السبت ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم إيناس أحمد الحبشي

انعزال

تجاهلت كل من حولي بعد خروجي من المطبخ وحصولي على فاكهتي المحببة (الموز)، والتي غالباً ما تشعرني بالإشباع منذ القضمة الثانية...!، وتعمدت الحصول عليها قبل دخولي إلى حجرتي كي أجمع بينها وبين كل شيء أحببته، ضوء خافت... ورقة بيضاء... قلم... موز... وستارة، فما أن اجتمعت بهذه الأشياء حتى شعرت بمعنى الصداقة الحقيقية التي طالما بحثت عنها ولم أذق معناها، واتخذت لنفسي وضعاً للجلوس خلف ستارة الحجرة، والتي غالباً ما تغدقني بجل ما يكون من العطف والحنان، وحيدة كالمعتاد... أحدق في منبع ذلك الضوء الخافت والذي بالكاد أرى من خلاله ملامح حجرتي، ضوء... مبعثر هنا وهناك، أشعته منكسرة في كل زوايا الغرفة، ومحطمه أستطيع أن أصفها على أنها بقايا أشعة ضوء يستفاد منه، كبقايا الأمل الذي شعرت به كلما رأيته...

اعتدت منذ صغري ألا أتحدث عما يدور في ذهني، وقررت أن أنثر كل ما ألتقطه لحظة إبحاري في عالم التفكير في تلك الصفحات البيضاء الخاوية التي تقع بين يدي، كي أعبر فيها عما أراه بكل صراحه.. بكل جدية.. وبكل صدق، دون خوف.. دون تردد.. ودون تزييف، هكذا كنت أفرغ كل ما في جعبتي من أحاديث وتساؤلات، وهكذا كنت أتحدث لذاتي فهي فقط من سيستمع لي حتى النهاية، فمشاعري وأحاسيسي دفينه في أعماق قلبي غالباً ما أحتفظ بها لنفسي... وأتصدق لغيري ببعض فتاتها...
هكذا عشت... وهكذا مازلت أعيش... أبحث عن ذاتي في أعماقي، أبحث عن سبب وجيه لقتل تلك الطموحات التي سعى غيري لقتلها ودفنها في أرضٍ غير أرضي...!، أبحث عن أسباب حزني الدائم في هذه الحياة، وعن أسباب عزلتي وحبي للإختباء خلف كل ستار، أبحث عن أسباب انفعالي في أبسط المواقف رغم تحجر دموعي أمام أصعبها ...
أي تناقض أواجهه في دائرة حياتي، وأي عذاب أعيشه بعد صحوة سباتي...!

ها أنا ذا مازلت أجلس هنا، خلف الستار، أطلق العنان لأفكاري وأبحر بها دون أن أحدد في لحظة الوجهة التي سأتوجه إليها أثناء تمسكي بدفة المنطق خلال الإبحار، أرى العديد من الموانئ المزينة بالأحلام الوردية البريئة والمرصعة بالأمل، وأشعر بنسمات الهواء المنعش التي تجذبني إلى شواطئها كي أرسو عليها، لأكتشف معالم الواقع الذي سأواجهه في تلك الأراضي الواهمة الحالمة، لا... لن أرسو عليها كما خـُدعت سابقاً، فالأحلام تظل الشبح الذي يطاردني بجمال صوره المعلقة، وروائع أحداثه المرتقبة، لكنها في نظري تظل (أحلام) أخدع بها كما يخدع الضمآن بماء واحات السراب...

تسائلت مراراً وتكراراً عن أسباب العزلة التي تجبرنا على اتخاذ مقاعداً في صفوفها الأمامية في هذه الحياة، وتسائلت عن مدى قوة الإنسان لقدرته على التخلي عن جميع من حوله، كي يترك لنفسه الكثير من الوقت للتأمل والتفكر والإطمئنان، انعزال تام، وراحة تامة، بعيداً عن زوبعة الإختلاط وضوضاء الكلام، وحدة تامه... وتفكر عميق، نستطيع من خلاله أن نحل العديد من الألغاز التي وُجدت في صفحات حياتنا، وأن نجيب على الكثير من الأسئلة بقليل من التروي وإعادة شريط الذكريات، انعزال يسمح لنا بمراجعة الأمور ومعالجتها من الجذور كي نتخطى العثرات القادمة بروح متفائلة، وبجدية صارمة...

مازلت أرسو بكل انعزال خلف هذا الستار، أحدق في هذه الأوراق، وفي هذه الكلمات، وفي الزهور المطرزة في نسيج الستار، أدقق فيها... وفي تمازج خيوطها ودقة أدائها، وأتتبع تلك الفروع التي تنتهي كل منها بأوراق صغيرة وزهرة، وفروع أخرى لا تنتهي سوى بطرف حاد خالي من أي شيء، كل هذا رسم وتطريز في نسيج صافي، كالحياة تماماً... إماّ أن تنتهي بنهاية سعيدة وبمضامين مليئة و وافرة، وإما أن تصل بنا إلى قعر سحيق خالي المضمون وبأكفة خاليةٍ خاوية، ولا بأيدينا الإختيار... فقط قليل من الحظ... وتروي وشطارة... (وبعض انعزال).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى