السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم زكية خيرهم

الصقر المتوحش

منذ صغري وأنا ساخط على الوضع ... ساخط على الأفكار التي تتطاير من حولي وتؤذي ألعابي وممتلكاتي. منذ نعومة الطفولة وأنا أحس أن مكاني ليس هناك ولا أعرف أين. أذكر أنني كنت أضحك كثيرا ... ساخرا على الهواء والسماء ... ناقما على الرياح ... حاقدا على العبرات. عبر .... حكم ... قيم .... مثل ... علم ... إلا أنني كنت أشم التخلف والكبت. لا أعرف لماذا أنا بالذات أرى وأشعر وأحس، والباقي لا شعور له ولا إحساس. هل لأنني أختلف عن كل من حولي أو فقط أنفي الذي كانت حاسته قوية جدا ... كان أخي يقول لي" ذا الانف الكبير" وبكثرة ما كنت أفكر وقعت كل خصلات شعري فلم تعد في رأسي إلا شعيرات يمكن للمرء أن يعدهم ...
نعم، هذه حقيقتي ... حقيقة طفولتي ... صدق أو لا تصدق ... فأنا غير كل الأطفال ... بل أختلف عن الكبار وناقم على الماضي والحاضر ... متنبأ أحداث المستقبل ....أخبرت عشيرتي عن علمي للأمور، فأخذوني على الصلب ... لكن قدرة الخالق أحضرتني إلى النرويج. نعم، جاءت لجنة من أناس ذو عيون زرقاء وشعر أشقر، بياضهم ناصع فاقع، أخذوني في مركبة طائرة وحلقوا بي عاليا في السماء. مازلت تحت صدمة ذلك الصليب ... أنظر من نافدة تلك الكوكبة الطائرة وفيما أرتب جزعي رأيتهم يلوحون بالعصي ... تلك العصي كانت ستمزق أوصالي ... كنت أحس فرحا عميقا بداخلهم تخلصوا من " نبي مزيف"، وأنا تخلصت من بلدتي الشاحبة الصدى ومن مخلوقات على شاكلة البشر وما هم ببشر. ها قد نزلت المركبة الفضائية في أسلو... في النرويج ... لم أسمع بهذه البلدة قبل ولا بالدول السكندنافية. بل لم أكن أعرف أن هناك عالما آخر وأناسا آخرون غير شعبي. كنت أعتقد أن الأرض والحياة خلقت لي ولشعبي فقط إلا أنني الآن أصطدم بعالم آخر وشعب وعرق وثقافة أخرى، ولأنني أختلف عن شعبي تأقلمت وصرت واحدا من أهل البلد إلا أنني لست منهم.

تزوجت (فيجديس)، كانت جميلة ذلك الجمال الغاوي الذي يفرح به كل رجل من شعبي ، بياضا وطولا وشقارا ... سبحان خالقها الذي أتم جمالها. مثقفة ذات فكر ووعي مثلي لكنها تريدني أن أقف معها في المطبخ وأساعدها. الله أكبر! صعقة نزلت على رأسي فذمته. أنا الرجل ... أدخل إلى المطبخ؟! هذا ما تبقى.... أي مساواة هذه رجل في المطبخ ...! هذا ما كنت لأفهمه... طلقتها. ولأنني أكره نساء بلدي السمينات ... المعلوفات ... تزوجت (كريستيانيا) هيفاء ... غراء كالقمر ....طويلة كالنعامة، ناعمة كالفراشة وديعة كالحمل ... لم تكن مثقفة ك(فيجديس) ولكنها تحب عمل البيت ... حملت .. فطرت فرحا سأصير أبا لطفل سيكون ذكيا .. مفكرا ... ذكيا ... فيلسوفا مثلي وجميلا مثل أمه ... هذا السعد كله. أنجبت ( كريستيانيا) طفلا ويا لخيبتي جميلا مثلي ومفكرا مثل أمه. بعد ست سنوات أصيب طفلنا بحمى ... سافر إلى ربه ... تأثرت زوجتي فأصبحت تدخن .. طلقتها . كيف أقبل امرأة تدخن كالرجل. ليست عندنا امرأة تدخن. تزوجت (بريت) تحب الفكر مثلي وتحب أيضا عمل البيت. وكانت أيضا جميلة ... يكفي انها نرويجية. كان الحظ حليفي ... امرأة تعمل داخل البيت وخارجه ... لنا نفس الأفكار تقريبا ونفس الإهتمامات. عندما تأتي من العمل تدخل إلى المطبخ وتهيء الأكل وقبل أن تذهب للعمل ترتب البيت وتنظفه. امرأة بكل الكلمة من معنى. كل الأنوثة متوفرة فيها ... تشبه أمي في تضحيتها لزوجها رغم أن أبي تزوج عليها ... أنا لن أتزوج على (بريت) حتى وإن أردت لا استطيع في هذا البلد... ممنوع تعدد الزوجات.

وأنا مفكر لست كغيري لكي اتزوج على زوجتي ... لكن من يفهمني ....؟! كم سعدت معها، كنت معها الرجل صارما ... صلبا ... وكانت هي المرأة الحنونة ... أنا ألآمر الناهي وهي المطيعة. كانت رائعة في أوج الذكاء إلا أن لها معجبين في العمل وهذا شيء لا يسكت عنه. هددتها بالطلاق فأجابت: ولماذا أنت لديك معجبات وزميلات وصديقات؟ هل اعترضت مرّة على ذلك؟ إنه حقك الطبيعي مادامت العلاقة مبينية على الإحترام؟

احترام! عليك أن تفهمي أنا الرجل ويحق لي أن أفعل ما أريد. هل فهمت؟

ضحكت ضحكة هيستيرية والدموع تسيل من عينيها، وقبل أن تفرغ من ضحكتها طلقتها. ولم لا؟ في بلدي ليست عندنا نساء على شاكلتها. وأخيرا لم أعد أطيق خلقتهن ... تعبت من غنجهن وجبروتهن على الرجل. هذه العدوى التي ترعرعت في عقولهن فاصبحن كالصقر المتوحش. أنا لا أريد صقرا متوحشا. أنا أريد حملا وديعا ... غزالة مدللة ....أريد امرأة قوية .... تتحمل عناء البيت والعمل كالبغل .... أريد امرأة أليفة كالقط مطيعة وفية كالكلب. مازال تحت صدمة خيباته مع صقوره حتى قفز من أريكته التي كانت مليئة بالأوراق والكتب والجرائد وفتات الخبز. وجدتها .... ابنة عمي (زهورة) ... هي التي ...هي التي فيها أغلب الصفات التي أريدها ...نعم، إلى متى سأظل أبحث عن السراب والأوهام ... أريد الحقيقة والواقع ...

جاءت ابنة عمي ... تزوجتها فعشت واقعا ووقائع ليس لها مثيل. انتهى شهر العسل ولم يبق بيننا إلا شهورا وسنينا من البصل ... شجار دائم ... كل شيء لا يعجبها. كرهت الطقس ... وكرهت زميلاتي اللواتي اتعامل معهن ... غيرتها فاقت الغيرة نفسها ... بدأت تدرس لكي تظهر لي أنها ليست أقل منهن في العقل وتركت واجباتها الزوجية قصدا ... طار عقلي ... لم أعد أستطيع تحمل تصرفات ليست من عادات نساءنا ....هذه التصرفات التي تكون سببا قاطعا لضرب المرأة حتى ترجع إلى الصواب ... لكن أنا المفكر ... انا الفيلسوف ... ليس اسلوبي الضرب أو القمع... ناديتها ... جلست تحذق إلي بعينين مليئتين بالكره والنفور مني... أمسكت يدها.

حبيبتي ... كنت ترويني بحبك وتغذيني أكل أمي .... كنت عربيتي وعروبتي النادرة ... كنت ذلك الوجه الدافئ في شتائي ...كنت عبقا وأريجا وشهدا ... كنت ذلك الجواد الأصيل ... ذلك الغزال الرشيق ... من غيّرك يا ( يا زهورة) هل غيرتك نساء هذا البلد فصرت جافة كالصحراء ... هائجة كالبحر باردة كالصقيع متجمدة كالثلج ...؟ أهذا فقط ما تعلمت منهن؟

أنت الذي تهلل بهن صباح مساء ... وتسبح بهن الليل والنهار .... وفي السر والعلن ... يا من لا يحب إلا نفسه ... يا من يجهل ما يريد ....يا طاووس نفسك ....ومفكر في جهلك ... وأستاذ على نفسك .... أناني في طبعك ....

صعق الزوج المفكر ... فهو لم يسمع إهانات من سابقاتها... يسمعها من ابنة عمه ... احمر وجهه المستدير ووقفت شعيرات رأسه القليلة ثم فتح فاه ...

ليس لي كلام معك يا ناكرة الخير ... أنت طالق وغدا على بلدتك. هناك مكانك تحت حر الشمس وفي قيظ الجهل ومجد التخلف ... وليس هنا في النرويج ...

لا يا حبيبي مكاني هنا مع ابني الذي سيأتي قريبا ... وأنا من سأخلعك من حياتي يا من جعل من نفسه إله نفسه ....

غادرت (زهورة) الشقة ... تركته وحيدا وفمه مفتوحا ... هل يلعن نفسه أم يرثيها ... لملم روعه ...انتشر في صخب شوارع أسلو ... ينظر إلى المارة من النساء ... محتجبات ... متبرجات ... عربيات ... نرويجيات ... مسلمات ... مسيحيات ... هندوسيات ... بوذيات ... يتطلع إليهن بتقزز ... حاملا أمتعته من الكره ... تدحرجه الصعود إلى لقاء الأرصفة ... يثرثر مع نفسه ....يتأملهن ....يصرخ من فزعه وشجونه وأحلامه التي تهاوت فلم يعد للمفكر أملا في الزواج لا من شرقية ولا غربية .... حزن لحظّه المشئوم معهن ... فعزم على أن يستغل فكره عله يخفف ذلك الحقد الذي يأكل أحشاءه .. فما عادت له سيرة ولا فكر إلا نقد النساء ودمهن ...


مشاركة منتدى

  • الحقيقة رغم ان في الموضوع مبالغة الا اني اجدها ممكنه واجد الشخص اناني ومتسلط .

  • فعلا قصة جد رائعة
    أضنها تعكس جزء من واقع الثقافة العربية و أضنك لا تعين الجزء الثاني من الثاقة العربية
    ذلك الجزء الذي نجهله نحن المغاربة.إنه الجزء اللعين فينا أو فيهم إذا أقمنا الشك في كوننا عرب .

  • في الواقع القصه جميل تحمل كثير من المعاني التي من الصعب علا الجميع فهم المعني الحقيقي الذي انا استشعرته من هذا القصه هو بختصار المعلومات التي تجول في عقل الكاتب وكيفه جسدها في هذه القصه التي كانه يقصد الحياة وليس المرأ فقط . قصه جميله و اهنيك علا شعورك الراقي .(( الام مدرسه إذا اعدتتها اعدتت شعبا طيب الاعراقي :) مع الشكر المرسل.... (شرق بن شرق)

  • صقر فلسطين ارى ان من يريد ان يعيش في مجتمع غير مجتمعه وفي بلد غير بلده عليه ان يتحمل و يتاقلم مع الوضع او يعود

    • أليس في كل مكان صقورا متوحشة؟ المشكلة ليست في الوطن وخارج الوطن. المشكلة في سلوكيات الناس بالأوطان والمتوحش يبقى متوحشا سواء كان داخل الوطن أو خارجه.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى