الخميس ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
أضواء على
بقلم فاروق مواسي

(عرس الزين) للطيب صالح

هذه الرواية تدور حول شخصية الزين - (الزين) الذي يعيش في قرية سودانية. هو شاب من الدراويش أو من يُطلق عليهم (المبروكين)، ينوي الزواج من (نعمة) ابنة عمه.

وهناك تفاوت بين الشخصيتين حيث القبح سمة الأولى، والجمال سمة الثانية:

(كان وجه الزين مستطيلاً، ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين، وجبهته بارزة مستديرة، عيناه محمرتان دائمًا، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقًا، لم تكن له حواجب ولا أجفان، وقد بلغ مبلغ الرجال، وليست له لحية أو شارب... تحت هذا الوجه رقبة طويلة) من بين الألقاب التي أطلقها الصبيان على الزين (الزرافة)... الذراعان طويلتان كذراعي القرد...).

أما هي ففتاة حلوة وقورة المحيا قوية الشخصية، متعلمة تحفظ القرآن بنهم وتتلذذ بتلاوته، تعجبها آيات منة تنزل على قلبها كالخبر السار... كانت تحلم بتضحية عظيمة لا تدري نوعها- تضحية ضخمة ستؤديها في يوم من الأيام. نشأت نعمة ومحور شخصيتها الشعور بالمسؤولية، فهي تشارك أمها أعباء البيت.... ويعرف أخوتها أن هذه الفتاة الغاضبة العينين الوقورة المحيا تضم صدرها على أمر تخفيه عنهم. لقد رفضت الكثيرين ممن تقدم لها بطلب يدها.

يقع خبر الزواج على أهالي القرية وقوع العاصفة، وتبدأ الرواية بردود فعل آمنة التي تشتري اللبن، وناظر المدرسة، وعبد الصمد التاجر، ونساء القرية على البئر.

إن غرابة شخصية الزين هي التي جعلت من مثل هذا الزواج حدثـًا، فتارة نراه درويشًا ظريفًا مهملاً في مظهره، وطورًا نراه يتتبع الحسان: أحب علوية، ثم عزة، ثم حليمة البدوية، وهولا يحب إلا أروع الفتيات جمالاً وأحسن أدبــًا، فتراه يصرخ :"عوك يا أهل الحلة، يا ناس البلد فلانة كاتلاها كتيل الزين مكتول في حوش.." وفلانة هي الفتاة التي يحبها، وهي التي قتلته، وهو يذكر اسمه بأنه قتيل في ساحة والدها.

وقد أصبح الزين معروفًا في القرية بذوقه في الاختيار، فإذا أشار إلى واحدة وذكرها فسرعان ما يتقدم لها شاب ويتزوجها، وهكذا أصبح ضيفًا معززًا في البيوت تستقبله النساء حتى يشتهر أمرهن، وهو رسول الحب الذي ينقل عطره من مكان إلى آخر. في شخصيته مظاهر العبث، فمرة يهمز امرأة في وسطها، ومرة يقرص أخرى في فخذها، والأطفال يضحكون، والنساء يتصارخن، لكن صوته الضاحك يعلو الأصوات جميعًا.

على أن وقت الزين لا يمضي كله في الأعراس ولا في المآدب، أو في معابثة النساء، بل له صداقات أبرزها صداقته مع (الحنين)- الرجل الصوفي المنقطع للعبادة (وهو يقيم في البلد ستة اشهر في صلاة وصوم)، ثم يحمل إبريقه ومصلاته، ويضرب مصعدًا في الصحراء... ولا يدري أحد إلى أين ذهب... ويزعم أناس أن الحنين يجتمع برفقة من الأولياء الصالحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون... ولكن في البلد إنسانًا واحدًا يأنس إليه الحنين ويهش - ذلك هو (الزين).

وكان الزين إذا رأى الحنين مقبلاً ترك عبثه وهذره، وأسرع إليه وعانقه.

من صداقاته كانت صداقته مع أشخاص تعتبرهم القرية شواذ : عثمانة الطرشاء، موسى ألأعرج، بخيت الذي ولد مشوهًا، إذ ليست له شفة عليا، وجنبه الأيسر مشلول. وصلته بهؤلاء كان صلة العطف والرحمة، وذلك في مجتمع يسخر من عاهاتهم وينبذهم. ويرى أهل القرية هذه الأعمال فيكبرونه، وبعضهم يقول: "يضع سره في اضعف خلقه".

والواقع أن صورته الجسدية قد توحي بالضعف، فهو نحيل هزيل، كأنه عود يابس، وكانت ساقاه نحيلتين لا تكادان تطيقان حمله، ولكنه مع ذلك يملك قوة بدنية استطاعت أن تكسر حدة ثور هائج، وأن تقلع شجرة سنط، بل كاد يقتل (سيف الدين) رغم أن الكثيرين أمسكوا به بكل قواهم.

وقد استغلت أمه صفاته وأخلاقه وما فيهما من الغرابة والصبر والهدوء إلى درجة البله والانطلاق الصبياني لتشيع أن له كرامة الأولياء.

وحين يقام عرس في القرية تجد الزين مسخَّرًا، يملاً قلل الماء وأزياره، واقفًا في منتصف الساحة عاري الصدر، في يده فاس يكسر به الحطب، أو بين النساء في المطبخ يعابثهن ويعطينه من آن لآخر قطعًا من الطعام، ثم ما يفتأ يضحك ضحكته التي تشبه نهيق الحمار. إن أذنه تلتقط بحساسية زغاريد النساء في الأعراس، فيضع ثوبه على كتفه، ويهرول حتى إذا حضر الحفلة بث فيها روحًا جديدة، وتتغير صورة الزين بأوجهها بين العبث والهذر، والجري وراء الأعراس والأفراح واللعب والضحك الجنون والرقص المعربد ومضاحكة النساء إلى مصاحبة العبّاد والزهاد والعطف على الضعفاء والعاجزين- من مصاحبة الشذاذ المعزولين عن الحياة والناس، إلى مرافقة أهل اليسار وشباب القرية العقلاء النابهين الذين يدبرون الأمور (اللجنة أو العصابة) والتجار ومجالستهم للسمر والتشاور في أحوال القرية. شخصية غريبة، ولكنها واقعية تجمع بين حياة العمل والكدح في سبيل لقمة العيش وحياة أخرى وراء المظاهر المادية- هي الإيمان بالغيب وأسراره والكرامات.

وزواج هذه الشخصية ممن؟ قلنا من نعمة التي أحست نحوه بحنو عظيم يوم أن ضربه سيف الدين على رأسه، وأحست بإعجاب به يوم أن عاد من المستشفى وله أسنان وعليه ملامح الوسامة "حين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساسًا دافئًا في قلبها، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبنائها. ويمتزج هذا الإحساس شعور آخر بالشفقة. يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية. "إنه ابن عمها على أي حال"، وما في شفقتها عليه شيء غريب.

وكانت نعمة الفتاة الوحيدة التي يوقرها الزين، فلا يتحدث معها ولا يعابثها، يفر من بين أيديها، ويترك فا الطريق. أما هي فكانت تنهره أحيانًا : (ما تخلي الطرطشة والكلام الفارغ وتمشي! أما تشوف أشغالك).

أما كيف تم الزواج فيقول الزين: (جاءتني الصباح بدري في بيتنا، وقالت لى قدام أمي: يوم الخميس يعقدوا لك علي. أنا وأنت نبقى راجل ومره. نسكن سوا ونعيش سوا). ويقال إنها رأت الحنين في منامها، وقال لها: (عرسي الزين، المتعرس الزين ما بتندم). وكان الحنين قبل ذلك قد قال أمام جهور القرية: (الزين مبروك. باكر يعرس أحسن بت في البلد). والشيخ (الحنين) هو الذي أضفى البعد الصوفي على الرواية، ومثل هذه الشخصية مألوف في القرية السودانية. فهذا الحنين هو الوحيد الذي استطاع أن يخلص سيف الدين من قبضة الزين الذي يثار لنفسه، ولم يقل شيئًا إلا : (الزين... المبروك الله يرضى عليك)، فأفلت حالا الرجل، وهو يتهاوى بين الحياة والموت. وبالإضافة إلى ذلك فقد بارك لأهل القرية: (ربنا يبارك فيكم. ربنا يجعل البركة فيكم)، وبالفعل فقد حلت على القرية بركات المشروعات والخيرات بشكل متلاحق، وارتفعت أسعار القطن، وبنت الحكومة معسكرًا قرب القرية ومدرسة ثانوية ومستشفى و و..

إن الحنين هو الخلفية الميتافيزيقية للأحداث، ونتعرف خلال ذلك على شخصية الإمام الذي يمثل الشرع:

لم يكن للإمام حقل ولا تجارة - وكان هذا يبعده عن أهل البلد الذين اعتبروه بلا عمل على الرغم من أنه كان يعلم صبيانهم -، إنه يذكرهم بأمور يحلو لهم أن ينسوها من موت وآخرة وفرائض، وكان يلهب ظهورهم بخطبِه. وقد انقسم سكان البلد بسببه إلى معسكرات ثلاثة:

معسكر يسلم زمامه للأمام بتحفظ.

الشبان العابثين

ج - معسكر (العصابة) التي تحكم البلد، وهم سبعة رجال تلقاهم في كل أمر جليل يحل بالبلد في كل عرس وفي كل مأتم، هم الذين يحفرون المجاري إذا فاض النيل، وهم حماة الشرف، ويتدخلون في ما يجمعه العمدة، وهم اللجنة المسؤولة عن كل شيء مستجد في لقرية.

وكان الإمام لا يحبهم، ولكنه كان يعلم أنه سجين في قبضتهم، فراتبه يجمعونه له من أهل الحي. (وهو الشخص الوحيد الذي ظل معارضًا لزواج الزين بنعمة) وكان الزين يقضي معظم أوقاته مع هذه الشلة (شلة محجوب وهو رئيسهم) وكانوا يحبونه ويحبهم.

ومن الشخصيات التي نتعرف عليها شخصية سيف الدين الشاب الثري ابن الصائغ الذي كان يمثل الاستهتار والعبث، نشأ مدللاً أنفق عليه أبوه لكي يتعلم فلم يفلح". أنشأ له متجرًا فأفلس في شهر، ألحقه بورشة ليتعلم الصناعة فهرب، عينه موظفًا صغيرًا ففصل، لأنه يبيت ليله في الخمارة.

جاء سيف الدين إلى القرية بعد موت أبيه، فوضع يده على أمواله يبذرها، فجافاه أهل لقرية.

وبينما كان سيف الدين يشترك في عرس أخته في القرية، وكانت على ما يبدو تعابث الزين، وإذا بسيف الدين يهوي على رأس الزين بفأس شجت رأسه، ونقل على إثر ذلك إلى المستشفى.

ولما أمسك الزين بسيف الدين كاد يصرعه لولا تدخل الحنين. وهنا يبدأ تحول جديد في حياة سيف الدين، فينقلب متدينًا، ويرضي "موسى الأعرج"- الشيخ الذي طرده، ويهذب سيرته، بل يؤذن للصلاة...

وفي عرس الزين نجد الاحتفالات على الطريقة السودانية، وتكون حفلة فيها الرقص والغناء من جهة، وفيها الذكر والأوراد من جهة أخرى.

وبينما هم في احتفالهم الذي اشترك الجميع كل من موقع مسؤوليته أو طريقة زغرودته اختفى الزين، وبعد مشقة يعثر عليه محجوب في المقبرة، حيث كان يبكي على ضريح (الحنين)، وعندما يسأله محجوب ما الذي أتى بك ؟ يجيبه بلهجته السودانية ما معناه : لو كان الحنين حيًا لحضر عرسي.

ويعودون إلى حلقة الرقص، حيث يتحمس الزين، ويثير فيهم الحماسة كعادته، فيغنون ويرقصون.وبذا يفرح الجميع لتحقيق معجزة زواجه.

أبعاد الرواية:

1- البعد الواقعي : هنا الوصف المتقن المتأني بعرض حياة أهل القرية - أفكارهم وتقاليدهم وأخلاقهم وأحاسيسهم. إن الكاتب يقف عند تفسير الأهالى لكل حدث على مستويين : المستوى المادي الزمني، والمستوى الروحاني. أمامنا في الرواية نماذج بشرية معبرة، وسواء كانت الشخصيات رئيسية أم ثانوية عديمة الدور إلا أنها جميعًا تصب في هذا النهر الزاخر بالحياة الذي يحوي خبايا القرية وأسرارها. فوقفة عند شخصية الناظر مثلاً، وهي شخصية عابرة، ستجد مدى الصدق في التعبير، وتجد إنسانيته كما هي بخيرها وشرها.

كما أن الكاتب أثار عادات من صميم القرية السودانية، فحديثه عن الخرابة المسكونة التي دخل لها الزين، وكسرت أسنانه إلا سنين، وكذلك معالجته لمسالة موسى الأعرج الذي كان من الرقيق، وتخلى عنه الوريث فيما بعد، فأصبح ضائعًا وغيرها كثير، فمثل هذه اللقطات هي وضع الإصبع على الجرح، وكأن المؤلف ينبه لبعض الظواهر والعقائد في المجتمع.

2- الارتفاع إلى مستوى الرمز : لقد أراد الكاتب أن يعبر من خلال القرية عن السودان بقبائله المتنافرة، وطبقاته المتصارعة، وكأنه يقول لنا : لا سبيل إلا المصالحة. فهذه السودان تضم الزين (بمعنى الجمال)، والنعمة (اسم الفتاة) والحنين (الرمز الصوفي) وهي جميعًا تعني الخير.

وقد يكون الرمز يتجه بشكل آخر : فالزين هو الإنسان، ونعمة هي الطبيعة المرئــية، والحنين هو الفكر الصوفي الساند في السودان، فهذه الرواية بهذا المنظور تشير إلى اندفاع الإنسان بوساطة الطبيعة للتوحد مع القوى الكونية، وما وراء هذه القوى - الله -.

أما الجنس في الرواية فهو عطر الحياة وقوامها الخلاق، هو ضمان الحياة وبقاؤها، والزين يلعب لعبة الحياة بمهارة فائقة حتى تهديه الحياة خير هدية وأجملها هي (نعمة).

إن هذه الرواية تؤكد الفرح بالحياة، فيصبح الذات والوجود كلاً واحدًا من خلال التناغم والتناسق بينها. والحب سيطر على شخصيات، الرواية بصورة عامة. ولنقرأ هذه اللقطات.

بنت عبد الله التي استهلت الزغاريد في عرس الزين : "صوتها عذب، وصرختها قوية من كثرة ما زغردت في أعراس الآخرين، ظلت عانسًا عمرَها فلم تتزوج" لكنها تفرح لأفراح كل احد في الحي".
وسلامة كانت جميلة، مرهفة الحس. لم يسعدها جمالها، فتزوجت وطلقت، وطلقت وتزوجت، ولم تستقر مع رجل، ولم تنجب أولادًا، حلوة الحديث، مهزارة، لها مع الزين قصص وحكايات، تزغرد لأنها تحب الحياة.
عثمانة الطرشاء قلبها الأصم عربد بالحب في عرس الزين.

والحديث في الرواية لا ينقطع عن الحب والزواج. هو الذي يحرك أحداثها ويجعل لها وقعًا.

الفرقعة التي أحدثها نبأ خطبة الزين لنعمة كشفت عن أن الناظر الذي تخطى الخمسين كان يطمع في الزواج من نعمة. كذلك شعرت آمنة بطعنة نجلاء وجهت إلى قلبها، فقد كانت تقدمت لخطبة نعمة نيابة عن ابنها، فرُفض طلبها في غير مجاملة.

3- رسالة الكاتب في هذه الرواية أنه يدعو إلى الحياة الإنسانية الصافية المبنية على الروحانية والمبادئ والقيم- هذه الحياة التي لا يعرفها الغرب المادي الذي عاش المؤلف بين ظهرانيه، فهنا يتضامن أهل القرية وإن اختلفوا، يتآخون وان تعادوا، ينسون خلافاتهم أمام المصلحة العامة والموقف الإنساني المشترك.

إننا نلاحظ أن الكاتب يحس أنه واحد من أبناء السودان في آمالهم وأحزانهم. وهو ينقد من خلال "الراوي المحايد" مظاهر سلبية تمثلت مثلاً في الإمام الذي يحتقر الفلاحين، وفي العمدة الذي يستغل (الزين) حتى يزوجه ابنته.

إن المؤلف يقف موقفًا إنسانيًا من الجواري أو الغواني، فيجعلهن يشاركن في عرس الزين أسوة مع الجو الديني الصوفي (المدّاحين)، فكل يقوم بدوره، ولا يتعارض، وبهذا يحمل الكاتب رسالته أيضًا في أن الحياة نغمة متشابكة يجد الكل فيها طريقه من غير أن يضايق الأخر، وهي حلال لمن يصنعها، وحرام على من يسيء إليها، والحب والجنس والفحولة والإخصاب يجب أن نفخر بها بدل أن نخجل.

الأسلوب وفنية الروية:

1- قد يرى بعض النقاد أن هذه الرواية هي قصة طويلة. لن نقف عند هذا الخلاف، وسواء كانت رواية أم قصة فإن الحدث البسيط (زواج الزين من ابنة عمه) أثار دهشة وتشويقًا ومفاجآت، ذلك لأن شخصية الزين شديدة التركيب ولا نقول التعقيد.

2- والمفاجأة تطالعنا من الحوادث التي أثارت دهشة أبناء القرية، ولكننا بعد أن نتعرف على (الزين) نرى الزين محمولاً على الأكف وهو جريح، ولا نكاد نصحو من هول هذه المفاجأة حتى تطالعنا مفاجأة أخرى، وهي أن الزين يكاد يقتل شخصًا يتبين لنا فيما بعد أنه سيف الدين الذي اعتدى عليه سابقًا.

ومفاجأة أخرى أن القتل كاد يتم لولا تدخل الحنين بجملة قصيرة: "الزين. المبروك. الله يرضى عليك". المفاجآت تتوالى حتى تكون الذروة- في اختفاء الزين ليلة عرسه بين المقابر...

وهذه المفاجآت فيها إثارة وتشويق كما قلنا.

3- طريقة السرد عنده متصلة، وذلك في لقطات سريعة دالة، فالكاميرا تنتقل مثلاً على مشاهد العرس مستخدمة أسلوب الرجوع بالزمن، وخلال كل حادثة تتعلق بحياة الزين نشهد عرضًا للحياة العامة في القرية.

ومن طرق السرد أنه يورد الحدث، ثم يعود إليه، فيزيده لمحة أو لمسة، وعلى سبيل المثال: حوار حليمة بائعة اللبن مع آمنة في بداية الرواية يعود إلينا هذا المشهد بعد صفحات عديدة (ص 44) وقد أضاف الراوي وصفًا من واقع القرية، وكذلك الحال مع الناظر الذي نراه في ثلاثة مواقف من الرواية...

ويستعمل الكاتب طريقة السينما:

أ- عرض الأحداث التي تقع في أكثر مكان وفي زمان واحد، كما وجدنا في بداية الرواية.

ب - الاسترجاع الفني، حيث يعود الكاتب بنا إلى ماضي الزين، أو إلى ماضي نعمة، فيعرفنا من خلال لقطات ومواقف قديمة على نفسيتها حتى تساعد على فهم دودها في الحاضر. كما ويغطي الحدث أحيانًا بوصف الطبيعة والجو، وكأنه يريد أن يرسخ الحدث مع هذا الجو المثير للانتباه.

4- اللغة : حافظ الكاتب على فصاحة العبارة في السرد، فلم يستعمل إلا التعابير الخاصة من الواقع في الحياة السودانية خاصة أو العربية عامة، لكنه استخدم الحوار بالعامية السودانية على ألسنة الشخصيات جميعها... وهذه اللهجة غريبة عن لهجتنا الفلسطينية بصورة واضحة. فمن التعابير السودانية :

آ : يا النداء

زول : شخص، رجل (لاحظ أن الناظر كان يستعمل لفظة رجل)

كتّ : كنت

ماك: ليس

داير - يريد

لي: حرف الجر اللام

قستّ: قصدت

بحري : شمالي

حبابك عشرة :.تحية ودعاء، والظاهر أن الأحباب هم العشرة المبشرون في الجنة.

5- والأوصاف منتزعة من الواقع، وبهذا وفق الكاتب أو (الراوي)، واليك نماذج منها :

.... عينيه الصغيرتين كعيني الفار
كأنه كلبة فقدت جراءها
انزلق الضوء عنها كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل (ثم رفع وجهه إلى السماء، وتمعن فيها دون إحساس، كأنها قطعة ارض رملية لا تصلح للزراعة).
تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ.
ورفع إليها وجهًا كأنه رئة بقرة ذبيح.

إن هذه التشبيهات المستقاة من البيئة تؤكد البيئة نفسها، وتطبع التفاصيل في الأذهان. كما أن هذه الطريقة "تمنح الأسلوب اقتصادًا وضبطًا وتوازنًا".

6- ويمتاز الكاتب بقدرته على التنويع في الصورة الواحدة، فلنر كيف يضحك القوم على إثر مصالحة سعيد المسن مع زوجته: "أحمد إسماعيل يكركر بضحك يزمجر بين بطنه وصدره، ومحجوب يضحك في فمه ويحدث طقطقة بلسانه. وعبد الحفيظ يضحك كالطفل. وحمد ود الريس يضحك بجسمه كله وخاصة رجليه، والطاهر الرواسي يمسك رأسه بجماع يديه حين يضحك. وكان سعيد في دكانه، فضحك ضحكته الخشنة التي تشبه صوت المنشار في الخشب. (ص 106). والتنويع في وصف شخصيات (العصابة) فيه إبداع ودقة ومعرفة بالطبائع البشرية.

7- والشعر طاغ على هذه الرواية لكثرة ما فيها من تركيز وإيحاء وصور رائعة أخاذة ولنسق مثلا :

"رائحة الأرض الآن تملأ أنفك، فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح، والأرض ساكنة مبتلة، ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم. كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها، الأرض ساكنة، ولكن أحشاءها تضج بماء دافق- هو ماء الحياة والخصب... الخ" (ص 48 طبعة- دار العودة).

نبذة عن المؤلف:

الطيب صالح (1929 - 2009)

نشا في قرية من قرى مركز (مروى) السودانية. كان أبوه صوفيًا يزور ضريح الشيخ "الطيب"، وقد سمي ابنه بهذا الاسم تبركًا. درس في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، وعمل معلمًا. ثم تابع تحصيله في بريطانيا، حيث درس العلاقات العامة والشؤون الدولية". عمل في الإذاعة البريطانية، (وتزوج فتاة انجليزية). يعمل اليوم في وزارة الإعلام في دولة قطر.

وأول قصة نشرها كانت نخلة على الجدول1 (1953) وله روايات اشتهر أمرها: موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت (اوبندرشاه) وقد تُرجم بعضها إلى الانجليزية.

أسئلة للنقاش

ا- من هي الشخصيات الرئيسية والثانوية في الرواية؟ قف عند جميع الشخصيات الثانوية مبينًا علاقتها بالشخصية الرئيسية؟ وكيف تعكس صورة القربة السودانية؟ أي شخصية أعجبتك أكثر؟

2- وازن بين طريقة الأعراس في القرية السودانية؟ وطريقتنا، ما هو المشترك وما هو المختلف؟

3- كيف كانت علاقة القرية مع الجواري في أطراف البلد؟ حدد علاقة كل شخصية لها تأثيرها؟

4- لماذا لم يكتب المؤلف- في رأيك- عن وفاة الحنين وأثرها في القربة؟

5- لماذا اكتسب الزين صورة أسطورية؟

6- كان صلاح عبد الصبور يردد: "إن أحب روايات الطيب إلى قلبي هي عرس الزين" (الدوحة – يوليو1976 ص27)، فما هو حسب تصورك مصدر إعجاب الشاعر الناقد عبد الصبور بهذه الرواية، وإذ كنت قد طالعت رواية أخرى للطيب فما هو رأيك؟
 [1]

كتبت الرواية سنة 1962


[1

المصادر :

سلام محمد زغلول: دراسات في القصة العربية الحديثة، منشأة المعارف، الإسكندرية- د.ت.

العشري جلال : ثقافتنا بين الأصالة والمعاصرة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- د.ت.

الطيب صالح- عبقري الرواية العربية. إصدار العودة، بيروت 1976 (مجموعة مقالات يهمنا منها مقالات محي الدين صبحي، رجاء النقاش، علي الراعي، جلال العشري، عثمان حسن احمد، كنغزلي إيميس).

* هذه المادة من كتابي الجنى في النثر الحديث ( 1986) المعد للطلاب وللدارسين في بلادنا، أعيد نشرها وفاء للمرحوم الذي رحل عنا مؤخرًا ، ولتكون في متناول أيدي القراء في العالم العربي بعد أن هيأت لنا الشبكة أن نقدم موادنا التي حيل بينها وبين إخوتنا. وقد بادرت قارئة كريمة من اليمن إلى طلب ذلك، فلها التحية


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى