الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤
إهداء: إلى أم غريب في مدينة السلام
بقلم حميد الحاج

أنا روبوت

الأشجار تتحرك من حولي. لا يمكن أن أكون متحركاً فأنا مفعول به. مجرد روبوت. أظن ذلك. تلك البدينة الجالسة أمامي تقلب صفحات مجلة وتقرأ بصوت عال تحسب أني جاهل عن سرقتها لأفكاري. ولكن هل هي أفكاري أم برمجيات مغروسة في عقلي فأنا لست إلا روبوتأً. سرقوا أمي. هي ليست كأحد من نساء الكون.

القطار هو المتحرك، وهم يلعبون القمار. هل سينتصر جون أم سام. لا يهم فأنا لن أخسر. من أين يأتون بكل هذه النقود الملونة. خضراء صفراء سوداء.

البدينة تتحدث بلغة لا أفهمها ولكني أتذوقها. هي تشرب الكوكاكولا القاتمة و تلتهم (بيغ ماك). بطني منتفخ بالغازات. يبدو جون الإنكليزي مكتئباً أو مضطرباً. تنبح معدتي. أحس أني كلب. انا مخطئ. الروبوت فاقد الإحساس. ولكني مع ذلك أطرب لوقع تلك النغمات الموسيقية الحالمة. يقترب العازف الإسباني الجوال مني. في صدى غنائه شيء من بحة جدي وهو يهدر بالمواويل. أحس أنه يغني لي وحدي. يكاد فؤادي يرتعش ولو لم يمسسه صقيع. جدي كان شيخاً وقوراً له مهابة عند كل من سمع به. أتذكر انني عندما رأيته يترنح حسبت أن الخلق جميعاً سيمدون له أيديهم لذلك لم أتحرك لمساعدته. لكنه سقط دون صخب كما سقطت أراض موعودة رحبة.

تبتسم البدينة وهي تقسم قضيب الشوكولا إلى قطعتين. تتحرك شفتاي إلى أعلى وأسفل.. ينسبل جفناي.. يدي على بطني. يرمي جون ورقة لعب بطريقة أحسبها عنيفة. وجه سام مقفر كصحراء نيفادا أو كوجه مريض باركنسون. أفكار غريبة تحشر في دماغي. البدينة ستعطيني قطعة شوكولا.. تذوب الشوكولا في مخيلتي بفعل إنزيمات حالمة. تمد البدينة أصابعها.. تتعالى الصرخات في أمعائي الممزقة. ما أطيب الأكلات التي تطهوها أمي. كانت تطعمني بيديها. وكنت كلما كبرت أكثر استعذبت طعم يديها أكثر وأكثر. لم أكن آكل الطعام و لا حتى الأيدي وإنما الروح التي تسربت عبر تلك الأنامل. يصرخ طفل من خلف مسرح الذاكرة.. أمي علمتني أن أكون عفيف النفس.. لا أمد يدي إلى ما يسقطه غيري. تتحرك أصابع البدينة إلى أعلى.. تتلمظ شفتاي. تسقط قطعة الشوكولا على الأرض.. أتلقى أمرين مختلفين.. الأسرع كان هو الانحناء.. واأسفا على أمي. ابيضت عيناها لكن عودها ظل شامخاً.

يخشوشن صوت الموسيقي في حلقي ورئتي. لماذا أيها العازف تقرع الطبول؟ جسدي مليء بالبقع من فرط الحساسية. يتمايل سام طرباً.. يتصبب جون عرقاً.. أودّ لو أمسك بتلابيب هذا الإسباني المدعي للفن. أمعن النظر فيه فأجد جسده مغطى بطفوح الحساسية. هذا المسكين الأحمق لماذا يدق نغمات تصيبه بالشري الذي أصابني. لابدّ أننا من طينة واحدة. ربما سُرقت أمه. هل هو روبوت أيضاً؟ لست أدري.

لم أشهد من قبل قطاراً يتزود بالوقود. يأمرني سام أن أرمي ورقتي. أضحك في قرارة نفسي. إنني لاعب رئيسي إذاً. هاهم يتحرقون بانتظار قراري أية ورقة سألقي. أتمعن في أوراقي فأجدها كلها ذات شكل ولون واحد. تتمعن فيّ هي أيضاً. أبتسم فتبتسم. أكشر فتفعل فعلي ذاته. تلكزني إحدى الأوراق وهي تهمس:- ماذا تنتظر أيها الجوكر الغبي. إذا لم تلق بنا سنلقي نحن بك.

الروبوت ينفذ و لا يعترض. ثمة خلل ما في تصميمي. أنا أنفذ ولا أعترض فما هي المشكلة إذاً؟ يعزف الموسيقيّ مقطوعة أندلسية جنائزية فأشعر بالعبرات تترقرق على صفحة خدي. لابد أن البدينة تقرأ في صفحة الوفيات. هي تبكي أيضاً. أشعر بالأسف عليها. كان عليها أن تسطو على أفكار غيري، فأنا مشبع بالأحزان.. عصارة حنظل أنا.. غراب بين. أي روبوت لعين يستوطن جلدي؟! نعم هناك خلل. كان عليهم أن يذيبوا جميع الإحساسات من تصميمي. ربما هم حاولوا ذلك فلم يفلحوا. إنهم فاشلون فاشلون.. أقلب جميع أوراقي ما بطن منها وما ظهر و أرميها من نافذة القطار. تتطاير أصابعي مع الريح. أحس بصوتي يطير هو أيضاً إلى اللامعقول.

أصرخ بنفسي البدينة: أرجوك خلصيني من نفسي. تبتسم دموعها وهي ترفرف بجفنيها موافقة: نعم أنت لا تصلح هكذا، لأنك روبوت.. عربي.

نيوكاسل 2004


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى