الأحد ١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم بان ضياء حبيب الخيالي

القربان

أنا ماكيبا ...أجمل زهرة في ربوع قريتي القابعة بوداعة بين خضرة وماء... في نقطة ما على خريطة العالم. أنا منذ فجر اليوم في كوخ القرابين بين صويحبات طفولتي.... اليوم عرسي سأكون زوجة الإله.

بدأت المراسيم قبل قليل، تحممت بالماء المقدس وعطرتني بزيت الورد كاهنة القرية... وهي تردد أنشودة المحاربين القديمة بنغمة مشئومة... بدأت الفتيات من حولي يغنين أغنية النماء التي تعني بدء طقوس تقديم القربان (أنا). قد تستغربون أن أكون قربانا بينما أنا عروس الإله.... نعم هي الحقيقة فإلهنا الرجل الأبيض المسن اختارني من بين حسان القرية لأكون عروسه ...ولأن الأمر إلهي... فأنا قربان القرية له... ولأكمل القصة بالترتيب سأرسم مراسيم العرس لكم..... بعد مراسيم التعميد الجديد بالماء المقدس بدأت الفتيات بفتح عقد شعري المتموج الطويل لتسريحه هذا المشاكس الدائم الطفولة، شعري.... الذي سبح طويلا في مرابع طفولتي متشربا هواء شوارع قريتي متضمخا بشذى اوركيدات تملأ ساحات قريتي المليئة بالطمى والطحالب والكثير من الأزاهير البرية ... تتقدم العجوز المترنمة بأغنية الفناء تغطس نصل ريشة وزة بيضاء... في كيس جلدي داكن تخرجها لتكحل عيني العسليتين ....يقيدون قدمي الحافيتين بحجول حديدية منقوش عليها تعاويذ قديمة ....يلبسونني قلائد من عظام طيور ملونة .... وملابس قش قشيبة مزينة بقصب ملون منسوج فوق قماش الكتان الغالي....كم كنت أتمنى لو أن زينتي كانت أبسط لكن في عرس أتمناه كما أتمنى لو اكتفيت بثوب أمي القديم وقلادتها الصدئة....لأزف لأحد شجعان قريتي ...ما لي وللقرابين والآلهة....ترفع العجوز الحيزبون مرآة أمام وجهي... تلتمع عيناي العسليتان بوميض ساحر وسط حلكتي... هل ارسم ابتسامة كما يطلبن مني... حسناً... ها أنا ابتسم كديدني دون قناعة... كل عمري كنت أكبت صرخات رفضي لأنني أخشى أن أكدر أهلي ورفيقاتي ومن يحيط بي. كنت قنوعة صبورة خجولاً لكنني كنت رافضة القبح كل عمري .... دون أن أفهم حتى لحظتي هذه أن السكوت عن القبح جريمة وأن الخضوع للظلم جريمة في حق ذاتي وحق الآخرين......عفواً.... سأعود لواقعي الأسود... هم يتمون زينتي بحلي كالقيود ملونة وخواتم فصوصها من زجاج ملون... يا لمعصميَّ الضعيفين المقيدين هل يمكن أن تشعلا ثورة على القيود ....عادت العجوز المشئومة تنثر على رأسي طيبا ومسحوق قرنفل.....وخرجت من الكوخ مبشرة بأنها أكملت مهمة التزيين .... ليبدأوا في إشعال النار المقدسة في الساحة الكبيرة أمام عرش الإله سيرمون فيها أكواما من لحاء شجر الطيب المقدس لترتفع ألسنة اللهب محرقة طيور السماء ناثرة شذى اللحاء المعطر مستعرا في الأرجاء... سيقتادونني بعد أن تكتمل رقصات المحاربين أمام الوهج العظيم إلى معبد النار في الساحة الكبيرة... لأسجد لها وللإله زوجي ....قبل أن أذهب معه إلى كوخ زوجي وإلهي....في أقصى الساحة....

ما زلت في كوخ القرابين أجثم ساكنة بخدر على صندوق قديم....أحاول الهروب من واقعي المجحف بالتشبث بتساؤل أبله تُرى ما يحتويه الصندوق حاولت أن أفتحه لتصرخ عجوز الشؤم بي إنها كومات من عظام قديمة لعرائس كانت تقدم للنار المقدسة ....سرت قشعريرة في جسدي طردت ما كان من خدر بينما توالت كلمات العجوز كأنها تروي قصة تاريخ أسود كسواد وجهها
ـ كوني سعيدة أن القربان المقدس أصبح يعني الزواج لا الحرق كما كان... حظك أفضل من حسناوات القرية القابعات مكومات هنا ..... وتضرب بيدها الناتئة العظام المتوترة العروق على خشب الصندوق ...أنا أجلس على مقبرة...هذا هو كرسي زفافي ....

وابتسمت وأنا أجتر الكلمات المسمومة... (حظك أفضل) كيف يكون الحظ أفضل مما أنا فيه وابتسمت بمرارة.... ما دمت أجلس على تاريخ أسود يترقبني حاضر أسود منه... ترى هل من الممكن أن يكون المستقبل أفضل....؟ ما ذا لو حاولت ماكيبا الفاتنة أن تغير المستقبل ....؟ ماكيبا الهادئة زهرة (.....) البرية..و....
و... تصرخ الحيزبون بالفتيات الهامسات أن يرقصن حولي...لأفيق للحظة أتابع فيها... رقصات صويحباتي الفاتنة ويعود يسحبني سؤال أزلي عاش معي كل عمري .. في جنبات عقلي ...ترُى إلى متى نبقى ندور في فلك الذل واستجداء رحمة آلهة لا أظن أنها سترحمنا يوما...؟ كم تمنيت لو أنني أشهد قريتي الصغيرة يوما وهي متحررة من سذاجة إيمانها بعقائد بالية أكل عليها الدهر وشرب...! هل يمكن أن أكون الشرارة الأولى التي تحرق تلال أخشاب عفنة قبعت نائمة على أديم عقول سكان قريتي مانعة ضوء الشمس من أن ينيرها.. لتنبت نبتا طيبا ً...؟ هل يمكن أن تكون ماكيبا الصغيرة الخجول الحنون رمز الدعة والسكون رمزا خالدا من رموز تحرر أبناء قريتها الطيبين مما هم فيه من تخلف وظلام...؟ هل ستفيق قريتي على صباح تأمن فيه زهراتها البرية من جور الطامعين هل ستتكسر قيود أسود بلدي لتحرسه من الطامعين ولتمرح أشبال بلدي متمرغة بجذل في أديم أرضها دون قهر أو ذل أو عبودية. ضجيج يملأ راسي ليست فكرتي هذه وليدة لحظة ضعف أو قوة طارئة كنت أتمنى منذ طفولتي الأولى أن أؤسس حجرا في بناء قريتي الجديدة المتحضرة..... تهمسني، توشوشني، تعصفني الأفكار الهائجة المائجة في مخيلتي بينما تجلب العجوز ورفيقات طفولتي أواني الحناء ليخضبوا أطرافي ثم يقتادونني لخارج الكوخ لأجد ثلة من محاربي قريتي تقف على باب الكوخ تزفني نحو .... قدري ... ضجيج الأفكار يتعالى في رأسي يطفئ رعبي يحيله لدخان يشبه دخان محرقة النار المقدسة التي ابتدأت هي بنثر بذور الخوف في أسلافي ليتمرغوا بعدها بعقليتهم البدائية في أوار إرضائها .... الذي تفاقم سنة بعد سنة .... يا للآلهة التي لا تشبع.....

سأوجز لكم فحوى قوانيننا لتعلموا مدى جورها... كل أسلافنا تقربوا لآلهة النار التي تسكن أرواحها الخالدة قلوب تماثيلها الحجرية التي انتصبت في الساحة المقدسة... بقرابين تقرب واستجداء رحمة واتقاء بلية.... كان أجدادنا يقدمون القرابين قبل موسم نثر البذور مرة وفي وسط موسم الحصاد ثانية وفجر يوم الحصاد مرة أخيرة... فعند شروق الشمس على نصب إله النار كان أجدادنا يرددون صلاة التقرب مبتدئين بحرق طائر جميل عند أقدام الآلهة الحجرية... فنتقي بطائر واحد خطر احتراق محاصيلنا بكسف من نار ترميها الآلهة الغاضبة من السماء.... لكن الآلهة نهمة أكثر مما نتوقع، أصبح الطائر كدس طيور تحرق في النار المقدسة مع رقصات محاربي القرية لإرضاء الأصنام لكن الأمر لم يك يخلو من نوبات غضب تتحول فيها أقواتنا إلى قش أسود تذروه الرياح المولولة .... وزاد شبق التماثيل وأصبح الشوق لمنظر القرابين وهي تتخبط محترقة مطلقة صرخاتها الرهيبة المتحولة تدريجيا لسلم ينزل بها نحو الأسفل حيث الفراغ.... يزداد جموحا .... فكلما دارت رحى سنة زادت متطلبات الإله جشعا ودموية وتعاظم خوفنا والتزامنا بتقديم القرابين لأن أقواتنا كانت محكومة من قبله وأرى إن تسلط الآلهة على الأقوات يعني تسلطها على رقاب الرعية ..... أصبحت قرابيننا أكثر عددا وجودة مما كانت ولأن شراهة آلهتنا لا تنتهي أضحى القربان أسمن وأجمل قطعة في ماشية القرية قد يهدأ غضب الإلهة قليلا لكنه دوما ًيعود مستعراً يطلب المزيد ليزداد عدد المواشي لقطيع والآلهة لا ترتوي تريد المزيد وخوفنا من الآلهة أضحى أكبر من خوفنا من الجوع ....فأحرقنا لها المزيد مع البخور .... وأصبح القربان بعدها... أجمل فتاة في القرية. كان الكهنة يختارونها لتحترق بدل محاصيل وأقوات المواطنين ومر الوقت وجاء في إحدى صباحات قريتنا رجال بيض كلون الصباح رؤوسهم تعتمر لون الشمس كسروا تماثيل الآلهة و... وعدوا كبار قريتنا بجلب حبوب محسنة تنمو في تربتنا لتنبت سنابلَ ونصبوا لنا مضخات تطفئ كسف الحرائق المتساقطة من الآلهة الساخطة .... دون حاجة لقرابين .... جلس أكبرهم على كرسي في وسط الساحة ورقص له أطفال القبيلة رقصة الامتنان .... وقدم حكماؤنا تكريما له أفخر طيور سماواتنا ....و... في العام المقبل لم يعد الطير كافيا فقدمنا ثورا وبعده قَدَّمنا قطيعاً .... كان الإله الجديد متطلبا نزقا كآلهتنا الحجرية القديمة.... الآلهة لا تشبع .... ونحن لا نكف عن استجداء خيراتنا من آلهة لا تملكها. عادت النيران تأكل محاصيلنا ولكن هذه المرة علمنا أن الشمس العمودية وإشعاعاتها المتركزة على السنابل اليابسة هي التي
أكلت محاصيلنا بنهم ككل سنة ومع هذا لم نكف عن إهدار أموال ومحاصيل حقولنا لأجانب جلسوا على عرش الرب ليحكموا... هذه المرة بتنا نقدم للآلهة الجديدة (الرجال البيض) قرابين أغلى لنتقي شرورا جديدة وكان الرجل الأبيض كريما حين منح حسان القرية المختارات كقرابين كل سنة هبة أن يتزوجن منه ...بدل الموت حرقا ً... أنا أرى الاقتران بالنار أكثر كرامة لي.....صوت الطبول يرتفع بوقع جديد.. أنا الآن في وسط الساحة الكبيرة.... تلكزني الحيزبون مشيرة لي بالاقتراب وحدي من النار العظيمة، تسكت الطبول لوهلة

أنا اقترب من النار....الرجل الأبيض يتأملني مبتسما ً...تسري قشعريرة رفض في جسدي ..... تزعق الطبول من جديد ....ويصرخ قلبي منتفضا تتحول كلمات أغنية العجوز والفتيات لهمهمة تخفيها ضربات قلبي المرتعب... تتقدم طفلة جميلة تحمل أزهارا ملونة تنثرها عند قدمي.. أنظر في عينيها ليشتعل التصميم في عيني... من أجل أطفال قريتي... من أجل كل الأجيال التي ستكون بها قريتي الصغيرة مشروع أمة .. كبيرة ناهضة....لن أخاف هذه المرة ...ستكون ماكيبا رمزا ً للحرية .... قدماي يابستان ... لكنني راضية بقدري....لن أتزوج الإله الأبيض المتصابي لكنني سأكون شرارة الثورة في بلدي...نعم أنا قربان طوعي من القلب لثرى بلدي سأرتمي في النار المقدسة عند السجود سأحرق جسدي أمام الإله ليهمد جوعه للموت أو ليتحفز أكثر.... الطبول تدوي بوقع صاخب قلبي بدا يهمس بخوف همسات مبعثرة بعد أن خفق بقوة قبل قليل وجوه محاربي القرية تطالعني بألم..... ابتسم لهم رغم رعبي أنا أسامحهم لأنني أفهم من نظراتهم المضطربة الحزينة أنهم سيغيرون بعدي قوانين الآلهة الظالمة........

أنا أقدر إني سأوفر بجسدي الذي سيسبح بعد قليل في بحور اللهب أقوات أولاد قريتي الذين تجمعوا في الساحة ليودعونني الوداع الأخير قبل أن أصبح عروسا لتلك الروح الملعونة البيضاء، المبتسمة بجذل وتيه أمامي على كرسي العرش......... النار المقدسة ترتفع ملونة كأن ألسنتها التي تتمايل بجنون ثلة راقصات غجريات يقدمن رقصة القربان أرى في وسط اللهب المتراقص بجنون دثاراً وثيرا سيلفني بحنان.. ابتسمت برضا... زال خوفي ....استدرت نحو مواطني بلدي أشجار بلدي شمس بلدي .... أطفال بلدي عيونهم تناظرني... أنا أقدم روحي بسعادة لعيونهم الحزينة ولكن .... كنت أتمنى لو إن شجعان مدينتي بادروا قبل اليوم لصنع غدٍ جديد ... لكن لا بأس ....سيفكرون كثيرا ً بعد أن أحتضن محرقتي بوله من أجل بلدي.. أرى الثورة الوليدة تنبت في مآقيهم ....نعم أنا الآن فقط سعيدة بعرسي ......

هل علمتم سادتي من أي بلد أنا.... أو من أي عصر جئت... ليس هذا مهما... أنا قصة كل الشعوب المقهورة التي لبس حكامها ثياب الآلهة وسيطروا على مقادير شعوبهم بالسيطرة على أقواتهم.... أنا وردة من رياض وطني..أتضوع عطراً... سيسكن ساحاتها حتى بعد رحيلي ..أنا بنت هذا التراب المقدس...الذي ضم أجدادي وروح كل الثائرين تسكنني... من الأزل.........
..........................................................................................
يتحرك القربان بجناجله وحنائه وضفائره الرائعة وسط صفين من محاربي القرية الذين يحاولون إنكار إحساسهم بالخيبة والعجز يركع القربان ساجدا للنار المقدسة ثم يقف بشموخ مواجها إلهاً أبيض تسلط على أكواخ المدينة السمراء ليختار لنفسه كل نقي وكل جميل وثمين ويرمي الفضلات لملوكها الأصليين .....
ينظر القربان نظرة ذات معنى لصفين من المحاربين المضطربي النظرات ..... ثم يرتمي القربان بشبه صلاة سابحا في بحور النار .... وتولول النار صارخة... لاهبة بغضب مجنون ... وهي تحتضن جسدا ًطاهراً لم يرتدِ بعْدَ ثوبِ العِزِّ هلاهيل الهوان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى