الجمعة ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم حسن خاطر

العجوز تمر من هنا

دأبت المرأة العجوز على أن تجلس في ظل شجرة صغيرة تمد يدها تستجدي الناس وهذا هو حالها بعد أن كانت تعيش في سعادة ويسر من المال لولا ذلك الحادث المشؤوم الذي حدث منذ عدة سنوات وأودى بحياة زوجها وابنها الشاب وابنتها الأرملة التي كانت تعيش معها منذ أن توفى زوجها وأبو أولادها الخمسة.. ولم يعد لهذه العجوز مصدر رزق تعيش منه هي وأولاد إبنتها التي توفيت وتركتهم لها وهم لا يزالون أطفالا صغارا لا حول لهم ولا قوة..

فدفعتها الحاجة إلى أن تقوم بإستجداء الناس خاصة وأنها معتلة الصحة لا تقوى على العمل حتى ولو كان يسيرا، فهي مصابة بعجز في الجانب الأيمن من جسدها.. وكانت تخرج من بيتها وتذهب لتجلس في ظل تلك الشجرة وتمد يدها للمارة الذين كانوا يتعاطفون معها إلى حد كبير.. وكانت تغادر المكان بعد سويعات قليلة تكون قد جمعت من التسول مبلغا لابأس به يعينها على تلبية الإحتياجات اليومية لها ولأولاد ابنتها الراحلة، ولم يكن يعكر صفو حياتها سوى ذلك التاجر الذي كان له متجر كبير على مقربة من الشجرة التي كانت تجلس اسفلها وتستظل بها حيث دأب هذا التاجر على أن يقوم بطردها من أسفل هذه الشجرة بينما كانت هي تتوسل إليه وتلح عليه أن يتركها ولا شأن له بها فهي سيدة عجوز على باب الله تجلس في ذلك المكان فأصبح يعرفها المارة ويقدمون لها من الإحسان ما يعينها على الإنفاق على أطفال ابنتها الصغار.. ولكن التاجر كان مُصر على طردها كما أنه كان يُعرض عن إعطائها شيئا من المال على الرغم من إزدهار تجارته ونمائها وإزدياد أمواله يوما عن يوم.. وكانت لا تشفع لهذه المرأة العجوز دموعها ولا توسلاتها له بأن يتركها وشأنها فكان يكيل لها الأذى ويحرض الصبيان الذين يعملون لديه على مضايقتها بشتى السبل كي ترحل من أسفل هذه الشجرة فكانوا يقذفونها بالحجارة ويلقون عليها الماء..

وأصبحت هذه المرأة العجوز المعتلة الصحة لا تقوى على أن تقف في مواجهة ذلك التاجر المتكبر الخالي قلبه من الرحمة والشفقة. وذات يوم جاءت إلى تلك الشجرة لتستظل بها كعادتها كل صباح فبادر ذلك التاجر ونهرها وصفعها على وجهها صفعة قوية أطاحت بها أرضا وأطاحت بنظارتها الطبية فتهشمت.. ونهضت وهي تحاول جاهدة أن تلملم شتاتها وتمسح الغبار والدموع عن وجهها وقالت له وهي تبكي.. إني راحلة ولكن إعلم أنك أهنتني وحرمتني من مكان كنت أسترزق منه من أناس طيبون أصبحوا يعرفونني عن ظهر قلب وأصبحوا يعرفون ظروفي وقصتي كاملة.. إني راحلة ولكن أدعو الله من كل قلبي أن (يحرمك ولا يطعمك)..

قهقه التاجر بملئ فيه وقهقه صبيانه معه وصاح قائلا: (أنا عندي أموال كثيرة وتجارة مربحة تكفيني طوال حياتي.. ولن تضرني دعوتك هذه في شيء).

ورحلت العجوز وهي غارقة في دموعها وحملت في قلبها أحزانها وأخذت تبحث عن مكان آخر تجلس فيه تستجدي المارة.

ودارت الأيام ولم يفكر التاجر في ما فعله مع المرأة العجوز وكأنه لم يفعل شيئا.. وذات يوم إستيقظ ذلك التاجر على صوت زوجته وهي تصرخ وتستنجد به أن ينقذ إبنهما الذي سقط مغشيا عليه فجأة دون أن يكون مصابا بشيء وبدون أية مقدمات.. فهرول التاجر حاملا إبنه وذهب به إلى أقرب مستشفى وبعد فحوصات طبية عديدة إكتشف الطبيب إصابة إبنه بسرطان الكبد وهو في مسيس الحاجة لإستئصال الكبد المصاب وزراعة كبد جديد بدلا منه.. لم يصدق التاجر نفسه وأخذ يبكي ويولول ويقول ماذا حدث؟ إنها لطامة كبرى.. هذا إبني الوحيد وساعدي الأيمن كيف لي أن أجعله لا يعاني من شيء وأن يعود صحيح البدن معافا كما كان؟ وصاحت زوجته مخاطبة زوجها.. (لا بد من فعل شيء وبأقصى سرعة حتى يتم إنقاذ أغلى ما نملك في هذه الدنيا.. نجلنا الوحيد.. إنه أملنا وسندنا في الحياة).. وقال الطبيب للتاجر.. إجراء مثل هذه العملية في مصر شبه مضمون ولكن إجرائها في الخارج في إحدى الدول الأوروبية أفضل ونتائجها مضمونة بنسب عالية.. ولهذا قرر التاجر أن يقوم بإنهاء الإجراءات الخاصة بسفره مع نجله للخارج لإجراء العملية فورا.. وبالفعل ما هي إلا أيام معدودات وغادر التاجر بإبنه للعاصمة الفرنسية باريس لإجراء عملية زراعة كبد وفي إحدى مستشفيات باريس الراقية مكثا التاجر ونجله أكثر من شهرين كاملين أنفق خلالهما التاجر على إبنه مبالغ طائلة تكاد تصل إلى نصف ثروته لكي يصبح إبنه سليما معافا.. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. فلقد توفى الإبن نتيجة فشل العملية بعد أن رفض جسمه الكبد المزروع.. وعاد التاجر بإبنه جثة هامدة إلى مصر وتم دفنه بها وخسر التاجر نجله الوحيد وخسر معه أكثر من نصف ثروته.

وعاد التاجر إلى تجارته وشرع في إدارتها كما كان يفعل قبيل أن يكتشف مرض نجله وما أعقب ذلك من أحداث جسام مر بها.. وذات يوم واثناء وجوده في متجره جاءه أحد عماله وأخبره بأن هناك حريقا ضخما قد شب في المخازن الخاصة به نتيجة التماس كهربائي.. وهرع التاجر إلى حيث توجد المخازن فوجد النار قد إلتهمت كل البضاعة التي كان يقوم بتخزينها وهي تقدر بمبالغ طائلة.. ضرب التاجر كفا بكف وأخذ يبكي ويقول مصيبتان كلتاهما أفدح من الأخرى.. ماذا فعلت كي يحدث لي كل هذا.. وأخذ يحدث نفسه.. (خسرت الإبن الوحيد وخسرت جزء كبير من أموالي في عملية إبني بالخارج وفي الحريق الذي شب بالمخازن خسرت باقي أموالي.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).. وبينما وهو جالس أمام متجره الذي أصبح شبه خاوي من البضاعة ومن الرواد.. أخذ يفكر في ما أصبح عليه حاله وهو يجول بنظره يمينا ويسارا.. وفجأة نظر إلى تلك الشجرة التي كانت تستظل بها تلك المرأة العجوز تستجدي الناس.. تلك المرأة التي قام بإهانتها وضربها وطردها على الرغم من أن وجودها ما كان يضره في شيء.. وصاح قائلا.. إن تلك العجوز قالت لي يوم أن أهنتها وطردتها (الله يحرمك ولا يطعمك).. ويبدو أن الله قد إستجاب لدعوتها فلقد حرمني الله الولد بعد أن صار شابا يافعا يساعدني في تجارتي.. وحرمني الله أموالي بعد أن كانت طائلة.. فأصبحت بلا مال وبارت تجارتي.. إنها لعنة هذه السيدة العجوز بالفعل.

وقرر التاجر أن يبحث عن تلك المرأة العجوز في كل مكان كي يحسن إليها ويعيدها إلى اسفل الشجرة كي ترضى عنه وتدعو له الله بأن يصلح حاله لتعود البركة إلى حياته ويعوضه الله عما فقد خيرا. وأخذ التاجر يجول هنا وهناك بحثا عن تلك المرأة العجوز وهو لا يعرف عنها سوى أنها سيدة عجوز ترتدي ثياب أسود ونظارة طبية لأنها تعاني من ضعف شديد في النظر.. سيدة معتلة الصحة تسير ببطئ شديد.. وأخذ يذكر اوصافها لكل من يصادفه ولكنهم جميعا كانوا يقولون له.. لا نعرفها ولم نرها ابدا.

ولم ييأس التاجر وظل يبحث ويسأل عنها في كل مكان إلى أن تقابل مع تاجر زميلا له يقطن في مكان غير قريب منه وقص عليه قصته مع تلك العجوز وكيف أن اللعنة وعدم البركة في الولد والمال والرزق أصابته وتغير حاله من الأفضل إلى الأسوأ منذ أن قام بصفعها على وجهها وطردها من أسفل الشجرة التي تجاور متجره.. وعندما ذكر التاجر اوصافها لزميله صاح زميله قائلا: (العجوز تمر من هنا).. إنني أراها تمر من هنا من هذا الشارع صباح كل يوم.. إنها هي بالفعل طبقا لوصفك لها.. وفرح التاجر لأنه اصبح قاب قوسين أو أدني من أن يقابل تلك العجوز ويحسن إليها ويعوضها خيرا عما فعله بها من إهانات وطرد حيث أنها رحلت ورحلت معها البركة من حياته.. وسار التاجر مع زميله إلى حيث كانت تتجه السيدة العجوز وأخذا يسألان عنها حتى وجدا من أرشدهم إلى مكان كانت تجلس فيه صبيحة كل يوم في ذات الموعد الذي كانت تأتي إلى الشجرة المجاورة للتاجر لتستظل بها.. وسار التاجر وزميله إلى المكان الجديد الذي كانت قد إتخذته تلك السيدة العجوز بديلا للمكان الذي طردت منه واخذا يبحثان عنها فلم يجداها.. وقاما بالإستفسار عنها من بعض الذين يتواجدون في ذلك المكان بصفة يومية كالباعة الجائلين واصحاب الورش والدكاكين حتى قال لهما أحدهم أن تلك السيدة العجوز إعتادت منذ فترة أن تأتي صبيحة كل يوم لتجلس في هذا المكان تستجدي الناس.. إلا أنها في يوم قريب وبينما هي جالسة في مكانها هذا صدمتها سيارة نقل يقودها سائق أرعن تخطت الرصيف لتودي بحياتها على الفور وقاموا بدفنها في مدافن الصدقات حيث أن الجميع لا يعرفونها ولا يعرفون لها أهل كما انهم لا يعرفون أين تسكن ولا يعرفون عنها أية شيء على الإطلاق.

حزن التاجر حزنا شديدا وأجهش بالبكاء وأبدى الندم الشديد على عدم رعايته لتلك العجوز التي ضايقها وأجبرها على الرحيل من جوار متجره.. وسقط مغشيا عليه حيث أصيب بشلل في نصف جسده الأيمن فهرعوا به إلى المستشفى ومكث فيه عدة أشهر..

وفي ذات الوقت كانت زوجته تكن له عداء كبير بسبب بخله الشديد معها وإهانته الدائمة لها و كم فكرت في الرحيل من البيت ولكنها كانت تتسلح بالصبر عليه من أجل عيون إبنهما.. ولكن الإبن الحبيب رحل تاركا الدنيا بحلوها ومرها.. وهنا قالت آن الأوان للرحيل وقررت مغادرة البيت إلى بيت أهلها الذين كانوا يعارضون زواجها من هذا الرجل وكم أثنوها عن هذا الزواج بشتى الطرق والوسائل ولكنها كانت صامدة أمامهم معتقدة أن سعادتها ستكون في الزواج من هذا التاجر الثري كي تضمن لنفسها أن تعيش في نعيم دائم.. وأخذت تبحث عن أوراق تخصها كي تحملها معها قبيل رحيلها وهنا تذكرت ذلك التوكيل العام الذي كان قد منحه إياها زوجها – في غفلة من تفكيره – وذلك قبيل سفره إلى باريس لعلاج إبنهما كي تقوم الزوجة بمباشرة تجارته والقيام على شؤونه أثناء غيابه.. وسرت الزوجة وابتهجت وقالت لقد حان وقت التعويض.. وصاحت في نفسها: (لقد قضيت معه سنوات عديدة بين إهانات وضيق وهم وغم.. واليوم لا شيء معي.. لا مال ولا ولد.. وبهذا التوكيل سوف أمنح لنفسي التعويض الذي استحقه.. لا بد أن اضربه في مقتل كما ضربني مرارا وتكرارا..) فهرعت مسرعة إلى مكتب التوثيق الحكومي وقامت بنقل ملكية البيت والمتجر من زوجها إليها تمهيدا لبيعهما للغير مستخدمة في ذلك التوكيل العام.. ثم قامت بإغلاق المتجر وإنهاء عقود كافة العاملين به وعرضته مع المنزل للبيع وجاء المشتري وقبضت الأموال الطائلة ثمنا لهما ونقلت ملكية المنزل والمتجر للمشتري الجديد الذي أصبح مالكا لهما بالفعل.. وهربت هي إلى حيث لا يدري أحد.

خرج التاجر من المستشفى وقد بدت عليه علامات الإعياء الشديد فالشلل لم يشفى منه أبدا بل بدا واضحا أنه أصبح معتل الصحة فاقدا لها وأصبح لا يقوى على تحريك شق جسده الأيمن تماما كما كان حال المرأة العجوز.. وبعد أن افتقد زيارات زوجته له أثناء وجوده في المستشفى.. ايضا لم يجدها في انتظاره أثناء خروجه منها.. وأخذ يسأل عنها فعلم من المقربين إليه ما حدث منها أثناء مرضه فازدادت حالته سوءا وانهارت صحته بصورة أوضح.. فلقد خسر كل ما يملك وأصبح لا مال له ولا عقار ولا إبن ولا زوجة.. ولم يجد المال الذي ينفق منه على نفسه فأخذ يستدين من هذا وذاك وضاقت به الأرض بما رحبت وهداه تفكيره إلى الشجرة.. تلك الشجرة التي كانت تستظل بها السيدة العجوز تستجدي الناس.. تلك الشجرة التي قام بطرد العجوز من تحتها بعد أن صفعها على وجهها.. وقال لنفسه ما السبيل للحصول على المال كي ينفق على نفسه وإحتياجاته اليومية.. لا بد من التسول.. لا بد من الجلوس أسفل هذه الشجرة واستجداء المارة.. وبالفعل أخذ من أسفل الشجرة مأوى له ليجلس تحتها ومد يده للمارة طالبا منهم الإحسان إليه.. وذات يوم جاء المالك الجديد للمتجر وقام بطرده من أسفل الشجرة بعد أن أهانه ولطمه على وجهه فأصيب بلوثة عقلية وأخذ يسير في دروب المدينة هائما على وجهه وهو يردد.. أين أنت أيتها العجوز ليتني ما فعلت معك ما فعلت لقد إنتقم الله منك وسار في الشوارع يصيح.. إنها اللعنة.. إنها اللعنة.. وأصبح رث الثياب معتل الصحة تبدو على وجهه علامات اللوثة العقلية.. وأخذ الصبية يضايقونه ويقذفونه بالحجارة تارة وبالماء تارة أخرى ويضحكون عليه ويصيحون خلفه (العبيط أهوه.. العبيط أهوه).. وانتهت حياته بالإيداع في إحدى المصحات العقلية وحيدا يطلب الموت ولا يجده.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى