الخميس ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم حسن خاطر

أم كعب محنّي

دأبت زبيدة على أن تهتم بجمالها منذ صغرها حتى أنها كانت لا تبيت يوما إلا وكعبها محنّي من فرط اهتمامها بجمالها وجسدها فهي كانت بالفعل ذات جمال أخاذ لدرجة أنها لقبت بملكة جمال القرية التي تعيش فيها بل والقرى المجاورة لها ، واهتمامها الزائد بجمالها جاء على حساب تحصيلها العلمي حيث أنها شغلت نفسها بجمالها وزينتها وتركت جنبا كل أمورها الأخرى ولهذا فهي لم تنل من الشهادات الدراسية سوى الابتدائية التي حصلت عليها بضغط من والديها قبل وفاتهما وتركها وحيدة حيث أنهما لم ينجبا سواها ، وعلى الرغم من عدم حصولها سوى على الشهادة الابتدائية إلا أنها كانت مطمع لكل أبناء القرية فكل منهم كان يتمنى أن تصبح زبيدة زوجة له ، وكانت هي سعيدة بهذا..

ومرت بها الأيام هكذا سلسلة جميلة الحلقات كلها بهجة وهناء وسعادة ما بعدها سعادة.. إلى أن حدث يوما ما لم يكن في الحسبان ، فبينما وهي تسير في الطريق لشراء حاجيات من السوق الذي يقام أسبوعيا في المدينة التابع لها قريتها ، صدمتها سيارة مسرعة وفرت هاربة وتركتها تسبح في بركة من الدماء ، وأسرع بها بعض المارة إلى أقرب مستشفى وهي بين الموت والحياة ولكن الله كتب لها الحياة.. وبعد ذلك أضحت تتمنى الموت أفضل من الحياة فالحادث قد أذهب بجمالها ووجهها أصبح مشوها من كثرة الجروح والعمليات الجراحية التي أجريت فيه.. غادرت زبيدة المستشفى وهي يائسة ومحطمة وباتت لا تفارقها الدموع والأحزان على حالها وأصبحت لا تقوى على أن تنظر في المرآة فالمرآة لم تعد صديقة لها كما كانت من قبل.. بل أصبحت المرآة ألد أعدائها لا تقوى على أن تمسك بها وتنظر فيها ، ولم تعد تهتم بجسمها وجمالها فلم يعد فيه جمالا..

تنظر إلى الحناء وهي تبكي ولسان حالها يقول.. لا كعب محني ولا جسد متهني ولا نفس طامحة في الحياة.. بكاء وأحزان وعويل وهموم ليل نهار ونهار وليل.. هكذا أصبح حالها.. وتسرب لقلبها يأس عميق بأنها ستظل هكذا إلى أن تموت.. وتنسكت في بيتها وأصبحت لا عمل لها سوى التفكير في حالها وما آل إليه وظلت حبيسة الجدران.. ورفضت أن تقابل أحد حتى لا يجرح شعورها بكلمة واحدة حول كيف كانت وماذا أصبحت ؟.. ومرت بها الأيام تتوالي إلى أن حدث وافتقدها محمود أحد أبناء الحي الذي تسكن فيه فأخذ يسأل عنها وعلم بقصتها فطرق بابها وفتحت له فإذا هو أمام فتاة جعلتها الهموم والأحزان تبدو وكأنها عجوز في المئة من عمرها ، رحبت به وأجلسته وسألها عن حالها فقالت له : "محطمة تعيش" فقال لها ولما كل هذا فهل ما حدث لك يد فيه ؟ فلا دخل لنا في أمر الله ومشيئته.. وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث هي تشكو له وهو يواسيها وأدرك من خلال كلامها أنها تسبح في بحور من الظلام واليأس فقرر بينه وبين نفسه ألا يتركها هكذا.. وودعها وقد قدم لها الوعد على أن يقوم بزيارتها مرة أخرى.. وخرج لتوه متوجها إلى طبيب شهير في التجميل وعرض عليه أمرها وطلب الطبيب رؤيتها.. وبالفعل ذهبت إليه وهي تغطي وجهها بحجابها خوفا من أن يراها أحد على حالها هذا.. ذهبت وقلبها ينبض بالأمل في أن يعود إليها ولو جزء من جمالها مرة أخرى حتى تصبح سوية وتتعامل مع الحياة بأمل وإن كان أمل يائس إلا أنه أفضل من فقدان الأمل كلية.. قال لها الطبيب إنها تحتاج إلى أكثر من عملية تجميل وليست عملية واحدة وذلك حتى تستطيع أن تعيش حياة طبيعية بين أقرانها..

ولكن كيف لها إجراء عمليات التجميل هذه وهي لا تملك من حطام الدنيا شيء ؟ هكذا صاحت في نفسها.. ولكن محمود قطع عليها طريق تفكيرها في هذا الأمر وقرر أن ينفق على كافة عملياتها التجميلية من ميراثه الذي حصل عليه من بيع قطعة أرض إرثا كان قد تركها له والده.. "محمود هذا طيب القلب ولا شك".. هكذا صاحت زبيدة في نفسها وهي تتحاور معها.. حدد الطبيب يوم إجراء أولى العمليات التجميلية لها وذهبت إلى بيتها وقلبها ينبض بين أمل يائس ويأس آمل.. فهي تتمنى أن تنجح العمليات في عودة ما قد ذهب من جمالها.. وفي ذات الوقت تخشى أن لا تأتي العمليات بنتيجة إيجابية وتظل هكذا حبيسة الجدران والهموم والأحزان.. مرت الأيام وكان محمود هو الوحيد الذي يسأل عنها ويتردد عليها ويبث في داخلها جرعات الأمل والثقة بكل ما بين جنبيه من عطف وحنان فهو يعيش بعضا مما تعيشه من ظروف أسرية وإجتماعية.. حيث أنه مفتقدا للأخت والأخ.. وحيد والديه الذين تركاه ورحلا حيث أدركهما الموت منذ عدة سنوات.. وشعر محمود بأن زبيدة هذه في حاجة إليه كما أنه في حاجة إليها وهذا هو سر اهتمامه بها.. وهتف هاتف من داخله بأنه سوف يتزوج بها سواء نجحت عمليات التجميل التي سوف تجريها أم لا..

وأزف وقت دخول زبيدة لغرفة العمليات.. ولأنها عملية معقدة وليست هينة.. قرر الطبيب الاستعانة بطبيب تخدير متخصص وذلك لظروف زبيدة الصحية والنفسية.. وبدأ الطبيب في إجراء عملية التجميل الأولى في وجه زبيدة وانتهى منها بعد حوالي 5 ساعات كاملة وانتقلت إلى غرفة العناية المركزة التي مكثت فيها بعد العملية يوما كاملا ولكنها لم تفق من التخدير.. ومر عليها يوما آخر فثالث فرابع ولكنها أيضا لم تسترد وعيها بعد.. صرح الأطباء بأن هذا أمر عارض وسيزول لأن كل التحليلات والفحوصات أكدت على سلامة أعضاء جسدها خاصة القلب والدورة الدموية..

وظلت هكذا عدة أيام إلى أن ذهب إليها محمود لرؤيتها ذات مرة إلا أنه هاله منظرها فهي قد بدت لا تتحرك.. باردة الأطراف بصورة ملحوظة.. صاح محمود على الطبيب فجاء مسرعا وتفحص نبض زبيدة الذي توقف تماما لتوقف القلب وأعلن الطبيب وفاتها بعد غيبوبة نتيجة جرعة مخدر زائدة.. دمعت عيني محمود الذي اخبر أهل الحي بالمصير الذي آلت إليه زبيدة فحزن الجميع على رحيل حبيبتهم زبيدة.. "أم كعب محني".. حملوها إلى مثواها الأخير وسط أحزان ودموع ونحيب الجميع وأرقدوها بجوار والديها التي افتقدتهما صغيرة ولكنها جاورتهما في منامهما الطويل بعد أن شبت وصارت كبيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى