الثلاثاء ١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم أحمد غانم عبد الجليل

شَـبَـق الـحـروب

(كنا حبيبين طريدينِ وملعونَين
ما بين نارين وعالمين
نكابد الغربة في المابين)*

من فوق صخرة اعتليتها كملكةٍ تتطلع إلى أطلال عرشٍ ولى زمنه على أيدي الطغاة، رحت تتابعين موج البحر المتكاسل، يتحرش رذاذ البحر في حياءٍ بأطراف خصل شعرك التي لم يروضها مشط، عيناكِ المنتفختان من قلة النوم وتذبذبه تلفظان دمعا يتقافز في صمتٍ على أسيل خديك، لا تميزين بين الأصوات المدوية في أنحاء المدينة، تنتشر من حولك أعمدةً من الدخان الأسود، تمتد نحوالسماء الخالية من السحب في هذا الصيف القائظ .. يغريك البحر، رغم القنوط المتسلل إليه، بالارتماء بين أحضانه العميقة، بعيدا عن البثور السوداء التي تشوب وجهه المترقرق تحت شمس الصباح التي أخذت تعلوه بسرعة، الاستسلام الكامل لجريانه، دون أن تسمحي لشيء يحرمك بلوغ متعتك الأخيرة تلك، فتتركيه يسلبك التشبث بحياة عركتك مراتا ومرات بلا سأم ولا رحمة ..

يدكَ الصلبة حطت ثقيلةً على كتفها، وكأنك أردت استباق جنون تلك اللحظة اليائسة، عرفتَ أنها تجلس فوق تلك الصخرة بالتحديد على الشاطئ المهجور، تترامى حولها النوارس النافقة كجثث متناثرة إثر انفجار عبوة ناسفة أوسيارة ملغَومة، بدت لك كحجرٍ صغير يستقر فوقه عصفور واهن القوى من شرفة شقتها القابعة في بناءٍ قديم، لا يزال يحفظ بعض آثار حرب الأعوام المظلمة ..

فزعت أول الأمر لدى استيقاظك، جبت الغرف، دون أن تجدها في أيٍ منها، وأستغربت أكثر لما وجدت هاتفها المحمول ملقى فوق وسادتها، رغم أنها ظلت تحتضنه بين كفيها طيلة المساء المخيف، متلذذا باعتصار قلبيكما واجترار أعصابكما، لم تدرِ أي سحر غريب سلطته عليك غرفتها المهملة، فراشها الذي تبدد منه دفء جسدها، ملابسها المعلقة على المشجب وفي الخزانة، رائحة أنوثتها المميزة لديك لحد الآن، تحمل حنينا دافقا لم يفقد تأثيره على حواسك، حمّالة الصدر التي وجدتها مرمية على كرسي قريب من السرير، تذكرك بضيقك القديم من كل قيدٍ إضافي يكبل بياض حمامتيها الحليبي ..كانت تزم شفتيها قويا، تدحجك بنظرة أم نحوولدها المراهق، ثم تفضي شفتاها الورديتان عن ابتسامةٍ تحاول إخفاء ضحكة تسابق العصافير في تغريدها الصباحي قرب شباك غرفتكما القديمة، متحينةً فرص صفاء الجومن أمطار لندن الغزيرة التي طاردت تسكعاتكما في الشوارع الزلقة طويلا، كنت تفتقدها بشدة كلما سافرت في مهمة صحفية إلى إحدى عواصم أوروبا، تتقصى أخبار حروب بلدها المنزوي في طرفٍ من المتوسط، طال غيابها في إحدى المرات، فأقلقت كل أصدقائها بإلحاح سؤالك الحائر عنها، حتى باغتتك ذات ليلة بدموع تنهمر على ورد خديها، زرعتها حينا على عتبة باب شقتك قبل أن تستسلم بوعيٍ مشتت لجذب يديك لها نحوالداخل، بالكاد استنطقت منه حادثة اختطاف أخيها من قبل إحدى الملشيات المتقاتلة في بلدٍ إن عصته الريح تنكسرُ، ما عاد لصوت فيروز أي تأثير عليها في تلك الساعات حالكة الظلمة، وعيناها تجولان أرجاء بيتهم الشرقي العتيق عند سفح الجبل، تتطلع إلى بلاطاته المزخرفة، تحفه المتوارثة جيلا بعد جيل، درجات السلم الحجري العالية التي خدَشت ركبتيها مرارا عندما كانت صغيرة، كانت تقف عند أسفلها والدتها باكية لحظة انطلاق السيارة بها نحوالمطار، أتت مدينة الوقت المنضبط على ساعة بيغ بن للدراسة والعمل، لم تعرف أنها ستفقد الأمل بالرجوع ذات يوم، كنت تنصت لصمتها الناحب، وفي بيتك النائي عنك يقام مجلس عزاء شقيقك، إسم من بين عشرات آلاف الأسماء التي تزخر بها قوائم البيانات العسكرية متزايدة الأعداد في بلاد النخيل المحترق شرقا .. أصغيتَ لهلوساتها ساعات لم تمل فيها فيروز من متابعة غنائها الشجي، والدموع السوداء تتابع الهطول من عينين تهبان الحب والحزن في آنٍ واحد، يسكنهما جنون وزوابع الموت المعربدة من قمة الجبل حتى أسفل الوادي، نسيم الصيف الرائق، وعوي رياح الشتاء المزمجرة ..

قررتِ أكثر من مرة العودة إلى بلدك، بإصرارٍ لا يحفل بأي رادع، حتى ظن أنه سوف ينهض ذات يوم، بعد زواجكما المباغت بسرعته لجميع أصدقائكما، ليجدك قد رحلتِ بالفعل، كنتِ تتهميه بالانهزامية والسلبية، بعد اكتفائه بدور المثقف المتسكع بين الحانات وجلسات النقاش الضبابية، مجرد كلام يتصاعد ويتفرق في الهواء مع أدخنة السجائر، وإن لم تفعلي أكثر من ذلك في الصحيفة التي كانت تنشر مقالاتك المهاجمة للجميع بحنقٍ شديد، تمضين أياما منكمشة على نفسك، وكأنك هاربة من تهديدات كل الأطراف المتناحرة في بلدك، وقد يغالبك الظن بين الحين والآخر أنهم ما خطفوا أخاك إلا للانتقام منك ..

كنت تعرف أن ذلك الاحتمال ليس بمستبعد، رغم نبرة الاستهزاء الصارخه في كلامك، خاصةً وأنه ذات السبب تقريبا الذي أثناك عن قبول العمل في أيٍ من إذاعات المعارضة، رغم الفارق الشاسع بين المرتب الذي كان يعرض عليك وما كنت تتقاضاه من الإذاعة المحلية الصغيرة المستقلة التي عملت فيها، تقدم الأخبار، برامج سياسية، منوعات، وأيضا إهداءات الأغاني بين المراهقين أحيانا ..

حثك على النهوض والعودة إلى الشقة قبل معاودة القصف، نزلت عن الصخرة التي لا تكف عن معاركة الموج، كان يحمل في تهاديه صوت فيروز من جديد إلى أذنيه، متستنجدةً بطير الوروار أن يسِلم لها على الحبايب ويخبرهم بحالها شوصار ..

تساءلت، وكأنك تحادث نفسك، عن مكان فيروز الآن ؟ ..

ريما : أكيد أنها تجلس مع زوجها، مشتته بين قنوات الأخبار، ما تعرف هم أي بلد تحمل أكثر .. ثم حمدت الله أنها تأخرت وزوجها في المجيء ..

تسمع إجابتها وتساؤلك يتيحير في مقصده بين فيروز التي خبرت دمار الحروب دون أن يهتز لها وتر من أوتار صوتها المشحونة بالحب والتحدي معا، مهدهدة مواجع غربتكما العتية، وابنتكما الجميلة، مميزة العينين منذ ولادتها، ابتسامتها العذبة كانت تطالع الذهول المرتسم على وجهيكما، كما لولم تتوقعا تحمل مثل تلك المسؤولية ذات يوم ..
رحت تخبريه عن عشق فيروز للبحر، كيف كانت تأتي كل يوم قبل ارتفاع الشمس في السماء، تغتسل بمياهه المالحة، تعوم مسافات طويلة دون تعب، وكأنها تشارك الموج رقصةً هادئة الحركات، ترقبيها تحاكي الأصداف بوشوشات طفولية، تخبرها بأسرارٍ صارت تخفيها عنكِ أكثر الوقت، يداخل هدوءها صخب متمرد، وثورة يمكن أن تستمر أياما سئيمة من القطيعة، تعود بعدها لتحط برأسها على صدرك مثل رضيع لم يفطم بعد ..

عادل : وكأنكِ تصفين نفسك، نسيتِ لما رحلتِ وأخذتيها معكِ إلى باريس، قبل أن تتم الأربع سنوات، من غير ما تكلفي نفسك عناء إخباري إلا بعد مدة من البحث المجنون، بلا ما أعرف أي جهة من الجهات اللي كنتِ رافعة عليها سيف القلم الحر ممكن تكون مسؤولة عن اختفائكم ..

ـ والله منيح كان عندك وقت للبحث عنا، بعيد عن صاحبتك الوجودية .. كل ما كان يهمك أن أكون معك على السرير كلما هفك الشوق، وإن واريته بالحنين لأهلك وبلدك ..

ـ مثل ما كنتِ دائما، ما تملين من سخافة هذا الكلام، وكأنك الوحيدة اللي تحمل هموم بلدها ومواجعها ..
لم يوقف صخب صياحكما في النهاية سوى دوي قذيفة سقطت على منطقة قريبة منكما، ألقيتكما فوق الرمال متحاضنين، بذات قوة شبقكما ـ الخائف ـ الأول ...
. . .

السماء كابية في ساعة المغيب الحزين، يوم آخر من الموت ينصرم، سألته عن أحوال بغداد، وإن كنت وابنتكما لا تنفكان عن متابعة أخبارها عبر المحطات الفضائية، وقلباكما ينتفضان كل ساعة عليه، عودته إلى ساحة المعركة أثارت حنقكِ، وربما غيرتك من جرأةٍ لم تدركك يوما، لما أخبرك أحد أصدقائكما عن إصراره على تعيينه كمراسل في العراق، رغم أن الفرصة كانت مواتية أمامه للعمل مذيعا للأخبار في المقر الرئيسي للقناة ..

عندما أعلن عن اختطافك كان فزعها، وفيروز في أستراليا، يشتد كل ساعة، نحبت كل منهما أحلى الذكريات التي جمعتها معك .. كانت تصارع رغبة قوية في السفر ومحاولة تخليصك بأي طريقة كانت، كما ودت أن تفعل لدى اختطاف أخيها، لم تعلم لحد الآن شيئا عنه، سوى ما قاله ابن عمها عن نصف جسده الأعلى الذي وجده متكوما بين الأنقاض، على جانبٍ من المعتقل الذي تم أسره فيه ..

لم تكد تتبين صوتك عبر الهاتف، بعد الإفراج عنك ضمن صفقة متعددة الأطراف ومبهمة التفاصيل، حتى شهقت شهقة قوية، تبددت بعدها نبرات صوتك المهتزة في ضجيج بكائها ودوي ضربات قلبها، لم تشتق إليك يوما كمثل تلك اللحظة، دخلت بعد ذلك لغرفتها، استلقت على الفراش الذي لم تطأه يوما، عانقتك، صفعتك، كالت لك الشتائم، ثم نامت على صدرك ساعات طوال ..

جلستما على الأرض أمام التلفاز،متذبذب البث، كما تعودما في أوقات الضيق خاصة، تفرطان في تدخين السجائر، يتوسطكما صمت هاتفها العنيد، بدا كلعبةٍ من ألعاب ابنتكما، لا تزال تحتفظ ببعضها في غرفتها التي صرت تمضي لياليك فيها منذ اندلاع الحرب، تحتضن إحدى دماها بشوقٍ سالت معه دموعٌ تغزوعينيك عند كل لقاء ووداع، أثناء زيارتيكما بيروت التي عشقتها من خلال حديث ريما عنها منذ بداية تعارفكما، كما ذابت في سحر مدينة الشعراء والصور ..

كانت تغدق عليك بحبها حينا، كما لولم تفارقك أبدا، وتشاكسك حينا آخر، وكأنها تتحفز للشجار، كما تفعل مع والدتها، تقرأ في عينيها الخضراوين اتهامها لكما بالجنون الذي أورثتماها شيئا منه : ابنة من أنا ؟ وليدة الغربة والجنون .. جنون نار القادسية والحرب الأهلية .. ثم تكركر بضحكة شقية تحاول أن تكيف نفسها مع ظروفٍ مقتتها طويلا، كما كيفت لسانها في صغرها على التحدث بلهجتين كثيرتا الاختلاف، رغم أنهما ترفدان من ذات نبع الجراح المتدفق منذ عصور ..

اعتادت التنقل بين شقتي باريس ولندن، المتشابهتين في اضطرابهما، تكاد تخلط بين لغتين لا يفصل بينهما سوى شريط قطار تركبه مع أحدكما، تتراكض المناظر أمامها بذات هرولة أيامها وسرعة تعاقب الضباب وضياء الشمس الجميل، لم تكن تعلم تماما متى تبدأ أوتنتهي زوابع خصامكما، تنفصلان بعد عراكٍ شرس، يدوم لأشهر، وتتناجيان في هيام عاشقين التقيا بعد بحث وفراق طويل .. كما لم تعرف متى تم طلاقكما بالتحديد، أورجوعكما لبعضكما الذي انتهى بصدمة الطلاق الثاني، في ذات الشقة التي شهدت أرضها حبوها لأول مرة ..

باغته هيجانك، دورانك في أنحاء الصالة، تنكشين شعرك وتلطمين خديك، هرع خلفك نحوالشرفة المطلة على ليل بيروت الذليل، تتوهج في ظلمائه النيران، الناس في الشوارع نقاط أشد حلكة، تتخبط في مسيرها نحوالمجهول ..
وكأنكَ لم تفارق بغداد أبدا، ذات المنظر تقريبا يطالعك، وهي إلى جانبك تجأر كحيوانٍ ذبيح، تنادي بيروت المطعونة حينا، وتندب حظهما العاثر حينا آخر .. ( ياليتنا نتمكن من تعود الفقدان، يمكن نحس بشي من راحة الموت ) ..
تركتها تهذي دون أن تحاول مقاطعتها ولا حتى تهدئتها .. صمتت فجأة، تحاول التقاط أنفاسها، كما لوكانت تفتش عنها هي الأخرى، سألتك فجأة دون أن تدير وجهها عن المنظر الموحش أمامكما : تظن إنهم حَ يحتلوا بيروت مرة ثانية ؟ ...

( تظن إن بدهُم يحتلوا العراق عم جد ؟ ) ..

سألتِه لدى جلوسكما على مصطبةٍ خشبية أمام نهر التايمز، كنتما ترتديان معطفين سميكين، في ليلةٍ شديدة البرودة، بعد التقائكما صدفة، في شقة ذلك الصديق التي جمعتكما أول مرة، وفي ذات الوقت تقريبا، كنتِ في مهمة صحفية سريعة إلى المدينة التي طعنتك بمر الذكريات، دون أن تعلمي بوجوده فيها، ففي السنوات الأخيرة كان يجوب عواصم أوروبية عدة كمراسل متنقل، كان صوته مخمورا، وإن لم يشرب قطرة خمر في تلك الليلة : المجنون، ما يعرف إن هذه المرة غير كل مرة، وإنه استنزف كل أوراق المساومة ..

كان وجهكَ مرآةً للسماء الكامدة فوقكما، لم تكن تميل للكلام كثيرا، تعانقتما كما لم تتلامسا من قبل، عاندت تحفظها التي حرصت على فرضه أمامك، بذات عنادها للارتباط بأي رجل آخر، وإن وجدت انجذابا نحوه .. لا تعلم إن كانت تجربتها الطويلة معك هي السبب، أم أن ارتباطها بك كان أقوى من كل محاولاتها للتملص من هواك الذي تشعر أنه يتلبسها مهما تباعدتما، حتى لما حبلت بفيروز كانت تهجس أن ذلك الخبط المؤلم داخل رحمها هوبعض من صخب حياتكما المستمر .. ولدت فيروز، ولكن شيئا منها لم يكن يرضى الاقتناع أن الحبل السري الذي يربطكما يمكن قطعه، حتى بعد طلاقكما الثاني الذي وقع بعد أقل من ساعة على مغادرتكما الفراش، إثر مجابهة عصبية لم يعد أي منكما يتذكر سبب انفجارها بالتحديد، كما حدث لدى طلاقكما الأول تقريبا ..

ذهبتِ معه إلى شقته الصغيرة، التي كان قد استأجرها حديثا، دون سؤال ولا جواب، كزوجين عائدين من سهرةٍ جميلة، أظنت أشواقهما هموم ومشاغل الحياة .. كانت عودة بعد غياب طويل، باغتت جسدكِ الأربعيني بطاقةٍ متجددة، ربما لم تشهدها حتى الشابة التي كنتها .. خشيتِ لوهلة سماعك خطى فيروز ـ الصغيرة ـ باتجاه الغرفة، لم تشئي الانشغال بالبحث عن أثرٍ لأنثى في الفراش أوالغرفة، ولعلكِ أيقنت، بفضل تراكم خبرتكِ معه، أنه لم يمسِ امرأة منذ أشهر على الأقل .. (( أنتَ من حقي وستبقى، بعقد زواج أوورقة طلاق، وإن عاشرت مختلف نساء الأرض )) .. عشق .. هوس .. رغبةٌ بالتملك .. تسلط متبادل .. لم تهمكِ حينئذٍ أيٌ من تلك المسميات ..

رافقتها إلى المطار صباحا، مفتعلا مواقف شبه صبيانية لتأخيرها عن موعد إقلاع الطائرة، عيناك الذابلتان رجوتاها البقاء، ليس ليومٍ أوعدة أيام، بل لأمدٍ غير محدود، ولكنك لم تملك الجرأة لاتخاذ قرار أوطرح أية فكرة، وأنت تعرف مدى صعوبة انسياقها من جديد وراء اختيارات انفعالية لم تجر عليكما سوى وابل من الخيبات ..

على مقعد الطائرة كنتِ تجهشين ببكاءٍ لم تستطيعي التحكم بعبراته مدة أطول، دون أن تدري على من أوماذا يمكنك صب جام غضبكِ أكثر ..
. . .

قدتها إلى الداخل مع معاودة القصف ولعلعة النيران المتواصلة من المدفعية وفوهات الرشاشات، اسندتها حتى الأريكة، دائخة، زائغة العينين، شحوب وجهها يستلب كل قوةٍ عرفتها عنها، وبصورة أعتى من أي وقتٍ مضى، ناولتها حبة منوم، ثم ذهبت نحوالشباك، تدخن سيجارة لا تهتم بحرق ورقها الهش، فلن يطفئها أحدهم في صدرك أوبطنك أوحتى قرب عانتك، متندرين على فحولتك إنجليزية الهوية .. كنت تُضرب حتى تقع مغشيا عليك، تفيق فلا تجد من الهواء ما يكفي شهيقك، الجزم العسكرية تضغط على لحمك العاري، قبل تمرير الثاقب الآلي فوق جسدك، حتى يكاد يمسه، أذناك لحد الآن تميزان صوته جيدا عن دوي القنابل والصواريخ وأقوى الانفجارات ..

ترنح نحوكِ، بفعل ثمالة الحروب، جثا عند الكنبة، دس رأسه عند مفرق صدرك، يتوسلكِ أن تفيقي وتعودي لمشاركته الحديث، أوحتى الصراخ في وجه كل حرب وانتكاسة جمعاكما منذ البداية، في وجه كل جنون وتيه فرقاكما، في وجه العالم الذي يشهد دماركما منذ عقود ..

أنفاسها قربك أشلاء تنهدات رتيبة، تكرر سؤالك عن مطربة العشق والحروب : أين هي، وماذا تفعل في هذا الوقت ؟ .. تعد لأغانٍ جديدة تجول بها العالم وتتحدى كل دمار، أم تختبئ داخل ملجأ في قنوطٍ يسخر من أغانيها القديمة، تستسلم للدموع والهذيان، بعد أن فقد كل شيءٍ جدواه ..

( نسَم علينا الهوا ... ) .. علا الصوت الشجي أخيرا من هاتفها، شهقات ابنتكما تتخلل أضلعك، أمواج صوتها الهادرة تتشظى عبر شبكات الهاتف المشوشة، تصرخ .. علَ شيءٌ من ندائك يصلها، تخبرها أنكما بخير، بخير رغم كل شيء ..

قبالة رقدتها جلست تفكر في غادتكما البهية التي لم تتخلص من لعنة الخوف وهلع المجهول حتى بعد اختيارها الرحيل من جديد، مدفوعة ليس فقط بحبها نحوذلك الشاب الوسيم الذي تعرفت عليه لدى دخولها الجامعة، وإنما رغبةً في العثور على الاستقرار أخيرا، استقرار كامل غير منقوص، لم يمنحها إياه أي منكما، رحلت تاركةً جذورها تعبث بحياتها متى ما تشاء، تبصر جلوسها على شاطئ البحر هناك، تتابع دفق الموج النائي عن عالمي الخراب المزمن، ربما ما يطمئنها بعض الشيء وجودكما في مكانٍ واحد، عيناها تلجان عتمة الصالة الكئيبة، تتنصت على مشاكساتكما الطفولية، انفعالات كل منكما في وجه الآخر، محاولا تحميله مسؤولية تشتت حياته أكثر مما كانت عليه قبل لقياه، عيونكما الطافحة بالشوق رغم عناد المكابرة، أحاديثكما الطويلة والمتناثرة حول كل ما يخص بلديكما، ماضيا وحاضرا، متغلغلين إلى خفايا تدهشها وتربك تفكيرها أكثر فأكثر، تراكما متعانقين، بذات الحميمية التي تجدها بين أحضان زوجها عندما يباغتها عصف الحنين إلى بلادٍ غرست تفاصيلها في داخلها، وأخرى تاقت لأن تراها، بعيدا عن مشاهد العنف والدماء والركام التي تبثها مختلف القنوات ..

سرت في تلك الشوارع الباكية طويلا، وكأنك تجول مدينة لم تطأها قدماك يوما، حتى أهلك، لم يتبقَ منهم سوى أخت أرملة بالكاد تعرفت عليك قبل أن يتعلق ذراعاها برقبتك جاهشةً بالبكاء .. كنت تأمل دوما أن تستأنف حياتك في تلك المدينة المحتضنة للنهر المخضب بالطمى والدماء، مخلفا كل شيء وراء ظهرك، يداك بيدي امرأتي حياتك، غير أنك في النهاية لم تجد بداً من الإقامة في مركز المحطة التي تعمل فيها، تسأل نفسك ما الذي أرجعك حقا إلى بلادٍ استنزفت دموعك وأعصابك على مدار أعوام، صحوة من تيهٍ طويل .. تكفير عن سنوات التشرذم والتسكع، كما كانت تسميها مطلقتك .. نزوة بطولة تغافل بها فعل الزمن المتسارع في أوصالك، كما يحدث لدى مواعدتك عشيقة من عشيقاتك، تحاول التواري بين أحضانها عن نظرات ريما النارية، المتسلطة عليك من كل زاوية، والتي أضحت تنبثق من بين شرايينك، تلك الجمرات الخابية أمامك تحت رماد الجفون ..

أخذت تتمتمين بكلامٍ مبعثر غير مفهوم، حمى جبهتك أرعبه، لم يدرِ ما يمكنه فعله في ذلك الليل الجزع من الحياة سوى الكمادات التي لم تؤتِ بنتيجة تذكر، وأنتما وحدكما في تلك البناية، بعد أن غادرها سكانها على نحوسريع، فلا جيران يستنجد بهم، ولم يحضر في ذهنه صديق أوقريب لك يستطيع الاتصال به وسؤاله عن طبيب يملك من روح المجازفة ما يجعله يأتي لمعاينتك والخيام المنصوبة في الشوارع لا تصدر سوى أنين النازفين، حتى الموت ربما ..

راح يقبَل شفتيك الشاردتين في هذيانٍ مستمر، تربَع على الأرض بجانبك، ممسكا بكفك الدافئ في حنوأب وابن وعاشقٍ شغوف يذرف دموع الفقد الأول .. ما رأيك أن نعود إلى لندن، أوباريس .. مدينة السحر التي تتنفس الحرية في كل وقت كما تصفيها دوما .. وقبل كل شيء نذهب لزيارة فيروز المذعورة في ذلك الركن القصي من العالم، وربما تروق لنا الإقامة هناك، ما دمنا في كل الأحوال لا نملك سوى إطلاق ذات الحسرات المختنقة داخل الجدران المكممة بالصمت ..

تستيقظ صباحا، خدِل الذراع الذي كنت تسند رأسك إليه، والمرتكز على مسند الكرسي المواجه للكنبة الخالية منها، فيما الكمادات مرمية على الأرض بجانبها، أخذت ترقب تنقلها بين المطبخ ومائدة الطعام، تحضر لوجبة فطور متعددة الأصناف، بوجهٍ ما يزال يحمل شيئا من وهن حمى الليلة الماضية، وإن عاودت الحيوية بحة صوتها، تأمرك بالنهوض وغسل وجهك، ثم حلق لحيتك، كما كانت تفعل دوما، قبل مشاركتها الطعام، كانت السماء صافية على نحوما، بين الحين والآخر يُسمع صوت قصف متباعد، قرب الشاطئ تطير بعض النوارس على علومنخفض، ثم لا تلبث أن تحط على هذه الصخرة أوتلك، وصوت فيروز الشجي يتهادى إليك من مكانٍ خفي في الأفق المفتوح ..
يسحبكِ من ذراعك نحووسط الصالة، يتحدى خمولك وابتآس وجهك، ويلف ذراعه حول خصرك، فلا يعطيكِ فرصة الممانعة، يراقصك والنعاس لم يفارق عيونكما بعد، يود أن يسهب في حديثٍ طويل عن إبحار خياله في رحلة غربة تجمعكما مجددا، ولكنه لا يشاء النطق بكلمة قد تربك خطاكِ المتأنية أكثر، تسأله تعابير وجهك عما يخطط له، تفاجئيه بضحكةٍ ساخرة من مفارقات العشق والحرب التي تجمعكما دوما، ثم تلقين برأسك على كتفه، تتشبثين بقواه المنهكة خشية السقوط، والأرض تشرع بالاهتزاز تحت أقدامكما مع معاودة القصف الكثيف لضاحية بيروت، يكاد عصفه يهوي بالبناء العتيق الذي يأويكما، فيما القنوات الإخبارية تواصل بث أخبار حرب الصيف المدمرة، التي طغت بعض الشيء على طوفان بلاد ألف ليلةٍ وليلة العارم منذ سنوات ...

* عبد الوهاب البياتي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى