الأحد ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

حنين لايذوب

عشرون سنة تطايرت كالشظايا هباء منثورا أدراج الرياح، لم ينعم خلالها براحة البال، ولا باستقرار ضميره، نهاره شبيه بسواد ليله، كلاهما في نظره سواء، لم يحصد من أعوام غربته الهزيلة، السرمدية، العابسة سوى الأنين المتقطع الجارح، والشوق الدامي الملتهب، والمرض العسير الفتاك.

فكم من مرة لازم سريره المتهرئ والحمى تلفحه بألسنتها كالسعير، يئن مفزوعا، مرتعشا كفهد مصاب، متمنيا في دواخله العثور على يد رحيمة تستله من بؤرة عذابه، وسرداب حرمانه، وتغرس برفق فائق في قلبه الضائع شجيرات طرية من فرح عسجدي عارم، وتبث في ثناياه فراشات مزركشة راقصة من الأمل القادم. الوحدة الرهيبة تحاصره بأسلاكها المكهربة، والفراغ القاهر المميت ما فتئ يجلده علنا، ويصلبه كل حين.

على حين غرة تترنح الذكريات الصاخبة في ساحة دماغه حبلى بالنقاء الشفاف، والحب المخملي الخالص، تعلو شبابيك عمره بتأن وحذر شديدين، وتحدث في عالمه الباهت اللون سمفونية رائعة تدغدغ الأسماع، وتشنف الآذان، تغمره أشعة الدفء الحانية حتى الثمالة، ويهتز على أوتار بنفسجية رنانة من الانتعاش الدفين.

ينط قلبه السقيم في واحات الذكرى المعشوشبة كريم طليق، تستيقظ في مقلتيه الزائغتين عصافير اللهفة الناعمة ريشها، ويتذكر كل شيء. قريته الوديعة الرابضة عند سفح الجبل، المستكينة لمشيئة الإله، وأسرته الطيبة السخية، وأترابه الأوفياء الذين ربطتهم به أواصر الصداقة كحبل متين، ولازموه طيلة فترة عنفوان شبابه. لقد أغدقهم بوابل من الإحترام، والتقدير، والحب، وما زال يتذكرهم واحدا واحدا.

لقد ركض بقدميه الجريئتين فوق الثرى المعزز، وتسامق بقامته نحو غد أفضل لامع، أحب الوطن، أمه الثانية، وعشقه إلى حد الغرام.

ولكن الصدمة العنيفة دفعته لأن يترك وطنه الملفوف في ديباجة من حرير، لقد اعترفت فتاة أحلامه بخيانتها النكراء مع شاب وسيم ثري تنحني له الرؤوس، ويشار إليه بالأصبع، قيل أنها تدوس على المشاعر الناصعة كأعقاب سيجارة رخيصة، وتسرف إسرافا فظيعا في ولعها اللاعقلاني بالمال، إعترافها المر الحنظلي سمم بدنه واعتصر فؤاده الهاجع في عش الأمن والسلم، أرغد وأزبد فتطايرت شرارات الجنون منه، وتوعدها بالانتقام البشع الذي لا رجعة فيه.

اليوم بالذات خمدت ثائرته كالرماد، وتساءل مشدوها:كيف ألطخ يدي الطاهرتين بدم نجس، وأقضي بقية العمر وراء القضبان الحديدية لا يزورني دفء شمس، ولا وهج قمر، ولا ترنيمة طير؟

أيادي الشوق تهزه هزا لطيفا، تسكره رياحين السعادة في الأوج، ويتمتم بافتخار كبير:سأعود إلى وطني الغالي الحبيب، سأعود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى