومتعددة.

أولى الجوانب المرتبطة بثقافة الإيمو ما يتعلق بالمظهر. فالإيمو غريبوا الشكل، يرتدون الملابس القاتمة السوداء. سروايل ضيقة جدا، يكاد المرء يرى من خلالها تفاصيل أجسامهم، أو فضفاضة جدا لا يمكن من خلالها التعرف على ملامحهم الجسدية. وهم يفضلون الشعر الأسود الداكن جدا أو الأحمر اللون. ويميل ذكور الإيمو إلى قلب شعرهم إلى الأمام الأمر الذي يغطي تقريبا نصف وجوههم. وتميل فتيات الإيمو إلى وضع الكحل بكثافة حول منطقة العينين، الأمر الذي لا ندري معه المساحة الحقيقية للعين، إضافة إلى وضع المساحيق الكثيفة والداكنة التي تحيلهم إلى حالة من التوحش الساكن والمريب. وغالبا ما يرتدي الإيمو كل ما هو غريب من أشكال الزي التي تتعارض في الغالب الأعم مع السائد والمتعارف عليه من أشكال الزي التي يرتديها الأفراد العاديون. وربما لا يغيب عن الذهن هنا ما نراه من أشكال غريبة تتعلق بارتداء الجينز هذه الأيام، إلى الحد الذي يشعر فيه المرء في بعض الأحيان أن السروايل الجينز سوف تسقط ممن يرتدونها، ناهيك عن تلك المشاهد الشاذة المتعلقة بإبراز الملابس الداخلية لكلا الجنسين.

لا يتعلق الأمر فقط بارتداء تلك الملابس الغريبة التي تلفت النظر بدرجة أو بأخرى، لكنها تتعدي ذلك إلى الكيفية التي يتعامل بها الإيمو مع جسده وملامحه. ففي ظل الرغبة في الانسحاب من الثقافة العامة المحيطة، لا يجد الإيمو سوى جسده كفضاء ذاتي يمكنه أن يتعامل معه كما يحب وكما يريد. من هنا تظهر ثقافة الوشم التي أصبحت سائدة بدرجة كبيرة بين الكثير من المراهقين والشباب على السواء. كما تنتشر تلك الثقافة المتعلقة بوضع حلقات معدنية في الشفتين أو الأذنين، إضافة إلى العديد من مناطق الجسم الأخرى. يتحول الوجه إلى ساحة من المعادن المختلفة التي تخترق الجلد، وتشتبك مع تفاصيله لتخلق حالة بشرية جديدة تستدعي التأمل والتفكير.

لا يخفي هنا الطابع الحساس للمراهقين، فهم عرضة لكافة التحولات البيولوجية والفكرية المختلفة، كما أنهم أكثر فئات المجتمع تأثرا بتحولاته المختلفة، فكل ما يحدث في الواقع الاجتماعي المحيط سواء أكان أسريا أو مدرسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو حتى سياسيا ينعكس عليهم بدرجة أو بأخرى. ورغم الاهتمام الكبير الذي توليه المؤسسات المعنية بالمراهقين، إلا أنه من الواضح أن المجتمعات العربية مازالت تهمل مسألة التعامل مع المراهقين واحتياجاتهم المعنوية والمادية المختلفة.

فحساسية المراهقين تدفعهم للارتماء في أية تيارات جديدة محيطة بهم سواء أكانت محلية أو وافدة. تبدو ثقافة الإيمو الوافدة وارتباط المراهقين المتزايدة بهم، تعبيرا عن خلل مجتمعي كبير وفادح، إن دل على شيء فإنه يدل على عدم وجود مشروعات حقيقية يمكن أن تجذب هؤلاء المراهقين لها، بما فيها المشروعات الدينية المختلفة.

لا يجب التعامل مع هذه الصرعات بمنطق الحلال والحرام، كما لا يجب التعامل مع هؤلاء المراهقين من موقف الزجر والنهي والامتهان. فالمنطق الوحيد يكمن خلف التقرب منهم، وفهم وجهات نظرهم، والوعي بما يرتمون في أحضانه من أفكار جديدة وصرعات غريبة حتى يمكن مواجهتها والتعامل معها.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى