السبت ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩

علاقة الأنا والآخر في (موسم الهجرة إلى الشمال)

بقلم: محمد رُشد

ميلاد فنان:

(لم أصدق عيني وأنا ألتهم سطور هذه الرواية وأتنقل بين شخصياتها النارية العنيفة النابضة بالحياة، وأتابع مواقفها الحارة المتفجرة، وبناءها الفني الأصيل الجديد على الرواية العربية.. لم أتصور أنني أقرأ رواية كتبها فنان عربي شاب، ولم أتصور أن هذه الرواية الناضجة الفذة – فكراً وفناً – هي عمله الأول.)
رجاء النقاش.

على سبيل التقديم:

حظيت رواية الطيب صالح هاته بأهمية بالغة، لازمتها منذ نشرت كاملة بالعدد الأول من مجلة(حوار)لصاحبها الشاعر الفلسطيني، وصديق، الطيب صالح، توفيق صايغ.و قد تناولتها دراسات متعددة من جوانب مختلفة، انطلاقا من غناها الموضوعاتي والدلالي والسياسي والفني، الذي لا يختلف عليه دارسان، وإن اختلفا حول مدى جرأتها أو تجرئها.

على سبيل التوضيح:

قبل الشروع في مقاربة هذا العمل، أرى واجبا أن أبين بعض النقاط المنهجية، ومنها:

• هذه الدراسة فصل من بحث لنيل شهادة الإجازة في الأدب العربي، برسم السنة الجامعية 1981/1982

• إن الإيمان بوجود قراءات متعددة لأي نص إبداعي يدفعني إلى الإشارة إلى أن هذه المقاربة لن تنصب إلا على جانب واحد هو علاقة الأنا/ الآخر في هذه الرواية.

• إن أي تناول لهذا العمل الروائي يجب ربطه بالشروط السوسيوتاريخية والاقتصادسياسية التي عاشها العالم العربي منذ كتابة هذا العمل.

• إن هذه الرواية تتميز عن غيرها بكونها نموذجا من إفريقيا (السودان) مما يجعل أبطالها"عربا أفارقة".

• إن عنصر"اللون"قد أضيف إلى مكونات بطل الرواية مما سينتج نتائج مغايرة لمن سبقه من أبطال عاشوا ظروفا شبيهة بظروفه، كما في (الحي اللاثيني) و(عصفور من الشرق) و(قنديل أم هاشم). وسنتطرق لهذه الأعمال في دراسات لاحقة إن شاء الله.

عالم الرواية:

إن تتبع أحداث الرواية تبرز لنا شخصية(مصطفى سعيد)شخصية رئيسية وأساسية فيها، رغم أن الطيب صالح لم يرد له أن يكون كذلك، يقول:(أنا لا أعتقد بأن مصطفى سعيد هو الشخصية الرئيسية في الرواية، فالمشكلة هي مشكلة الراوي، ومصطفى سعيد جانب من جوانب مشكلة الراوي، ولكن هذه الشخصية استأثرت بالرواية كلها.)(1).

يعتبر مصطفى سعيد من أهم(الشخصيات في الرواية العربية، إنها شخصية شديدة التوتر)(2)، ويبدو هذا التوتر جليا من خلال استعراض أحداث حياته:(مصطفى سعيد من مواليد الخرطوم، 16 أغسطس 1888.. الأب متوفي، الأم فاطمة عبد الصادق)(3)، فهو إذن يتيم مات أبوه قبل ولادته، ولم يبق له في الدنيا سوى أمه التي"كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق"(4). ظروف مصطفى سعيد هاته جعلته يحس إحساسا غريبا بأنه حر وأنه مختلف، ليس كبقية الأطفال في سنه، لا يؤثر فيه أي شيء: لا يبكيه الضرب، لا يفرحه الإطراء، لا يؤلمه ما يؤلم الآخرين، كان كما شبه نفسه(مثل شيء مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز.)(5)

دخل المدرسة بمحض إرادته، في حين كان الناس وقتئذ يرون في الدراسة شرا عظيما صاحب الاستعمار، فكانوا بسبب ذلك يخفون أولادهم حتى لا يلتحقوا بالمدرسة. تعلم مصطفى سعيد الكتابة في أسبوعين، فقد كان ذا عقل خارق، وقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم، وطوى المرحلة الأولى في عامين، انتقل بعدها إلى المدرسة الوسطى حيث اكتشف(ألغازا أخرى منها اللغة الإنجليزية)(6)التي راح يلتهمها التهاما، بعد هذه المرحلة، ساعده ناظر المدرسة على الذهاب إلى القاهرة لمتابعة دراسته الثانوية، فودع أمه وكان وداعا غريبا(لا دموع، ولا ضوضاء، مخلوقان سارا شطرا من الطريق معا، ثم سلك كل منهما سبيله)(7)، كان هذا آخر عهده بأمه التي لن يراها بعد ذلك أبداً.

وصل مصطفى سعيد إلى القاهرة حيث عاش في كنف أسرة (روبنسون) التي عاملته معاملة حسنة،"لقد كان موزي (= مصطفى سعيد) أعز شخص بالنسبة لي ولزوجي"(8)، هذا ما قالته عنه (مسز روبنسون)في رسالتها إلى الراوي. كان (مستر روبنسون) مستشرقا يهتم بحضارات الشرق، ويبحث عن المخطوطات الناذرة ليحققها، أحب الشرق لأنه اطلع على جوهره، فكان أن اعتنق الإسلام، ولما مات دفن في المدينة التي أحبها أكثر من غيرها، القاهرة. وكانت (مسز روبنسون) بمثابة الأم الروحية لمصطفى سعيد، استمرت تحبه حتى في أحلك مراحل حياته حين تخلى عنه الجميع، فوجد عندها الملاذ والملجأَ. تميزت حياة مصطفى سعيد بالقاهرة بكونه كان خاليا من المرح، ل يستطيع أن ينسى عقله أبدا، كان آلة صماء، كما وصفته زميلته إذَّاكَ.

بعد القاهرة يهاجر مصطفى سعيد نحو لندن، التي تمتع فيها بشهرة واسعة حيث وصل إلى أرقى الدرجات العلمية، وأصبح دكتورا لامعا في الاقتصاد، ومؤلفا مرموقا في الأدب، ومدرسا فذا في الجامعة، بلغ كل هذه الدرجات وهو بعد لم يتجاوز سن الرابعة والعشرين من عمره. لم تقتصر شهرة مصطفى سعيد على الميدان المعرفي بل تعدته إلى النساء، فقد"كا ن زير نساءٍ"(9)، ففي الفترة ما بين (أكتوبر 1922) و(فبراير 1923) كان يعيش مع أربع نساء في آن واحدٍ:

فقد عرف مثلا (آن همند) التي كانت ابنة ضابط في سلاح المهندسين، أمها من العوائل الثرية في لفربول، وعمتها زوجة نائب في البرلمان، قضت (آن همند) طفولتها في مدرسة للراهبات، والتحقت بعدها بجامعة أكسفورد لدراسة اللغات الشرقية، كانت تحن إلى الشرق، وكانت مترددة بين اعتناق البوذية أو الإسلام، تعرفت إلى مصطفى سعيد لأنه حرك فيها هذا الحنين إلى الشرق عن طريق أشعار المجون لأبي نواس، وكذبه وتلفيقه. في علاقتها بمصطفى سعيد تقمصت شخصية الجارية (سوسن) ولعب هو دور السيد، لكنها في النهاية انتحرت بالغاز تاركة ورقة صغيرة باسم مصطفى سعيد فيها هذه العبارة"مستر سعيد. لعنة الله عليك".

وعرف (شيلا غرينود) التي كانت"بسيطة حلوة المبسم، حلوة الحديث، أهلها قرويون من ضواحي (هِل)"(10) كانت تعمل في مطعم في (سوهو) بالنهار، وبالليل تواصل الدراسة في البوليتيكنيك، و"كانت ذكية تؤمن بأن المستقبل للطبقة العاملة، وأنه سيجيء يوم تنعدم فيه الفروق، ويصير الناس كلهم إخوة."(11)، أحبت مصطفى سعيد، برغم أنها كانت تعلم أن مجتمعها لن يغفر لها حبها لرجل أسود لكنها رأت في هذا السواد لون السحر والغموض والأعمال الفاضحة، لكن برغم هدا كله انتهى بها المطاف إلى الانتحار.

وعرف كذلك زوجة جراح ناجح، وأمّاً لابنتين وابن، كانت تدعى (إيزابيلا سيمور)"تذهب للكنيسة صباح كل أحد بانتظام، وتساهم في جمعيات البر"(12)، كانت تشتاق إلى إفريقيا، فوجدت ضالتها في مصطفى سعيد الذي لفق لها الأكاذيب وصور لها بلاده كأنها غابة تسرح فيها الوحوش التي لا وجود لها، قال لها إن شوارع عاصمة بلاده تعج بالأفيال والأسود وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة، وصف لها بيته فقال:"أجل، بيتنا على ضفة النيل تماماً، بحيث أني كنت إذا استيقظت على فراشي ليلا، أخرج يدي من النافذة وأداعب ماء النيل حتى يغلبني النوم."(13)، أحست بأن مصطفى سعيد منحها السعادة الأبدية، فأحبته، مضحية بأسرتها والتزاماتها، لكن هذه السعادة لم تدم، فانتحرت (إيزابيلا سيمور) وتركت رسالة تقول فيها:"إذا كان في السماء إله، فأنا متأكدة أنه سينظر بعين العطف إلى طيش امرأة مسكينة لم تستطع أن تمنع السعادة من دخول قلبها، ولو كان في ذلك إخلال بالعرف وجرح لكبرياء زوجٍ، ليسامحني الله ويمنحك من السعادة مثلما منحتني."(14).

ثم عرف (جين مورس) التي لبث يطاردها ثلاث سنوات، أذاقته خلالها شتى أصناف الإهانة والاحتقار، كانت تقول له:"أنت بشع، لم أر في حياتي وجها بشِعاً كوجهك."(15)، ضحى بكل شيءٍ من أجل نيلها: ضحى بكرامته وإنسانيته وضحى بزهرية ثمينة، ومخطوط عربي ناذر ومصلاة من حرير اصفهان، وأخيرا قالت له:"أنت ثور همجي لا يكل من الطراد، إنني تعبت من مطاردتك لي، ومن جريي أمامك، تزوجني."(16)، فتزوجها وظن أنه بذلك سينهي مأساته ومِحَنَهُ، لكن الأمور زادت تعقيدا بعد الزواج، فقد بقيت تعامله على أساس أنها أوروبية وهو إفريقي أسود، وأنها زوجته دون أن يكون هو زوجها، وأنها تستطيع الاستغناء عنه في أي وقت شاءت، كل هذه التصرفات اجتمعت لتدفع مصطفى سعيد لقتل (جين مورس)، مما أدى به لقضاء سبع سنوات في السجن، خرج بعدها ليتشرد"في أصقاع الأرض من باريس إلى كوبنهاجن إل دلهي، إلى نانكوك."(17)، عاد بعد هذا التشرد إلى إحدى القرى السودانية حيث اشترى أرضا تفرق وارثوها، وتزوج (حسنة بنت محمود) التي أنجبت له ولدين، واندفع في حياة أهل القرية يشاركهم أعمالهم بانتظام ويسارع بذراعه وقدمه في الأفراح والأتراح، وإن كان يخفي عنهم ماضيه، فاكتسب بتصرفاته وبآرائه السديدة احترام وإعجاب أهل القرية بالرغم من أنه ليس ابن البلدة.

ويعود الراوي، وهو شخصية من شخصيات الرواية، من رحلته إلى لندن التي دامت سبع سنوات، ويتعرف على مصطفى سعيد الذي يحكي له عن هجرته إلى لندن. وعند هذا الحد يتدخل الطيب صالح ليحكم بموت (مصطفى سعيد)، فيموت (مصطفى سعيد) غرقا في مياه النيل في إحدى فيضاناته، وهنا يبتدئ دور الراوي، الذي يعتبر استمرارا لمصطفى سعيد"إنني ابتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد."(18)، وإلا فلماذا يوكله هذا الأخير على أمواله وأولاده وامرأته من دون بقية الناس الذين كان يعرفهم قبله؟، ولماذا تفضل (حسنة بنت محمود) أرملة (مصطفى سعيد) الراوي على جميع من تقدموا لخطبتها، وحين أرغمها أهلها على الزواج من (ود الريس) قتلته وانتحرت؟ لو لم تكن قد رأت في الراوي استمرارا لزوجها الذي لقحها بأفكاره ومدنيته، فلما مات أرادت أن تستمر في نفس الطريق الذي بدأته معه، ولم يكن (ود الريس) ليمثل لها المعين والمساعد.

علاقة الأنا/ الآخر في الرواية:

يمثل هذه العلاقة (مصطفى سعيد) في نظرته إلى كل من: (مسز روبنسون) والنساء الإنجليزيات، وتتخذ هذه العلاقة وجهين:

1. مصطفى سعيد ومسز روبنسون: يتميز مصطفى سعيد بكونه"بلا ماضٍ، وبلا عائلة أو قرية، وأسرته الإنجليزية في القاهرة لم تكن أكثر من مرحلة قبل الوصول إلى لندن"(19)، في القاهرة عرف مصطفى سعيد لأول مرة المرأة الغربية متمثلة في (إيليزابيت) التي كانت بمثابة أمه الروحية، أقامت معه علاقة حب إنسانية،"لقد أحبته كجزء من حبها للشرق، وفهمها له... ومن الواضح أن إيلزابيت قد تدربت كثيرا حتى استطاعت أن تصل إلى هذا المستوى من العاطفة النقية الصافية... لقد عاشت في القاهرة طويلا مع زوجها، وتعلمت العربية، وعاشرت الناس في الشرق وأحبتهم، لقد اكتشفت الشرق من جانبه الإنساني لا من جانبه الجسدي والمادي، ولذلك أحبت مصطفى سعيد ووجدت سعادة غامرة في هذا الحب، ولم تطلب نت مصطفى سعيد شيئا، بل كانت تساعده كلما احتاج إلى المساعدة، إن لذتها الكبرى هي في هذا الحب الصافي نفسه، وفي اكتشافها لروح الشرق الجميل: بتراثه وتاريخه وشمسه وناسه، ولقد نظرت إيلزابيت إلى مصطفى سعيد في ضوء رؤيتها للشرق كله"(20). لقد حقنت إيلزابيت بحقنة الشرق المليئة بالطيبة والإنسانية، فاحتفظت بحبها لمصطفى سعيد حتى في أحلك أيامه"يوم حكموا عليَّ في (الأولد بيلي) بالسجن سبع سنوات، لم أجد صدرا غير صدرها أسند رأسي إليه، ربتت على رأسي وقالت:"لا تبك يا طفلي العزيز""(21).

2. مصطفى سعيد والنساء الإنجليزيات:بعد القاهرة يهاجر مصطفى سعيد إلى لندن"ولندن في الرواية مدينة ذات بعدين، لندن العلم ولندن الاستعمار، وقد حارب مصطفى سعيد في كلتا الواجهتين: فقد بلغ أرقى الدرجات العلمية إذ تمكن من الاقتصاد وحذق الأدب، وأصبح مدرسا لامعا بإحدى جامعات إنجلترا"فدراسة.. الاقتصاد تعني أن الإنسان الإفريقي الجديد قد وضع يده على علم هذا العصر أو مفتاح العلوم في هذا العصر، واتساع ثقافته بحيث تشتمل على ألوان من الآداب والفنون معناها أنه لم يقف عند تطوير عقله وحسب بل تعدى ذلك إلى تطوير وجدانه، وأكثر من ذلك إلى اتخاذ موقف كياني من قضايا الواقع حوله"(22) أما اشتغاله بالتدريس فمعناه أن هذا الإنسان الإفريقي لم يعد مجرد مستهلك بل هو كذلك منتج ومغذٍّ، وأنه يستطيع الآن أن يثأر لماضيه، فلقد حمل مصطفى سعيد معه في هجرته مواقف الماضي منذ دخل الرومان قرطاجة إلى أن"جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة (اتبرا)، قال له:"لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟"الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئاً"(23)، يضاف إلى هذا عنصر اللون الذي يبدو عنصرا جديدا كون مصطفى سعيد إفريقي من السودان، فــ"مشكلة البشرة السوداء هي التي تعطي للتجربة الإنسانية عمقا وعنفاً، بل وتمزجها بنوع خاص من المرارة... وعنصر اللون له أهميته الكبرى، فالبشرة السوداء أكثر من غيرها هي التي انصب عليها غضب الغربيين، وحقدهم المرير، وهي التي تفنن الغرب في تجريحها إنسانيا قبل أن يكون هذا التجريح سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا.إن الإنسان الأسود قد عاش قرونا من التعذيب والإهانة على يد الغرب، وتركت هذه القرون في النفس الإفريقية جروحا لا تندمل بسهولةٍ."(24) لقد اجتمعت كل هذه العناصر لتجعل من الصدام الذي وقع بين مصطفى سعيد (الأنا) والغرب (الآخر)، صداما مدويا وعنيفا. لقد أدرك مصطفى سعيد أن الغرب معتدٍ وأن الشرق معتدىً عليه، أن الغرب غازٍ وأن الشرق مغزوٌّ، أراد مصطفى سعيد أن يرد الاعتبار لشرقه، لذاته، وأن يقلب المعادلة، فأطلق صيحته"إنني جئتكم غازيا"(25) والغازي لا يُهزَمُ. وكان على مصطفى سعيد أن يحدد سلاح المواجهة، لأن الغرب حدد مكانها (لندن)، فاختار الغازي الجنس سلاحا، عندئذ تحددت المرأة كطرف مقابل ممثل للغرب في صدامه مع الذات (الشرق). لقد استعمل الطيب صالح كلا من (آن همند وشيلا جرينود وإيزابيلا سيمور) كتمهيد لعلاقة مصطفى سعيد بـ (جين مورس)التي تجمع كل الخصائص التي مثلتها الغربيات الثلاث الأخريات.

فــ (آن همند) بورجوازية الأصل مادية في عشقها إذ كانت تحب"رائحة الأوراق المتعفنة في غابات إفريقيا، رائحة المانجا والباباي والتوابل الإستوائية، رائحة الأمطار في صحاري بلاد العرب"(26)، غير مستقرة عقائديا، فقد"كانت مترددة بين اعتناق البوذية أو الإسلام"(27) قامت علاقتها مع مصطفى سعيد على الكذب، هذا الكذب الذي يتخلل"جميع مستويات الرواية في أشكال مختلفة، منه اعتراف مصطفى سعيد نفسه بأنه أكذوبة"(28)، فقد سخر مصطفى سعيد من عقلية الغربيين حين لفق لهم الأكاذيب حول شخصية أبي نواس وشعره، الذي جذب (آن همند) وشدها إلى مصطفى سعيد الذي عاشت معه إلى أن انتحرت تاركة عبارة معبرة عن شعورها تقول فيها:"مستر سعيد. لعنة الله عليك". واللعنة اعتراف قبل أن تكون تملصا واستنكارا، لقد اعترفت بحبها لمصطفى يعيد، لكنها كانت تطمح أن يدوم فلما قلب لها مصطفى ظهر المجن وأدركت أنها ضحية فبل أن تكون مُستغِلَّةً، فضلت الانتحار على القبول بالهزيمة أمام هذا الإفريقي الأسود.

و(شيلا جرينود) رغم كونها تحمل أفكارا إنسانية سامية، فقد صاغ الطيب صالح من خلالها أهجية للفكر الماركسي إذ اعتبره فكرا غربيا، شأنه شأن الأفكار الغربية الاستعمارية"إنني أعتقد بأن الفكر الماركسي هو جزء من الفكر الأوروبي الغربي"(29) هذا ما قاله المؤلف في استجواب أجرته معه مجلة"أقلام العراقية". كانت (شيلا) تؤمن بأن المستقبل البشري سيكون أكثر عدالة، وستسوده علاقات أخوية حين تسيطر عليه الطبقة العاملة. كانت بحبها لمصطفى سعيد قد حطمت ركنا من أركان مجتمعها، وهو الميز العنصري، فقد كانت تقول لمصطفى سعيد:"أمي ستجن، وأبي سيقتلني، إذا علما أنني أحب رجلا أسود، ولكنني لا أبالي"(30) لكنها برغم وعيها هذا فإنها لم تستطع التخلص من علاقات مجتمعها، فلم تستطع أن تقيم علاقة طبيعية خالية من الاستغلال والميز مع مصطفى سعيد،فقد تجسد هذا الاستغلال في كونها استغلته جنسيا فحسب.
أما (إيزابيلا سيمور) فقد كانت مسيحية متدينة، قضت أحد عشر عاما في حياة زوجية سعيدة، ظانة أن الحياة هي كل ما ترى وتعيش، إلى أن تعرفت على مصطفى سعيد الذي فتح لها بابا جديدة بأكاذيبه، فغير حياتها إلى درجة أصبحت معها تكفر بإلهها وتعتبر مصطفى سعيد إلهها الأوحد، وتقول له:"المسيحيون يقولون إن إلههم صلب ليحمل وزر خطاياهم. إنه إذن مات عبثا. فما يسمونه الخطيئة ما هو إلا زفرة الاكتفاء بمعانقتك، يا إله وثنيتي. أنت إلهي ولا إله غيرك."(31)، وعاشت معه إلى أن انتحرت، فقال زوجها إنها انتحرت بسبب السرطان، فهل صحيح أن السرطان هو دافعها إلى الانتحار أم خدعة مصطفى سعيد؟.

لقد لعب بيت مصطفى سعيد في لندن، دورا بارزا في جذب فتيات إنكلترا، أما غرفة النوم فكانت بمثابة منوم مغناطيسي. فالبيت كان وكرا للأكاذيب الفادحة، يحوي"الصندل والند وريش النعام وتماثيل العاج، والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شطآن النيل، وقوارب على صفحة الماء أشرعتها كأجنحة الحمام وشموس تغرب على جبال البحر الأسود، وقوافل من الجِمال تخب السير على كثبان الرمل على حدود اليمن، وأشجار التبلدي في كردفان، وفتيات عاريات من قبائل الزاندي والنوير والشلك، حقول الموز والبن في خط الاستواء، والمعابد القديمة في منطقة النوبة، الكتب العربية المزخرفة بأغلفة مكتوبة بالخط الكوفي المنمق، السجاجيد العجمية والستائر الوردية، والمرايا الكبيرة على الجدران، والأضواء الملونة في الأركان"(32). إذا كان هذا هو بيت مصطفى سعيد فإن غرفة نومه التي خرجت منها النساء الإنجليزيات وهن تحملن الجرثومة التي أودت بحياتهن، تعتبر بحق مقبرة"غرفة نومي مقبرة، تطل على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، وسجاد سندسي دافئ، والسرير رحب مخداته من ريش النعام، وأضواء كهربائية صغيرة، حمراء وزرقاء وبنفسجية، موضوعة في زوايا معينة، وعلى الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة بدا كأنني أضاجع حريما كاملا في آن واحد. تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية ودهون ومساحيق وحبوب."(33). إن هذه الغرفة"لم تكن غرفة شرقية عادية بل كانت على نحو ما يتخيل الغرب، غرفة نمطية ساحرة"(34).

هذه الغرفة هي التي شهدت موت (جين مورس) التي مثلت المأساة بالنسبة لمصطفى سعيد"وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر، وإلى لندن، وإلى المأساة"(35)، لقد رأى مصطفى سعيد في (جين مورس) قدره وهلاكه، وقد لخص رجاء النقاش موقف كل من مصطفى سعيد و(جين مورس) في علاقتهما قائلا:"ظل في البداية يطاردها وترفضه رفضا كاملا وأخيرا طلبت منه أن يتزوجها، وتم الزواج بالفعل، ولكنها تعودت على أن تثيره بشتى الوسائل والأساليب العنيفة ودون أن تسمح له بالاقتراب منها، إنها تشتهيه وتحتقره في نفس الوقت، تريده وتنكر على نفسها أنها تريده، وظلت هكذا تعذبه وتعمل على تهديم أعصابه بلا رحمة، حتى هددها بالقتل فلم تعبأ بالتهديد"(36) لأنها كانت تراه غير قادر على تنفيذه، إلا أن مصطفى سعيد اختار ساعة الامتلاك لتكون ساعة الثأر والانتقام. يقول عن هذه اللحظة:"فكأننا فلكان في السماء اشتبكا في ساعة نحس"(37)، لقد قتل مصطفى سعيد (جين مورس) لأنها رفضت عرضه بإقامة علاقة إنسانية بينهما"فقد أدمنت جسده إدمانا شديدا جعل علاقتها به كالفعل المنعكس الشرطي الذي لا يرتفع إلى الوظائف العليا من الدماغ.. ولذلك لم تكن تنسى غريزيا وعلى المستوى البيولوجي أنها أوروبية وهو أسود، وأنها زوجته دون أن يكون هو زوجها، فهي قادرة على الاستغناء عنه في أي وقت، وقادرة على الاحتفاظ به كيفما تشاء. وعلى هذا الأساس حرصت على أن تستثيره وتهينه وتذيقه ألوان العذاب، بقصد تحطيم الإنسان في داخله، وإشعاره دوما بأنه من عنصر أدنى، وأن الشرق شرق والغرب غرب، وليس من اليسير أن يلتقيا"(38) لكنهما حين التقيا، كان لقاؤهما إيذانا بالكارثة.
يظل هناك سؤال يفرض نفسه: ماذا نستخلص من علاقات مصطفى سعيد هذه؟

1. إن العلاقة بـ (إيليزابيت روبنسون) هي العلاقة الإنسانية الوحيدة التي ربطها مصطفى سعيد بالمرأة الغربية، وهذا ناتج عن عيشها في الشرق وإدراكها لروحه.

2. إن مصطفى سعيد هو أول سوداني درس في إنكلترا، وأول سوداني تزوج إنكليزية، وأول سوداني أصبح محاضرا في إنكلترا، هذه الأوليات تحدد الإطار التاريخي والذي هو بداية الاتصال بالغرب في العصر الحديث، وأول اتصال يتخلله دائما صدام وصراع.

3. إن ما حكم علاقات مصطفى سعيد في لندن هو الجانب الجسدي المادي، إذ لم ترْقَ أي من علاقاته إلى مستوى الحب الحقيقي فقد كانت النساء يعتبرنه قوة بدائية وافدة من إفريقيا يجب استغلالها لتعويض النقص الذي لم يستطع الشباب الغربي ملأه نظرا لضعفه الجنسي،"إن مصطفى سعيد بالنسبة إليهن ليس إنسانا يستحق علاقة عاطفية كاملة بكل جوانبها الروحية والمادية معا، فهو كائن غريب، يحمل رائحة الشرق النفاذة، وهو حيوان إفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات ويستمتعن به فقط"(39) فافتقدت بذلك هذه العلاقات شروط تحققها ومنها: التوازن والمساواة، فكانت مبنية على الوهم والخداع كعلاقة المُسْتَعْمِر بالمُسْتَعمَر، يُظهِر له الحب لأجل أن يستغله، فلقد أقبلت نساء لندن على مصطفى سعيد كما يقبل"الذباب على قطعة الحلوى"إن صح التعبير. لقد أصبحت العلاقة بين الشرق والغرب ثلاثية الأطراف ولم تعد ثنائية، ويمكن إيضاحها على الشكل التالي:

الشرق الوهم الغرب. بدلا من: الشرق الغرب

الارتباط بالذات:

إذا كان"تطرف مصطفى سعيد – في الغرب – هو رد فعل حضاري داخل منطق وثقافة الغرب"(40)، فإن علاقته بالشرق ستكون موازية لما كانت عليه في الغرب، ويأتي هذا التغيير نتيجة لوعيه بأن الإنسان الإفريقي الجديد لن يستطيع تأكيد ذاته وإبراز وجوده الحقيقي إلا من خلال ظروفه الاجتماعية والتاريخية، أو من خلال إطاره الحضاري العام، لذا نجده قد عاد إلى الأرض الأم ليعيش في القرية"كفلاح ومثقف يجمع بين اطلاع حسن في الثقافة العامة وبين حس غريزي بأنه كالآخرين يفكر مثلهم... ولا يؤمن بغير العلم لرفعة الوطن"(41). في هذه القرية"اشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج بنت محمود"(42)، فكونه اشترى مزرعة يعني أنه اهتدى إلى الوسيلة الإنتاجية التي بواسطتها سيتقدم مجتمعه باعتياره مجتمعا زراعيا، والبيت رمز الاستقرار، لأنه لا يوجد تقدم بدون استقرار، أما الزواج فهو ضمان لاستمرار هذا التقدم.

فالعلم لا يكون فعالا إلا إذا استغل من أجل التطوير، وخرج عن نطاق الجامعات والتنظير، ومصطفى سعيد وظف علمه في المشروع الزراعي، وقد اعترف محجوب للراوي بمجهود مصطفى سعيد المحمود فقال:"هل تعلم؟ لقد ساعدنا مساعدة قيمة في تنظيم المشروع. كان يتولى الحسابات. خبرته في التجارة أفادتنا كثيرا. وهو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع في إقامة طاحونة للدقيق... وهو الذي أشار علينا أيضا بفتح دكان تعاوني. الأسعار الآن عندنا لا تزيد عن الأسعار في الخرطوم... المشروع يملك اليوم عشرة لواري تجلب لنا البضائع كل يوم والآخر مباشرة من الخرطوم وأم درمان. ورجوته أكثر من مرة أن يتولى الرئاسة ولكنه كان يرفض ويقول إنني أجدر منه."(43).

أما علاقة مصطفى سعيد بحسنة بنت محمود فتأتي موازية لعلاقاته في الغرب، فقد أحبته حسنة حبا مبنيا"على الاقتناع والمساواة والرغبة الصادقة في إقامة علاقة إنسانية صحيحة، ومصطفى سعيد - في علاقته هذه – معشوق حقيقي بسبب صفاته الأصيلة، مثل ذكائه وعمق شخصيته، وحبه للقرية، وقدرته على العمل والانتاج، إنه ليس ما كان عليه في أوربا: حيوانا عنيفا متوحشا، تجري وراءه الفتيات لغرابته وشذوذه، إنه هنا إنسان طبيعي"(44)، لقد أثمرت هذه العلاقة، إذ أنجبت حسنة طفلين، بخلاف علاقاته في لندن التي لم تثمر شيئا، وهذا معناه أن الجنس وحده ليس كافيا لإنجاح العلاقة بل لا بد من روابط إنسانية طبيعية، والإنجاب دليل قاطع على صحة العلاقة. لقد أثر مصطفى سعيد في حسنة بنت محمود لدرجة أصبحت معها"كأنها شخص آخر"(45)، كما أنه أخلص في حبه لها، فأخلصت هي لذكراه، فحين أراد (ودالريس) الزواج منها – تمشيا مع مبدإ استعباد المرأة القائم في القرية – رفضت الارتباط به، لأنها كانت قد وضعت حدا لتخلف بنات جنسها، بحكم علاقتها مع مصطفى، ولأنها كانت تسعى إلى تحطيم جدار التقاليد الموروثة التي تكبل مجتمع السودان، وتغوص به في لجات الجهل والتخلف الفكري، وحين أُجبرت على الزواج منه – وهو يمثل الجانب المتخلف في الذات السودانية- قتلته، لأنه أراد أن يسلبها إنسانيتها أولا ثم طموحها المتولد من علاقة سامية مكتملة يسودها الوفاء والتفاهم، أما انتحارها فينطوي على رفض لمعطيات مجتمع أدانها بقسوة ورأى تصرفاتها شنيعة لا تغتفر. إن قتلها (ود الريس) جاء من قناعتها، وليس كما قال الأستاذ عبد الكريم غلاب من"أن فكرة الأوربي عن الإفريقي سممت قلم الكاتب، فجعل الأرملة حسنة بنت محمود تنهي حياتها بجريمة مروعة لم تعرف القرية مثيلا لها. فهو (يعني الطيب صالح) مرة أخرى يبتعد عن الحقيقة الإنسانية، عن إنسان قرية السودان ليصور حقيقة مزيفة تتضافر على خلقها غي قلمه الصورة المشوهة عند إنسان أوربا عن إنسان إفريقيا، والفن القصصي الذي يعتمد على الإشارة والترويع، المرأة في السودان لا تقتل الرجل قتلة بشعة لمجرد أنها أُكرهت على الزواج منه، ولو كان عجوزا. فمن أين أتى الطيب صالح بهذه الصورة البشعة؟."(46)، لقد تناول الأستاذ غلاب قضية قتل حسنة لود الريس من جانبها السطحي، ولم يتوغل إلى الجوانب الموضوعية والحضارية، فقد أراد الطيب صالح أن يرمز بحسنة إلى السودان، الدولة النامية المتفتحة على كل جديد.. في العلم وكل نافع في الحضارة، والمستجيبة أيضا لكل النداءات، شرط أن تكون صديقة وأمينة وعادلة، لهذا كانت ترفض كل دعوة استغلال أو نكوص إلى الوراء. وفي مقابل رفض حسنة بنت محمود لود الريس، فقد أحبت الراوي لأنه يُعد في نظرها، امتدادا لشخصية زوجها الراحل، ولأنه العنصر الذي تستطيع أن تحقق معه التحاما إنسانيا شاملا على أساس أنه يرى فيها شريكة حياته، ونصفه الثاني، لا كما يراها (ود الريس) الذي يحمله شبقه إلى اعتبار الزواج مجرد (عَهْرٍ رسمي). والراوي لم يكن أكثر من"مصطفى سعيد آخر، عاش حياته مكثفة، أعادها فاستعادت، أحب الزوجة فأحبته، وطلبها بالمنى، واستجابت باليقين، وعندما ماتت كان مصرعها، في نظره، نهاية طبيعية ومتوقعة وشريفة.. ولقد ثبتت الحقيقة الرهيبة للراوي في حجرة الذكريات، فتح الباب ليجد في الظلام مصطفى سعيد نفسه بشحمه ولحمه رغم يقينه أنه قد مات.. كان هو مصطفى سعيد."(47). إن الراوي يمثل الطور الثاني من اتصال الأنا بالآخر في العصر الحديث، أو بعبارة أخرى يمثل مصطفى سعيد بعد تجاوزه مرحلة الانفعال إلى مرحلة التعقل، فهو"يمسك.. في ثنايا الرواية براية التعقل."(48)، فإذا كان مصطفى سعيد قد أثبت ذاته في لندن، فإن على الراوي الآن أن يثبت ذاته في السودان المستقلة، لقد أراد أن يسقط مقولة (المركز والمحيط) إذ لم يبق هناك مستعمِر ومستعمَر، فلا مجال لأن يبقى الـ (هنا) والـ (هناك)، فـ"هناك مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ. ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا، نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرنا.و كونهم جاؤوا إلى ديارنا،لا أدري لماذا؟ هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا؟ إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلا أو آجلا، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة. سكك الحديد والبواخر، والمستشفيات والمصانع، والمدارس، ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن، قوم عاديون، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا."(49)

صاغ الراوي في قولته هاته نمطا من وعي فئة من المثقفين الذين اتصلوا بالغرب – لم يصطدموا به كما وقع لمصطفى سعيد، ممثل الجيل الأول - وعادوا إلى بلادهم لأجل النهوض بها، فقد صار الاتصال بالغرب بعد الحرب الكونية الثانية، أمرا عاديا، بل إن الراوي"صار ينظر إلى الاستعمار على أنه حادثة تاريخية عادية تمضي كما جاءت دون أن تعني توترا كبيرا على الصعيد الشخصي أو الجماعي، لقد عاد إلى السودان بعد استقلاله وبعد أن صار الاستعمار ذكرى، بل إن الراوي يستمد التوتر من أحداث السودان الداخلية والخارجية دون أن تعني له إنكلترا شيئاً."(50) فقد لعب الغرب آخر أوراقه يوم سخر (رتشارد) من مجتمعات العالم الثالث، حين قال للراوي ومن معه من أصدقاء:"ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوع جديد، خرافة التصنيع، وخرافة التأميم، الوحدة العربية، خرافة الوحدة الإفريقية."(51)، لقد اعتبر (رتشارد)، طموحات الشعوب بمثابة خرافات جديدة. كان التحدي كبيرا وخطيرا، وكان لزاما مواجهته والتغلب عليه، وهذا ما حذا بالراوي إلى صهر نفسه في مجتمعه، فشُغِل بفتح المستشفيات وجر المياه وتجفيف المستنقعات وتحرير بقية إفريقيا"سنهدم ونبني وستخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة."(52)، فقد بنى مصطفى سعيد اللبنة الأولى في طريق تقدم إفريقيا، وجاء بعده الراوي لمواصلة الطريق وستأتي بعدهما أجيال وأجيال، فالتحدي مازال قائما بل ويزداد خطورة يوما بعد يوم، وتتعدد أطرافه، لكن النصر الأخير للشعوب، لأنها صاحبة النفس الطويل.

الأنا/ الآخر:الوهم والحقيقة.

لقد رسم الطيب صالح صورة لهذه العلاقة من خلال صورة المحاكمة التي دارت في (الأولد بيلي)، فقد كان الآخر ممثلا من طرف كل من: البروفسور (ماكسويل فستركين)، والسير (آرثر هغنر)، بالإضافة إلى جماعة المحلفين. أما الذات/ الأنا فقد مثلها شخص واحد هو مصطفى سعيد. من هذا التقابل يبدو لنا عدم التكافؤ في العدد وبالتالي في القوة، لكن الذات/ الأنا ستنتصر في الأخير نظرا لعدم انسجام مواقف الآخر: فالبروفسور (ماكسويل) الذي كان يقول لمصطفى سعيد في تبرم واضح:"أنت يا مستر سعيد، خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت رغم كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك، كأنك تخرج من الغابة لأول مرة."(53) إن مصطفى سعيد، في نظر البروفسور، لم يستفد من الغرب، لأنه بدلا من أن يتعلم كيف يقول (نعم)، فإنه قد قال (لا). وبرغم هذا فإن (ماكسويل)يعمل كل ما في وسعه، في هذه المحكمة، ليخلص مصطفى سعيد من حبل المشنقة. أما المدعي العام االسير (آرثر هغنر)، الذي كانت تجمعه بمصطفى سعيد"شبه صداقة"، وكان يقول له:"أنت وغد، ولكنني لا أكره الأوغاد، فأنا أيضا وغدٌ."(54)، لكنه في المحكمة يحاول جاهدا وضع حبل المشنقة حول عنق"صديقه". أما المحلفون، ورمز بهم الطيب صالح إلى مختلف فئات المجتمع الإنكليزي فـ"منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم والتاجر والحانوتي، لا تجمع صلة بيني وبينهم..."(55). أما في الطرف المقابل فقد كان مصطفى سعيد، الذي كان يدرك أن المحاكمة لم تكن شخصية بقدر ما كانت صراعا بين عالمين وحضارتين."لم أكن أنا المهم بل كانت القضية هي المهمة"(56)، والاقضية كانت هي ظلم الآخر المستبد المتجبر، وقد دام هذا الظلم قرونا وعهودا."إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول"نعم"بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في الشوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام."(57). إن الغرب يوم دخل الشرق لم يدخله ليقدم أهله كما أوهمنا، بل جاء بالدرجة الأولى ليستغل خيراته، ويركز التخلف فيه. إن العلاقة بين الطرفين لن تكون علاقة تكامل إلا حين تكون هناك مساواة حقيقية تقوم على الاحترام، فبقدر ما رغب الشرق في ربط علاقة إنسانية مع الغرب، كان هذا الأخير لا يرى في الشرق إلا مصدرا للمواد الأولية، وسوقا لترويج منتجاته. لقد مل مصطفى سعيد السعي لربط علاقة سوية مع الغرب، فأقسم أن يعاقب الغرب إلى أن يتخلى عن نظرته الاحتقارية،"إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتُسَرَّحَ الجيوشُ، ويرعى الحمل آمنا بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية."(58).إذا كان الغرب قد غزانا فلماذا لا نغزوه بدورنا؟، إن لدينا سلاحا فتاكا، يمكننا بواسطته إهانة الغرب في عقر داره، إذا كان هذا هو تفكير مصطفى سعيد، فإن المؤلف يرى حلا آخر:"إن العلاقة بيننا وبين أوربا ليست علاقة رومانسية، كما عالجها الأدب العربي من قبل، بل هي علاقة قائمة على الصراع بين حضارتين مختلفتين، وهذا لا يعني أنه قد كتب علينا أن نظل نصارع أوربا إلى الأبد، فإذا بذلوا هم من جانبهم مجهودا وإذا نحن أيضا فهمنا من نحن، وأين مكاننا في العالم، استطعنا الوصول إلى حل لهذه القضية."(59). هذا ما يراه الطيب صالح، لكن حل هذه القضية لا يبدو في الأفق لآنه مرتبط بعوامل موضوعية اقتصادية واجتماعية وسياسية، يتطلب حلها تغيير بنية كل من الشرق والغرب، الذات/ الأنا , الآخر.

الهوامش:
1- الأقلام العراقية: عدد 12 سنة 1980.
2- إلياس خوري/تجربة البحث عن أفق/ ط. مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية/ص.25.
3- الطيب صالح/ موسم الهجرة إلى الشمال/ ط.2/ 1969/ دار العودة/ بيروت/ ص.22.
4- الرواية/ ص.23.
5- الرواية/ ص. 24.
6- الرواية/ ص. 26.
7- الرواية/ ص.27.
8- الرواية/ ص.148-149.
9- الرواية/ ص.62.
10- الرواية/ ص."38.
11- الرواية/ ص. 48.
12- الرواية/ ص. 141.
13- الرواية/ ص. 43.
14- الرواية/ ص.141- 142.
15- الرواية/ ص. 34.
16- الرواية/ ص. 37.
17- الرواية/ ص. 72.
18- الرواية/ ص. 135.
19- إلياس خوري/ تجربة البحث عن أفق/ ط. مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية/ ص.25.
20- رجاء النقاش/ الطيب صالح عبقري الرواية العربية/ ط. دار العودة/ ص. 29.
21- الرواية/ ص.29.
22- جلال العشري/ الطيب صالح عبقري الرواية العربية/ ص.158.
23- الرواية/ ص. 97.
24- رجاء النقاش/ الطيب صالح عبقري الرواية العربية/ ص. 81.
25- الرواية/ ص. 63.
26- الرواية/ ص. 143.
27- الرواية/ ص. 72.
28- مجلة"فصول"عدد 2، يناير 1981، مجلد 2.
29- مجلة"أقلام العراقية"، عدد 12، سنة 1980.
30- الرواية/ ص. 140.
31- الرواية/ص.111.
32- الرواية/ص.147.
33- الرواية/ ص.34 و35.
34- مجلة"فصول"عدد2، يناير 1981.
35- الرواية/ ص.31.
36- رجاء النقاش/ الطيب صالح عبقري الرواية العربية/ ط. دار العودة/ ص.87.
37- الرواية/ ص.165.
38- جلال العشري/ الطيب صالح عبقري الرواية العربية/ ص.161.
39-بقلم: محمد رُشد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى