الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم وفاء الحمري

الراهبان

دخل الحجرة العلوية من البناية العتيقة ….الجدران حجرية ….الأرضية رخامية ….السقف عال جدا ينتهي بنوافذ ملونة الزجاج، يتسرب من خلالها ضوء الشمس فيشكل ألوانا قزحية لماعة تضفي على الكتاب الذي بين يدي الرجل هالات نورانية فريدة …فجأة يضيق صدر الرجل فتضيق عليه الحجرة بما رحبت ….يخيل إليه أن هذا السقف العالي يكاد يطبق على صدره ….تتسارع ضربات قلبه….يسعل….يتوقف عن السعال على حس خطوات مسرعة تصعد الدرج …يرفع بمشقة رخامة أرضية الغرفة العتيقة ….يدس فيها الكتاب بكل عناية بعد أن يلثمه بحرارة لثمة مودع…لثمة مفارق….تمنى لو ….طرق عنيف بالباب يقطع عليه حبل أمنياته فيسرع بوضع الكتاب في الحفرة….يضع عليها قطعة الرخام …يجر حافة السجاد المنثني فيعيده إلى مكانه بيدين مرتعشتين وجبين مندى ولهاث مسموع…

دفع الباب الخشبي الضخم فانفرجت عن القس الأعظم ….نظرة واحدة كانت كافية لمعرفة اللحظة الحرجة التي يمر بها صديقه …..جرى الرجل متعثرا في لباسه الأسود الطويل ….حمله من تحت ذراعه…لهاث الرجل يزداد ….العرق ينساب غزيرا …يغسل وجهه المحتقن ….يرفع الرجل سبابته عاليا ولسانه يدد كلمات غير مسموعة ….نزع الآخر صليبا متدليا من عنقه ووضعه على صدر صاحبه وبدأ في قراءة الكتاب، والرجل يحرك لسانه ويعجل بالقراءة رافعا صوته شيئا فشيئا ….انتفض القس الأعظم لسماعه كلاما غير الكلام الذي بين يديه ….غير الذي بين دفتي الكتاب …..نزع ذراعه من تحت ظهر صاحبه ليضعها في أذنه صاكا السمع صكا ….ترك جسد صاحبه يهوى على الأرض….جرى مسرعا إلى المكتبة المقابلة له في الغرفة ….بعثر الكتب والأسفار هنا وهناك…. ينقب….يبحث عن شيء يؤكد شكوكه ويبدد ظنونه ….انقلب رأسا إلى المكتب الخشبي الضخم …مكتب صاحبه ….أخرج الأدراج بعثر الأوراق وأطاح بالمحتويات ….جرى مرة أخرى إلى دولاب الملابس….أخرج كل محتوياته….عاد لصاحبه المحتضر ….ينظر إليه نظرة المتفحص ….نظرة الباحث ….لا زال الآخر يردد القراءة ويجهر بها ….ما يقطعه عنها سوال سعال ثقيل بين الفينة والأخرى ….أناخ الآخر السمع….اقترب منه ….تسمع جيدا....ترتجع خطوات إلى الوراء....فغر فاه ….فتح يا قة رقبته البيضاء….خالها للحظة حبل مشنقة غليظ يوشك أن يزحق روحه …سمع الكلام أو قل تسمعه ….عقله ووعاه ….كأنه هو ….بل هو بكل تأكيد ….يعلمه علم اليقين ….ضرب رأسه ….رفع الصليب من على صدر صاحبه وبدأ يتلو ويتلو ….يرفع صوته بالإنجيل …ينحبس غصة في حلقه …ويصرخ بعد أن انزاحت في حركة غير عادية لمثل من هم في مراكزهم الكنسية الرفيعة ….

وضع الصليب على كف صديقه المحتضر….فيلقيه هذا الأخير أرضا ….يقرأ له الإنجيل والآخر ذائب في قراءة القرآن ….هذا شاخص البصر مشدود القسمات واللآخر هادئ النظرة طلق القسمات بل باسم الثغر ….استفزته تلك الإبتسامة فوضع بطريقة هستيرية كلتا يديه على فم الآخر ليحجب تلك الإبتسامة…ليسكت طنين تلكم الكلمات …ضغط بقوة على فيه ومع ذلك لم تفتر الشفتان عن الحركة وكأنهما آلتا دفع شديدتي القوة ….من أين له بهذه الطاقة؟ تساءل بينه وبين نفسه ….نزع كفه فاستقبل وجه الرجل بالرضى والبشر ….يلوي صفحة وجه صاحبه على الجانب كأنه يهرب من وحش مفترس…يعلم هو معنى تلك النظرة ….يعي أبعادها ….لكنه غير مصدق ….

يعود بصفحة وجهه تجاه صاحبه فتصدمه تلك النظرة...ويا لها من نظرة... نظرة دعة ودعوة....صرخ بأعلى صوته فتجمع كل من الدير....جهزوه بجنازة تليقه ومقامه ودفن في مقبرة النصارى في مكان رفيع المستوى مع سابقيه من القساوسة والرهبان والعلماء الأفذاذ....عاد الجميع إلا أعمالهم الإعتيادية إلا هو...أحس من يومها بفتور شديد وانعزل في غرفته لا يكاد يبحها إلا لماما....لم يستغرب أحد لما بين الرجلين من عشرة عمر طويلة وصداقة متينة....تفهم الجميع الموقف فتركوه لخلوته...انكفأ هو على دراسة معمقة للأديان ووقف طويلا عند دراسة القرآن....يهريه بحثا وتنقيبا وتقليبا....لم يعد يستعمل الفرامل كما قبل....لم يستعمل المكابح بل ترك نفسه تسبح...هو الآن حر طليق يركض بفهمه حيث أصاب...يقرأ قراءة الباحث عن الحقيقة تنير دربه نظرات الرضى التي ودعه بها صاحبه....لم يطل به البحث حتى ارتقى إلى سلم الموحدين....كتمها الرجل في نفسه ولم يبدها....نزع الصليب ثم ما لبث أن أعاده إلى عنقه وظل على ذي الحال حت صحا في يوم ربيعي على حادث عجل في اتخاذ قرار حياته....داست قدمه يوما طرف الرخامة لتنقلب عن كنز ثمين رفعه عاليا وحمله معه مهاجرا بدينه حيث مارس الدعوة الاسلامية السلمية...فكان وجهه مؤلوفا على شاشات التلفزات الدولية يرشد الضالين ويوجه المتعثرين ويكفيه فخرا أن يدفن في مقابر المسلمين وأمنيته أن يجمعه الخالق مع صديق عمره في جنة النعيم....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى