الأربعاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

بلا ظل

في هذا الحي العتيق تتنقل العجوز رحمة من بيت إلى بيت وهي تتكئ بصعوبة على الخيزرانة،تبسط يدها المعروقة لتحظى بلقيمة تسد بها رمقها،وتبذر في حناياها المجدبة تغريدة أطيار برية،وزهورا متفتحة يتضوع أريجها،الزمن المبالغ في استهتاره اللاذع قد تفنن ببراعة رهيبة في رسم خطوط متكسرة،ومنعرجة،ومستقيمة على محياها الذي يرزح تحت وطأة العبء الثقيل،تشعر بنوبات صاعقة من الإعياء تهاجم جسدها النحيل كما تهاجم القطع الضبابية الدكناء أديم السماء في عز الشتاء،تتوقف برهة لتسترد أنفاسها المبعثرة،تمسح حبات العرق التي تناثرت فوق جبينها بإهمال كتناثر العقيق،تتضرع في خشوع عميق إلى خالق العرش بأن يمنحها القوة والثبات لمجابهة رحلة العمر،والتواءاتها،تقول لنساء الحي في صوت مكدود ينضح بالمرارة،والشوك،والأسف،والإنكسار:المرأة بلا زوج كشجرة بلا ظل.

لقد التحق زوجها الحبيب بالرفيق الأعلى بعدما عشش في جسده المنهك داء عضال،لم يترك لها الولد الصالح ليكون سندها الوحيد في الملمات،لم يخلف وراء رحيله الأبدي ما عدا ذكريات حميمية من الحب المخملي النادر،والإحترام الصافي النبيل.

بنات الحي كن يحسدنها على جمالها الآسر الفتان حين كانت في أوج عنفوان الشباب،كن يصعدن تنهيدات من الأغوار حارقة كاللهيب،طافحة بالغيرة،والضغينة،والحسد،وحال لسانهن يردد في انبهار عجيب:إنها جميلة الجميلات،إنها أميرة الحي.

مع زحف السنين العارية،وتلاحق الأحداث وتشابكها خبت جذوة شبابها كما يخبو الرماد،واحدودب ظهرها من كر الدهر وسياطه،تغوص بكل أحاسيسها في بحار الذكريات النائية لاهثة الأنفاس،زائغة العينين،مجنحة الفؤاد.صورة الزوج الأليف تداعب مساحات الخيال بأنامل بارعة،خفية،وتدغدغ أوتار القلب المضني الجريح،وتتراقص كالنسيمات الدافئة في أحضان فصل ربيعي سندسي بهيج.

كان قوي البنية،مفتول العضلات،داكن السمرة،يقول لها في ابتهاج كبير:إذا أنعمنا الله بالذرية الصالحة سنغترف معا من ينبوع السعادة الأبدي.ثم يسترسل محدثا إياها بأطيب قلب،وأنبل خلق،وأسمى عاطفة:إذا أنجبت طفلا وسيم الطلعة سأسميه( منصور)،وأعلمه فنون الفروسية.

تطلق من أعماقها الجذلى ضحكة نقية في نقاوة الفجر،وتهتف بكل ثقة،واعتزاز،وحب:وإذا كانت بنتا فماذا ستفعل؟هل تخاصمني إلى الأبد؟هل ترحل من البيت بلا رجعة؟

رد عليها وأمل خصب ينمو ويزهر في سراديب صوته:يستحيل أن أخاصمك يا عزيزتي،سأنعم بقربك،وأكون أسعد زوج.

كان حلم الإنجاب يراودهما،ويعشش في خيالهما الندي الفسيح،فلا يصحوان إلا على إشعاعات من الرجاء جارفة وهما قانعان بالقسمة والنصيب.

وكان يوم ليس كسائر الأيام.لم تظهر رحمة في الحي العتيق،ولم يسمع لها صوت حان يقطر بالتأثر والإسترحام وهذا ما أثار استغراب أهل الحي ودهشتهم فتساءلوا والحيرة الرعناء تمزق قلوبهم:ما الذي أصاب المسكينة وهي مكسورة الجناحين بلا زاد ولا سند؟هل شقت دربها المعتم صوب حي آخر لم تألف وجوهه بعد؟وهل سنها ذاك يسمح لها بالترحال من مكان إلى مكان؟
في غمرة من فوضى التساؤلات وتذبذبها احتشد أبناء المنطقة لينظروا في أمرها،تشاوروا فيما بينهم،وبعد أخذ ورد يمموا شطر بيتها وروح الإباء تعززهم وتثمن وجودهم.

قال مختار الذي يكبرهم ببضعة أعوام:دعوني أتصرف بمفردي.
وانحنى فوق صدرها الضامر يتصنت،ثم رفع رأسه وقال بألم:توقف قلبها تماما عن النبض.
صاح فريد من وقع الصدمة:تقصد ماتت!؟
ـــ هذا ماحدث بالضبط،إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما الآخرون فقد ذهلوا عن أنفسهم،وراحت اللحظة الموجعة تعزف لحنها المأساوي،وترج المشاعر رجا.
وهكذا انتقلت رحمة إلى رحمة الله،وشيعت جنازتها في تلك الأمسية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى