الأربعاء ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الغفور الخطيب

تلكَ الرِّسالَةُ الحمقاء

(1)
لَمْ أَقُلْ شيئاً حينَ قَالتْ: لا
فقطْ.. تَأبَّطتُ قصائدي
وكراريسي الأَرْبَعَةَ
التي كتبتُها لها..
وتَأَبَّطتُ كُلَّ أحلامي،
طموحاتِ قلبي
وما بَيَّضتُ على الأَوراقِ الصَّفراءِ
وما خَرْبَشْتُ على هَوامِشِ الكُتُبِ..
كُلُّ ذَلكَ تَأبَّطتُهُ ذَاتَ خَرِيفٍ
ومَضَيْتُ منتعلاً وَجَعاً كَبيراً
بحجمِ الحُبِّ..
مَضَيْتِ إلى خارجِ الفَرَحِ،
إلى مَكَانٍ جَديدٍ
أَضَعُ فيهِ قصائدي،
بعيداً عَنِ الوَجَعِ والحُزْنِ.
 
(2)
كانَ يوماً بارداً جِدّاً
يوماً خريفيّاً بامتيازٍ؛
أَوراقُ الأَشجارِ الصَّفراءِ
تتساقَطُ في كُلِّ مكانٍ،
والسُّحُبُ الرَّمادِيَّةُ تتكَتَّلُ في السَّماءِ
وكُلِّ شيءٍ يبدو كئيباً.
......
وصلتْ رسالتُكِ أَخيراً
تحمِلُ كُلَّ القَلَقِ والفَزَعِ
تحمِلُ الخَوْفَ والرُّعْبَ والجَهْلَ..
وصَلَتْ رِسالتُكِ الحمقاءُ أَخيراً
تَقْطُرُ دَماً
وقَيحاً
وكُفراً
وَصَلَتْ وأَنَا أَرسُمُكِ هُنا
في سِيَرِي الشَّعبيَّةِ
في مَرويَّاتِ أَبطالي الأُسطورينَ
لمْ أَهْرُبْ كَمَا هَرَبْتِ،
ولا أَخشى صَقِيعَكِ المميتَ.
فَقَدْ بَدَأْتُ أَرْسُمُكِ في دَفَاتِرِ الغِيابِ
وفي لوحَاتِ الأَمسِ الجميلِ..
حُلُماً كُنْتِ
تَرقُّباً أَلهبني مَعَ أَوراقي
انتظاراً أَرَاقَ الكَثيرَ مِنَ الحِبرِ
والدَّمعِ..
 
(3)
سيكونُ الشّتاءُ القَادِمُ دافئاً مِنْ دونِكِ
وستشتَعِلُ أَصابعي حُبّاً
ستبوحُ بأَغلى ما امتَلَكَتْ
ستمْطِرُ حُبّاً وحِبراً وحناناً
لنْ تحتاجَ إِليكِ
وستُغنِّي بسعادَةٍ كبيرةٍ
كَمَا غَنَّتْ مارلين مونرو
في فِلمِهَا الرَّائِعِ "غِنَاءٌ تحتَ المَطَرِ"
سترقُصُ أَصابعي فرحاً
وهيَ تُداعِبُ حُلُماً جديداً
بَعْدَ أَنْ تَدفنَ آخرَ ما تَبَقّى مِنكِ.
 
(4)
كنتِ الفَصَلَ الثّاني مِنْ كتابِ حياتي..
وأَنا الآنَ أَطوي هذا الفَصْلَ
بَعْدَ أَنْ قَرَأْتُهُ طَويلاً
وحفظْتُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ
وأَحبَبْتُهُ بالتَّأكيدِ
ولحَّنتُهُ
وغَنَّيتُهُ
وحَزنْتُ مَعَهُ أَيضاً.
وأَنا أَطوي هذا الفَصْلَ
أُعْلِنُ ميلادَ الفَصْلِ الثَّالثِ!
 
(5)
لمْ أَقُلْ شيئاً بَعْدُ
ومَعَ ذَلكَ
كِدْتِ تستهلكينَ حِبرَ الرُّوحِ
وأنا أُطلقُ أَقلامي في عَوَالمِكِ المثيرَةِ
تَكْتُبُ ما تَشَاءُ
وتَخُطُّ الذي تُريدُ
وتَفعلُ ما تَفعَلُ..
كِدتِ تَستنْزِفينَ سُحُبِي
وأَنا أُمطرُكِ آلافَ القَصائِدِ
بما فيها تَلكَ القَصائِدُ السّياسيَّةُ الماكِرَةُ.
أَصابِعُكَ تَسترسِلُ فيَّ
تحاوِلُ إِخمادَ جنوني بِكِ..
عَبثاً تحاوِلُ ولا تَصِلُ.
وَجْهُكِ يمضي في صَدَئِهِ إلى لحظَةِ تَفَتُّتِهِ،
وَجْهُكِ الغَارِقُ في وَهْمِهِ وجَهْلِهِ
يَدخُلُ في خَرَائِطَ قَديمةٍ
لا جدوى منها ولا أَهميَّةَ لها.
لا تَدَعِيهِ يَدخُلُ في لُعبَةِ مَوتِهِ
فأَنا لمْ أَعُدْ أُريدُهُ
لا يَهُمُّنِي قَط.
 
(6)
تَغَيَّرِتِ التَّفاصِيلُ كَثيراً
قلبي ليسَ للإيجارِ
وصَباحاتي ليستْ للرّحيلِ والضَّياعِ..
لنْ أَلعَنَ الظَّلامَ
ولنْ أَهرُبَ مِنْ أَمسي
وسأَرتَدي قَصائِدي كَمَا كُنْتُ أَفعَلُ،
وسَأنسُجُ الكَثيرَ منها
وأُهدي مَنْ أَشَاءُ في الوَقْتِ الذي أَشَاءُ.
ولنْ أُخَالفَ قاموسَ الأَمَلِ
ولا وصايا العجائِزِ.
أَتَطَلَّعُ إلى دِفءٍ
إلى قَصيدَةٍ
إلى فَرَاشَةٍ تحملُني في أَجنحَتِهَا
تَضَعُني في حَقْلٍ مِنَ الزُّهورِ
تَغمُرُني بالأَلوانِ الجَديدَةِ..
أَتَطَلَّعُ إلى قَمَرٍ فِضِّيٍّ
يُعانِقُ قَلمي الخَارِجَ مِنْ نجمتِهِ
الطَّالِعَ مِنْ وَرَقَتِهِ السِّحريَّةِ
النَّاهِضَ مِنْ صُرَاخِهِ..
أَتَطَلَّعُ إلى مَدينَةٍ أُخرى
أُولَدُ فيها مِنْ جَديدٍ
وأَلعَبُ كالأَطفالِ مِنْ جَديدٍ
وأُحِبُّ مِنْ جَديدٍ
وأُصَادِقُ مِنْ جَديدٍ
وأَكتُبُ الشِّعْرَ مِنْ جَديدٍ..
أَتَطَلَّعُ إلى مَسَاءٍ غريبٍ
لا يُشابِهُ المساءاتِ الرَّتِيبَةَ،
وصباحٍ يختلفُ عَنِ الصَّباحاتِ العَادِيَّةِ،
صباحٍ استثنائيٍّ..
 
(7)
عاشقٌ أنا
مِنْ قِمَّةِ رأسي إلى أَخمَصِ قَدَمَيَّ..
عاشقٌ حتّى الثُّمالَةِ
تَشْهَدُ على ذَلكَ كُلُّ خَرْبشاتي عَلَى الأَوراقِ
وكرنفالاتُ اليَاسمينِ الدِّمشقيِّ
واحتفالاتُ النَّرجِسِ والفُلِّ والنِّسرِينِ..
عاشقٌ حَدَّ العشقِ،
وكُلُّ أَلحانِ أَباطرَةِ الموسيقى مِنْ موزارتَ
إلى رمسي كورساكوفَ ودفوراكَ..
كُلُّها تَشهَدُ أَنِّي عاشقٌ مَاهِرٌ.
حتّى السَّاحاتُ العامَّةُ
والأَبراجُ والقصورُ والحدائقُ
حتّى مُقدِّماتُ الغيومِ
تُقِرُّ ليَ بالعشقِ.. فَقَدْ كُنتُ أُشهِدُها على ذَلكَ
وأَنا أُحدِّثها عَنْ أَحوالِ العشقِ
ومراراتِهِ
وجماليَّاتِهِ..
عاشقٌ والشّعرُ يُعربِدُ على شَفَتي
وأَنا أُطلِقُهُ في فَضاءاتِ الوجودِ
بلا خوفٍ مِنْ سلطويَّتِهِ
أو مِنْ نرجسيَّتِهِ وآثارِهِ العجيبَةِ الغريبَةِ
حتّى لو كانتْ على حِسَابِ قلبي.
تخرُجُ النُّجومُ المختبئةُ في جيبي مِنْ زَمَنٍ بعيدٍ
مِنْ يَوْمِ كُنتُ طفلاً أَقطِفُها
مِنْ على سَطْحِ دَارِنا
كُلّما سَنَحَتِ الفرصَةُ لي.
كُنتُ أَضعُ النُّجومَ في جيبي
وما دَرَيتُ أَنَّني سأَحتاجُها حينَ أَكبُر..
ومَعَ أَوَّلِ دَقَّةٍ على بابِ قلبي
احتجْتُ نجومي المخبّأةَ
لأَزرَعَها في شَعْرِ حبيبتي،
لأَرسمَهَا حَولَ اسمِها..
لأَضَعَهَا في خرقَةٍ على هيئَةِ حِجَابٍ
وأَجعَلَهَا تَعويذَةً تَضَعُها في صَدرِهَا،
كي تَغرَقَ في بحرِ أَحلامِها،
عَلَّها تَلتَقِطُ نجمَةً حلوةً
كانتْ يوماً مِنْ محفوظَاتي.
ويومَ نَفَدَ ما عندي مِنْ نجومٍ
رُحْتُ أَصنَعُ نجوماً وأَلتقِطُ أُخرى،
حتّى امتلأتْ خوابيَّ وكُتبي ودَفاتري
بما عَبَّأتُ مِنْ نجومٍ
وما صَنعْتُ منها في غرفتي الرِّيفيَّةِ.
.....
حتّى القمرَ صَنعْتُهُ يوماً
ثُمَّ أَلقيتُهُ في ليلٍ حميميٍّ،
ومِنْ يومِها ما زَالَ يُواعِدُ العشَّاقَ
ويحنو على القلوبِ المعذَّبَةِ..
 
(8)
.....
مِنْ يَومِ تحوَّلَتِ الأَحلامُ إلى وُرودٍ في يَدِي
مِنْ يَومِ استيقظتُ على صَدْحِ العنادِلِ
في حديقَةِ بيتي الملكيَّةِ
مِنْ لحظَةِ انبثاقي على كَتِفِ سَاقيَةٍ
وخروجي النَّرجِسيِّ مِنْ بَينِ الأَوراقِ الصَّفراءِ
وانبجاسي مِنْ بَينِ الصُّخورِ
على هَيئَةِ شَلالٍ مِنَ الحروفِ والكلماتِ
مُشَكِّلاً بحيرةً مِنَ الجُمَلِ الصَّاخِبَةِ المثيرَةِ..
مِنْ سَاعَةِ ميلادي ذَاتَ فَجْرٍ مغرِقٍ بالرُّومانسيَّةِ
في السَّاعَةِ الخامِسَةِ مِنْهُ تحديداً
في لحظَةِ عَطاَءٍ بهيٍّ..
مِنْ وَقْتِ ظهوري العَلَنِي
أَمامَ مَلايينِ الورودِ والزُّهورِ
في الحَدَائِقِ والرِّياضِ والغَاباتِ.
مِنْ تِلكَ اللحظاتِ القَدِيمةِ وأَنا طِفلٌ جميلٌ..
مِنْ تِلكَ الأَيَّامِ وأَنا أُزاوِلُ مِهنَةَ الحُبِّ
لأَنَّني لمْ أُتقنْ سِواها.
أَمَّا قِطافُ النُّجومِ واصطيادُ الأقمارِ
فتلكَ هوايةٌ يُتقنها كُلُّ عاشقٍ،
فقطِ العشَّاقُ من يتقِنُ ذلكَ.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى