الأحد ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم محمود فهمي عامر

فكرة الانتقام في رواية (اللص والكلاب)

اعتمدت رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ على فكرة الانتقام اعتمادا محوريا في تطوير أحداثها، وطيبعة العلاقة القائمة بين شخصياتها؛ حتى تصل إلى النهاية الحزينة لبطل الرواية سعيد مهران، واستعان نجيب محفوظ لتطويرهذه الفكرة في رواية اللص والكلاب بالحوار أوالصراع الداخلي، وشحنه بلغة العيون على مدار الرواية من مثل:(هاتوا البنت، بل هاتوا أمّها، كم أرغب أن تلتقي العينان؛ كي أرى سرّا من أسرار الجحيم ص14) أو(وتجلت في الأعين نظرات اهتمام وشماتة ص15).

وسعى نجيب محفوظ خلال روايته إلى تمرير الرسائل الرافضة لفكرة الانتقام بصوت العقل على لسان الشخصيات الثانوية والفرعية، وابتدأ بالمخبر الذي قال أثناء اللقاء الأول لسعيد مهران مع عليش في بيته بعد خروجه من السجن: (دع القرار للقاضي، كلمة واحدة لا ثاني لها، وهي المحكمة، نعم المحكمة، ابحث أولا عن طريق مستقيم تأكل منه لقمتك ص16)، وقال آخر في نفس الجلسة: (أنت قادم من السجن والعاقل من اتعظ، ص10).

وعلى الرغم من ذلك لم تثنه هذه النصيحة أو تلك عن فكرة الانتقام أو إعادة صياغتها حسب المعطيات الجديدة التي أملتها هذه المقابلة، وخصوصا بعد أن رفضت ابنته سناء لقاءه، وحالة الذعر التي اكتنفتها، حيث توجه إلى الشيخ على الجنيدي لعله يجد عنده مبررا لفكرته أو فتوى تسمح له بمتابعة مشروعه الانتقامي، فوجد صدى صوت المخبر يطارده في كلمات الشيخ علي الجنيدي الذي رفض فكرة الانتقام كما بدا ذلك في الحوار الذي دار بينهما ص25:

ـ خذ مصحفا واقرأ
ـ غادرت السجن اليوم... ولم أتوضأ
ـ توضأ واقرأ
ـ أنكرتني ابنتي، وجفلت مني كأني شيطان، ومن قبلها خانتني أمها.
ـ توضأ واقرأ
ـ خانتني مع حقير من أتباعي
ـ توضأ واقرأ
ـ ومالي، النقود والحلى، استولى عليها... وجميع أنذال العطفة أصبحوا من رجاله.
ـ توضأ واقرأ

إنّ فكرة الانتقام المسيطرة على سعيد مهران والتي غدت كظله جعلته لا يقبل مناقشة أية فكرة أخرى، وجعلته بعد كل هزيمة أو فشل في إنجاز فكرته أن يفكر بشخصية جديدة يثق فيها لتعينه وتشجعه في رخصة للانتقام ؛ فكانت الشخصية الثانية المتمثلة برؤوف علوان، وهي شخصية لا تقل منزلة في موروثه واعتقاده عن شخصية الشيخ الجنيدي، وكان الصوت نفسه الذي سمعه من المخبر والجنيدي على لسان رؤوف علوان: (وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة ص32، لا حرب الآن لتكن هدنة، ص33 هل فكرت في المستقبل؟ لا تكترث لخيانة امرأة، أما بنتك فستعرفك يوما وتحبك، المهم الآن أن تبحث لك عن عمل ص34 ليس اليوم كالأمس ص35)، ولكن صوت الانتقام كان أقوى من ِأي صوت أخر في صراعه الداخلي: (هل يمكن أن أمضي في الحياة بلا ماض فأتناسى نبوية وعليش ورؤوف؟ ولكن هيهات أن يطيب العيش إلا بتصفية الحساب ص38).

هذه الفكرة هي التي جعلته كما قال رؤوف علوان: (مندفع كالجنون نفسه ص43) أو( أنت تندفع بأعصابك بلا عقل ص59)، وهي التي كانت سببا في كل خطأ ارتكبه في حق الأبرياء؛ لأنه أمسى عبدًا لهذه الفكرة، يسير خلف عاطفة احتجت على رجولتها بخيانة نبوية وعليش، هذه العاطفة هي التي جعلته يقول: (أنا عنيد ص81)، وهذا العناد دفعه إلى قهوة طرزان؛ ليعيد ما تبقى من كرامته أو فحولته، ففي القهوة هناك من يشجعه على فكرة الانتقام، وخصوصا صاحبها طرزان، الذي قال له بعد أن طلب منه المسدس دون تردد: (تحت أمرك ص47)، وفي القهوة التقى بنور التي لم يفكر فيها إلا في محيط فكرة الانتقام، ووجدها طريقا مختصرا للوصول إلى غايته، واستغل حبها لسرقة سيارة الرجل الغني الذي اصطحبته إلى القهوة: (ستكون السرقة طبيعية، ولن تتجه إليك الظنون ص51)، ولكن الصوت الرافض لفكرة الانتقام يعود ليعيد نفسه على لسان نور كما يبدو في هذا الحوار ص56:

ـ لم

تريد المسدس والسيارة ؟
ـ لزوم العمل
ـ يا خير ! متى خرجت من السجن ؟
ـ أول أمس
ـ وتعود إلى التفكير في ذلك ؟

وفكرة الانتقام جعلته أنانيا لا يفكر إلا في القتل ولو على حساب حياة الآخرين، وغطت قلبه بالسواد فلا مكان لأحد فيه انتقاما لوجوده الذي سُرق منه، (فهو لن ينثني عن عزمه، ولو عاشت سناء وحيدة العمر كله ص60)، (وهل أترك أمك الخائنة إكراما لك ص59)، وعدّ قمة النجاح (أن يقتلا معًا ص59)، وهذه الفكرة جعلته لا يعيش إلا في الظلام (والظلام يجب أن يمتد إلى الأبد ص62...يا له من ظلام! انقلب خفاشا فهو أصلح لك ص72) وكانت سببا في تكرار: (أنا الشيطان نفسه ص61) أثناء محاولته لقتل عليش ونبوية، وهي التي جعلته لا يميز الأشياء: (الصوت الذي سمعه لم يكن صوت نبوية... الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين ص69).

واختار نجيب محفوظ بعد هذه الحادثة أن يقرأ الشيخ على الجنيدي سورة (الفتح) أثناء لجوء سعيد مهران إليه؛ لأن هذه السورة نزلت عقب انصراف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد أن عقد مع قريش (صلح الحديبية)، وكان هذا الصلح هو الفتح، قال الله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما)، لقد رفض الشيخ مرة ثانية فكرة الانتقام مستعينا بالسورة الكريمة السابقة، وأراد أن يفهم سعيد مهران أن النصر لذاته وكرامته قد يكون بالصلح، وعقب الشيخ منكرا هذه الفكرة: (ألم تتعلم المشي بعد؟! ص66)، وأراد أنْ يفهم أنّ التوبة والمغفرة السبيل الوحيد للراحة، فإن خسرت الدنيا بهذه الجريمة فعليك أن لا تخسر الآخرة، ودعاه إلى ذلك رافضا فكرة الانتقام بقوله: (قل إلى اللقاء ص71) احتجاجا على عبارة سعيد مهران ( وداعا يا مولاي).
وفكرة الانتقام أثرت على وجود سعيد مهران الإنساني حتى انقلب خفاشا كما قال في الرواية ص72، وجعلته يرى كل النساء من مرآة نبوية، فقال عن نور التي وقفت معه حين أنكره الجميع: (إنها امرأة كما أن نبوية امرأة ص83)، ومهنة الخياطة التي تعلمها في السجن لم يحسن استغلالها في العيش الكريم على الرغم من إشارة رؤف علوان إلى مساعدته إذا أراد أن يعمل فيها، ولكنه رفض الفكرة وسخر منها كما يبدو ذلك في الحوار التالي ص34:

ـ أترغب في أن تفتح دكان خياط؟

ـ بكل تأكيد لا

ولم يكتف سعيد مهران، بل جعل من هذه المهنة وسيلة لتحقيق الانتقام (عن حكمة صنعتها ص96)، وبدأ برؤوف علوان.
هذه هي حكمته في الحياة الانتقام من كل من استهان بذكائه أو رجولته، الحكمة في التخفي، والقتل، واستغلال الآخرين، ومطاردة اللصوص، حكمة طائشة مع كل رصاصة قتلت بربيئا، حكمة أيدها كما قال: (كل راقد في القرافة تحت النافذة ص99)، حكمة جعلته مغرورا؛ ليقف في وجه رؤوف علوان وجريدته (الزهرة) التي أدت دورا أساسيا في تحفيز فكرة الاننقام (أنت كالثعبان الكامن وراء حملة الصحف، تود أن تقتلني كما كان الآخرون لكني لن أموت قبل أن أقتلك، ولكي يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن أقتلك ص99)، وهذا الغرور أيده الحوار التالي:

ـ ألا تعرفين من يكون سعيد مهران! الجرائد كلها تتحدث عنه، وأنت لا تؤمنين به ص97

ـ ويتحدث عنك ناس كأنك عنترة ص100

غرور ناتج عن حكمة عقيمة وفكرة انتقامية أكدتها الصحف عندما وصفت سعيد مهران بالجنون (جنون العظمة والدم)، وقالت بعد أن قتل بريئا آخر: (لقد أفقدته خيانة زوجته عقله ص118)

وكانت هذه الفكرة على الرغم من رفض الجميع لها هي الحق الذي يسعى إليه ولا يرى غيره، هذا الحق جعله يقول للشيخ علي الجنيدي في نهاية الرواية: (من المؤسف أنني لم أجد عندك طعاما كافيا، كذلك عقلي يتعذر عليه فهمك، ولكني واثق من أنني على حق ص 134)، وهذا الفهم في ظل فكرته لم يستطع خلاله أن يفهم العبرة المقصودة أو المغزى من قول الشيخ في نهاية الرواية (واذكر ربك إذا نسيت ص134)، وتكرار(إن هي إلا فتنتك)، ففي سورة الأعراف المأخوذة منها الآية الكريمة (إن هي إلا فتنتك) فيها تحذير من كيد الشيطان، وتفصيل لقصص الأنبياء ومعاناتهم وصبرهم، وقصة سيدنا آدم مع أبليس وخرجه من الجنة، وهبوطه إِلى الأرض كنموذج للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، أما قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) فهي مأخوذة من سورة الكهف التي استعملت أمثلة واقعية ثلاثة لبيان أن الحقَّ لا يرتبط بكثرة المال والسلطان، وإِنما هو مرتبط بالعقيدة، المثل الأول: للغني المزهوّ بماله، والفقير المعتز بعقيدته وإِيمانه، في قصة أصحاب الجنتين، والثاني: للحياة الدنيا وما يلحقها من فناء وزوال، والثالث: مثل التكبر والغرور مصوراً في حادثة امتناع إبليس عن السجود لآدم، وما ناله من الطرد والحرمان، ولكن سعيد مهران كما قال يتعذر عليه الفهم لأنه واثق أنه الحق، وكل من يطاردهم كلاب لا يستحقون العيش، فخسر الدنيا والآخرة جراء فكرة سيطرت على وجوده وكانت سببا في موته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى