الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩

أسوار الخوف

بقلم: رمضان حينوني

ها أنت ذي عند موعدك.. وقفت عند بابي العظيم مبهورة خائفة، تتأملين أطرافه الغريبة، وتتساءلين: أتراني عند باب منزله، أم أمام سجن بربروس؟ وأجيبك من حيث لا تسمعين: أنت عند بابي!

وتمتد أناملك الرقيقة كقطع من الحلوى إلى الحديد، وفيها ارتعاش يغذيه خوفك.. تترددين في دقه، وقد تعاظمت حيرتك، وتولد عنها قلق كبير.

 دقي.. لا تترددي، هيا افعلي!

تصطدم يدك الشكلاطية بالصلب المضاعف، كأنما سمعت تشجيعي، لكنك تستبعدين وصول طقيطقاتك إلى مسمعي.. بل ربما تستبعدبن أن أسمع انفجار قنبلة عبر هذا السمك الرهيب.

وعندما تتعبين من الطرق، تبتعدين قليلا عن الباب، وتعيدين التأمل في هذا السور الغريب الذي أسكنه، فتكذبين من يقول لك إنني أستعمله كما يستعمل أي إنسان بيته.

ها أنت ذي تطأطئين رأسك من فرط التعب.. إنك لا تفهمين شيئا. وهذه دقائق كثيرة مرت وأنت عند بابي.. ضعيفة لا تقدرين على الدخول، ويخيفك المنظر، وتفكرين في الانصراف إعلانا عن الفشل في الصمود أمام المشاهد الغريبة.

وتسمعين من أعماقك صوتا يقول: انتظري، لا تيأسي.. تقدمي من هنا.. أيمني قليلا.. توقفي.. أنت الآن أمام نافذة البيت الوحيدة، ليست من حديد بل من خشب عتيد.. مدي يديك وادفعي دفتيها...
وتفتحين نافذتي، فلا ترين غير عظام وشعر وبقايا صور نساء تدققن طبول الأعراس لليل دائم الامتداد! وتتراجعين مذعورة: ما هذا؟ قلت، أي بيت هذا؟

إنها تبدو حجرة لا ترى شعاع النور أبدا، ولو دخلت البيت الرحيب، ومشيت في الرواق الطويل الذي لا ينتهي إلا حين تسقطين تعبا، لاهثة كطفل أعياه رعب وراءه، ولو فتحت كل باب على حدة لرأيت وسمعت الكثير.

عودي إلى الباب، فسأخفف وزنه من أجلك..
تمشين ببطء شديد، وفي عينيك ندم غزير، وفي قلبك " بندير " شيطان لا يتوقف.. خطاك متثاقلة كأنما تحمل أغلالا من الفولاذ، وشجاعتك تتآكل كأن أمتارا قليلة تفصلك عن حبل المشنقة، وحرارتك تجمع الدم في وجنتيك، وما زلت هنا!

تقتربين من الباب.. وتتمكنين هذه المرة من دفع القناطير المقنطرة من الحديد، ثم تقفين وفي عينيك استياء، وفي نفسك ما يفوق الغرابة. وتسمعين عن بعد رجائي: كوني شجاعة، ولا تقفي عند البداية.. أدخلي تاركة بعض خوفك خارج داري، فأنا لا أحب الصراخ والبكاء.. وإذا تساقطت دموعك على أرضية بيتي، ستشعل نارا، والباب الآن مغلق، والنافذة التي كانت من خشب صارت هي الأخرى من حديد، ولا نوافذ إضافية عندي!

تقدمي.. هذا رواق يوصل إلى الحديقة المظلمة، وقبل أن تستمتعي فيها بجلسة، سأجعلك تتفرجين على قصري.

ها أنت عند أول حجرة، وعبثا تحاولين إنارتها بمداعبة الجدار في مدخلها.. ليس مهما، تقدمي أكثر.. هذه التي تبدو مثل عيون أفاعي هي أعقاب سجائر لا تنطفئ، والطقطقة الخفيفة التي تسمعين هي أغاني ترحب بقدومك، فانحني للجوقة! وهذا النسناس الذي يقترب منك كما تبتعدين عنه هو مضيفي وخادمي؛ فكفاك نفورا منه.. صحيح أنه مشوه الخلقة لكنه طيب إلى أقصى الحدود، وأحمق أيضا، هاهو يحمل إليك خمرا، وقد قلت له أن زائرتي لا تشرب الخمر..

أعرف مقدار رعبك واضطرابك، وأن قلبك يكاد يغير مسكنه، ولكن ثقي أنك تبالغين؛ فأنا لم أدعك للخوف، ولكن للتمتع بجمال قصري..

أخرجي الآن لتري حجرة أخرى.. لا تسألي عن هذا الذي يرافقك كظلك، إنه الشق، وقد دربته على التزام الهدوء وترك الأذى، إنه الآن مخلوق مسالم جدا. ها هو يمد إليك يده الوحيدة مشيرا إلى الغرفة المظلمة الموالية..

هذا الذي ترينه في يمينك شيخ كبير يسهر على تسيير الأمور هنا، فهي مضبوطة كساعة سويسرية.. وهذه الأشياء التي على شمالك هدايا الأصدقاء: أنياب ذئاب، ومخالب نمور، وسموم أفاعي، وأشياء أخرى متنوعة عليها خواتم أصحابها وفق الأصول الحضارية.

إني أراك تكادين تنهارين، وأنا لا أريد من وراء الجولة سوى إدخال نوع من الغبطة على نفسك بمناسبة هذه الزيارة الكريمة.

حسنا.. سأختصر الطريق..
ستدخلين حجرة أخيرة، وتبحثين فيها عن مصدر النور وتعيدي الحياة إلى قصري. هيا تشجعي.. خطوة أخيرة وستهدأ المعركة العنيفة داخل نفسك.

تتقدمين وشعور بالانهيار ينتابك، لكنك ما تزالين تحتفظين بشيء من الطاقة، تجرجرين بها قدميك المسترخيتين، لكنك فجأة تحولينها صرخة مدوية منك: أين أنت لتخلصني من هذا القبر الشاسع الموحش؟

ومباشرة بعد انفجار صوتك، تغمضين عينيك أمام نور بيتي، ثم قليلا قليلا تفتحينهما وتتأملين المكان..مكتبي على اليمين فوقه أوراق ومصباح، ومكتبة تئن من ثقل الكتب، وبساط أرضي يضفي الروعة على المكان.. وتسرعين إلى حجرة سابقة فتجدين أستارا حريرية يعبث بها هواء خفيف، وفراش نوم وثير، وأثاثا مرتبا. وتدخلين أخرى فترين فيها مطبخا فاخرا به شواء وفواكه. ثم تركضين إلى آخر الرواق حيث الحديقة الغناء فترين ضيوفا يتحدثون و يتضاحكون، وتلتفتين إلى الباب فتدركين أنه خشبي صغير، وإنسي يقف بمحاذاته باسم الوجه، رحب الصدر، طبيعي المنظر، ينتظر آخر ضيف هو.. أنت!

وتسألين عن هذه الألغاز كلها، وتشعرين كأنك كنت في كهف من كهوف الهنود الحمر؛ لكنني أقول لك بعد عبارات الترحيب الرقيقة: ذلك أنك كنت خائفة فقط من دخول بيتي!

بقلم: رمضان حينوني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى