السبت ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم سعاد درير

حوار مع المخرج المسرحي مصطفى البرنوصي

لا غرابة أن ينفلت كالضوء الهارب، كالصدى، يذكي عبق المسرح في هذه البقعة أو تلك، ويضفي لمساته النقدية على هذا المشهد أو ذاك.

من زحمة انشغالاته بمداومة التداريب والمتابعة اليقظة لسيرورة الحركة المسرحية والحضور المكثف لفعاليات المهرجانات والملتقيات المسرحية، انتشلنا المخرج المسرحي مصطفى البرنوصي طمعا في انتزاع بعض الومضات من وهج الفكر والإبداع؛ سواء منها تلك التي اتخذت لها مرفأ في أرخبيل الذاكرة أم تلك التي تصدح برؤى الفن حاضرا ومستقبلا.

لقد كان الرجل سخيا بوقته، دون أن ينأى عن هواء الخشبة الذي يتنفسه، ليمدنا بهذه السطور التي تؤرخ عمر اللقاء – الحوار الذي كان لنا معه.

س: كلمة تختصر للقارئ سيرة المخرج المسرحي مصطفى البرنوصي:
 ج: مصطفى البرنوصي مخرج مسرحي. أمارس المسرح منذ عام 1979. تابعت دراسة المسرح وتخصصت في التعبير الجسدي والإخراج المسرحي، ثم تفرغت للعمل كمخرج، واشتغلت مع عدة فرق هنا في وجدة، كالمسرح الشرقي والمسرح البلدي، والآن أشرف على الفرقة الجامعية لمحترف المسرح الجامعي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بوجدة.

س: كيف عرف المسرح طريقه إليك؟
 ج: كانت بدايتي تجربة خضتها مع زميل لي في الحقل المسرحي هو الأخ حميد العفوي. كنت وقتها تلميذا في ثانوية "عمر" التي اعتبرها مهد عدد من المسرحيين الذين تخرجوا في المنطقة الشرقية.فقد كانت هذه الثانوية ملتقى مجموعة من المسرحيين وثلة من الأساتذة الذين لم يبخلوا على المسرح بتشجيعاتهم. تزامنت انطلاقة العملية المسرحية مع فترة التلمذة، إلى أن جاءت مرحلة التأسيس الفعلي للفرقة، مع حميد العفوي – طبعا – ومع بعض الإخوان المسرحيين الذين أبعدتهم عنا في ما بعد ظروف الهجرة. وقد تمكنت تلك الفرقة من إنجاز ثلاثة أعمال مسرحية. بعد ذلك خضعت للتكوين وتابعت دراسة الإخراج. وفي هذا المقام أحب أن أنوه بمن ساعدني كثيرا: والدتي. لقد كانت من جمهوري ومن المشجعين لي. كنت أكتب المسرحيات فتكون هي أول من يتشوق إلى قراءتها.كانت تمدني بآراء مهمة شكلت دعما لي على الدوام.

س: المسرح الجامعي: الواقع والآفاق؟ هل يمكن أن نتحدث عن ازدهار أم عن انكسار؟
 ج: لا، ليس هناك انكسار بالمرة. بالعكس، أرى أن المسرح الجامعي يعرف تطورا ملحوظا، وهو منبع البحث المسرحي. هو صلة وصل بين المسرح المحترف – إذا جاز لنا القول – والمسرح الهاوي. وأنا أتحدث عن المسرح الجامعي في المغرب ككل، لأني أواكب التجربة في كل ربوع الوطن. هناك تجربة. هناك ممارسة مسرحية. هناك بحث مسرحي.

س: أسست فرقا ورسخت فيها معالم رؤية إخراجية خاصة. قراءة سريعة في الإنجاز؟
 ج: أسست أكثر من فرقة وأشتغل على أكثر من ورشة، إلا أن الورشة الأولى هي التي تمثل الجامعة والكلية في المهرجانات الوطنية والدولية. وقد أثبتت تجربة هذه الفرقة نجاحها، إذ كانت نتائج مشاركتها في المهرجانات سارة للغاية. فعلى مدى مشاركاتها نالت جوائز، وفضلا عن ذلك أستطيع الآن أن أطمئن إلى تكوين سبعة ممثلين، أقل ما يقال عنهم إنهم ممتازون وذووحس مسرحي، يكفي أن الأستاذ الدكتور حسن المنيعي - عندما التقى بهم في أكادير - قال إنهم فرقة محترفة، ولا بد لهم من طلب الدعم. وهذه في حد ذاتها شهادة أعتز بها. أضيف إلى ذلك أن الممثلات اللواتي اشتغلن معي حصلت اثنتان منهن على جائزة أحسن ممثلة وطنيا ودوليا، وهذه نتيجة محمودة جدا.

س: نالت الفرقة الجائزة الأولى في ملتقى المسرح الجامعي بالدار البيضاء. فما وقع هذا الفوز عليك بصفة خاصة وعلى المسرح الجامعي بصفة عامة؟
 ج: أظن أن الجائزة مسألة محفزة، كما أنها تتوج مجهودنا. وبالفعل فقد بذلت جهدا كبيرا على مدى سنوات طويلة. بحثت طيلة سنوات، وكانت النتيجة هي الجائزة. وفي نظري كانت جائزة أحسن ممثلة أهم عندي من الجائزة الكبرى، لأني أحب الاشتغال على الممثل أكثر. وعندما فازت الطالبة بجائزة أحسن ممثلة شعرت بأن مجهودي أتى أكله. الممثل بالنسبة لي مثله مثل ذلك التمثال المغطى بالغبار. ووظيفتي أنا أن أنفض عنه الغبار. لقد أفضت تجربتي في تكوين الممثل إلى اكتشاف خطإ فادح يتعلق بتوجيه الممثل في فرقة ما أو في مجموعة من الفرق. إن إشكالية الممثل يمكن اختصارها في الآتي: من هو الممثل؟ ما هو عمل الممثل؟ ما هو دور الممثل فوق الخشبة؟... وأنا أحاول أن أفجردواخل الممثل، أن أظهر إمكانياته وطاقاته.

س: كثر الحديث عن التجريب في المسرح المغربي، وفي المسرح العربي بصفة عامة. هل التجريب في المغرب أو في العالم العربي بالأحرى يقوم على فلسفة جمالية؟ فإذا كان التجريب في أوربا منزامنا مع ثورات فلسفية، اجتماعية، فكرية... ماذا عن واقع التجريب عندنا؟ علما بأن تلك الثورات غائبة عن عالمنا العربي.
 ج: التجريب في المغرب وفي العالم العربي بصفة عامة، مضى في سياق البحث عن الهوية. فنحن نجرب بحثا عن "من نحن؟"، وليس ثورة على فلسفة كما حدث في أوربا. نحن جزء من كل، نحن تكملة لثقافة الآخر، أخذنا المشعل من عند الآخر، لذا كان علينا أن نستمر بهويتنا. وفي رأيي أن الهوية تعني أن نتعامل مع ما هو لنا، ما هو منا، واقعنا، تحليلنا للواقع الذي نعيشه... وهنا يتشكل التجريب. بالنسبة لي، فتجربتي عن الطاغية ريتشارد الثالث لشكسبير مع نموذج الطاغية عند سعد الله ونوس (مغامرة رأس المملوك جابر مثلا أو منمنمات تاريخية) تدخل في إطار التجريب. فمن خلال التعامل مع الطاغيتين يمكنني أن أستنتج: هل الطاغية في كتابة سعد الله ونوس يرقى إلى مستوى الطاغية في كتابة شكسبير؟ لقد كان السؤال إيجابيا، وكان الجواب مفرحا جدا، لأني وصلت إلى أن كتابة سعد الله ونوس لا تقل شأنا عن كتابة شكسبير. وهذا في حد ذاته تجريب. وإذا استمر هذا التجريب لا شك في أننا سنخلق كياننا المسرحي، ولكن شريطة أن نثق في إمكانياتنا نحن وليس في ما عند الآخر. علينا أن نطور ما في أيدينا، أن نطور تقنيات الممثل، أن نطور إلقاء الممثل، أن نطور حركة الممثل... نحن خلافا لأوربا، باعتبارها شعبا هادئا ساكنا. نحن شعب حركة، نتكلم بالحركة، بالإيماءة,,, وهذه قوتنا. فلم لا نطورها؟!

س: ما منظورك لثنائية الهواية – الاحتراف؟
 ج: أنا لا أفصل بينهما. فرغم دراستي للمسرح وممارستي له منذ ما يزيد عن عشرين سنة فإني أظل هاويا. لقد فصلنا بين الهاوي والمحترف لنهمش هذا ونقضي على ذاك. ولكن الهاوي والمحترف شيئان لا ينفصلان. فكل محترف بداخله هاو، وإلا فلن يتحقق التواصل.

س: الحركة المسرحية والمهرجانات: أي حصيلة؟
 ج: بدأت أرى شيئا من الغربلة. فالذين اكتسبوا تجربة قد فرضوا وجودهم في الساحة، وفي المقابل تراجع إنتاج البعض وتقهقر إبداعهم، الشيء الذي جعلهم يبتعدون شيئا فشيئا عن الساحة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكنني أن أغفل دور المهرجان في التطوير. لنأخذ على سبيل المثال مهرجان ربيع مسرح وجدة: لقد جعلنا هذا الأخير نتذوق ونختار ونرفض. إن المهرجان هنا يؤدي واجبه ويؤكد قوة المتابعة. ومما يحمد للسنوات الأخيرة ذلك التضامن بين المسرحيين، خلافا لما قبل، إذ صرنا نتعارف، نتصارح بعيوبنا، نتسامح، ونبحث عن المسرح الحقيقي.

س: العرض المسرحي بين غياب الحس الدرامي وانزلاق الدمى المتحركة: ما تعليقك؟!
 ج: حقيقة، أحيانا يغيب الحس الدرامي، والأسوأ من ذلك أن مجموعة من المواهب الموجودة فوق الخشبة تحبط وتموت وتقبر، لأنها موجودة في لحظة بين أيدي أشخاص لا يريدون لها حب المسرح ولا التشبع بمبادئه، وإنما يحركونها كما يشاؤون عبر مآربهم الشخصية، ويتركون تلك المواهب تعمه في إحباطاتها. وهذه هي الطامة الكبرى في المسرح: أننا نقتل المواهب. إن ثروتنا في المسرح ليست هي المادة. نحن لدينا البشر، الطاقات البشرية، المادة الخام المطلوبة في المسرح، لأن الممثل هو سيد وملك الخشبة.

س: ما الذي يغريك في تجربة الإخراج؟ وما طبيعة الإخراج الذي يشد اهتمامك؟ بعبارة أخرى: أتفضل أن تكون مخرجا مؤلفا أم مخرجا منفذا أم مخرجا معدا أم مخرجا مبدعا؟
 ج: يطيب لي أن أكون مخرجا مبدعا. فأي نص أختاره أو يقترح علي أو أعجب به، أخضعه لقراءة متأنية تعقبها كتابة إخراجية، وأخيرا عملية إخراجية. ما يشدني باعتباري مخرجا هو التحدي: النص الذي فيه نوع من التحدي، النص الصعب، لأن النص بقدر ما يكون صعبا يعطيني حيزا أكبر للإبداع. أن أبدع معناه أن أعطي، أن أكشف عن طاقات أخرى. أنا دائما أبحث عن نفسي في النص وأجدني في النص. وفي كل نص أجد دائما الوجه الآخر لمصطفى البرنوصي.

س: تجربتك النقدية للظاهرة المسرحية (نصا – عرضا) تشهد على نضج، وتعد بالكثير. فلم لا يصل صوتك إلى الآخر – القارئ؟
 ج: في الحقيقة لم أجرب، يقينا مني أن صوت المخرج لا يبلغ إلا عن طريق الخشبة، عن طريق الممثلين. لكن إذا رحبت بي أفاق الكتابة فلم لا!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى