السبت ٢٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩

واقع النقد الأدبي في الجزائر مساره وإشكالاته

بقلم: بلـــوافي مَحمد

تمهيد:

إن المتتبع والمهتم بالحركة الأدبية في بلادنا، سيلاحظ في يسر، كثرة الكلام عن أزمة النقد الأدبي. ومن غير شك إنّ لهذا الكلام جذوراً، كما أن هناك اختلافاً في طبيعة الأزمة ذاتها وفي تحديد هذه الجذور.

ومن خلال المتابعة والتمحيص للمنتج الأدبي، الحاصل على مستوى الساحة الجزائرية، وما تعج به من دراسة نقدية، وتحليلات نصية، من مختلف الأشكال والأجناس الأدبية، يتضح أن هناك حركة النقدية مسايرة تتماشى تبعاً للتطور الإبداعي، والمسار الفني الذي بلغ إليه النص الأدبي، والمثقف الجزائري في ذات الوقت ـ كالعمل الروائي الأخير والجديد في نفس الوقت للروائي لحبيب السايح، والذي صدر وتصدر السنة الجديدة 2009،"مذنبون لون دمهم في كفي"ـ سواء أكان ذلك على مستوى العملية الإبداعية أوالعملية النقدية ذاتها وبحدودها، أوتعلق الأمر بآلياتها الإجرائية وتوظيفها،

وكما هومعلوم فإن الحديث عن النقد الأدبي في الجزائر؛ يضم قضايا متعددة، لعل أبرزها قضية الوعي النقدي ومدى تمثله وتجسده في الممارسة.

إن الطرح الموضوعي لهذه الإشكالية النقدية طرح شاق تعترضه الإنزلاقات الفكرية، التي تحكم سواء بوعي أوبغير وعي، المنهج البحثي في الممارسة النقدية

فالنقد استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية، ولضروب المعرفة، في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب

ولذلك فان هذه الدراسة، تقتضي منا إزالة كل ما يمكن أن يحيط به من لبس أوغموض، وبالتالي، لا بد من:

 تحديد دقيق لحدود إشكالية النقدية في الجزائر.

 إبراز الترابط المنطقي بين الوعي الفكري والأدبي بين الممارسة النقدية ومسألة النص الإبداعي، على ضوء المناهج النقدية المتعارف عليها، على المساحة الأدبية.

وإلقاء الضوء على طبيعة الممارسة النقدية في الجزائر، يقودنا إلى الكشف عن الوعي الأدبي وتأرجحه بين الذاتية والموضوعية، وذلك يخضع لتباين مستوى الفكري والثقافي عند النقاد، ولعل التباين بين الممارسات النقدية يعود إلى التباين في مستوى الوعي المصاحب لكل عمل نقدي.

لأجل ذلك، سعت هذه الدراسة في محاولة إلى إضاءة الوعي النقدي، الذي يسعى بدوره إلى إضاءة الوعي الأدبي، لأن الدب بحث، والنقد بحث عن هذا البحث، وذلك من خلال المتابعة والاهتمام بطبيعة الممارسة النقدية في الجزائر وتبين المناهج البارزة على الساحة النقدية، واستيضاح أهم قضايا ورؤى النقد الأدبي الجزائري الراهن، ومدى مشاركة النقاد في دفع حركة الأدبية نحوالتطور والتجديد، وإثراء الرصد الأفقي لظواهر الحياة الأدبية والفكرية. لمعرفة الأسس والمواقف والرؤى التي يعمل على ضوئها الناقد والأديب.

مسـاره وارتباطاته

إن النقد الأدبي في حد ذاته؛ إنما يسعى إلى"معرفة الصور الجمالية، للقطعة الأدبية، وتقدير الصفات الأساسية التي يجب توفرها ليكون النص أثراً فنياً خالدا"1، وهويمتد في بعده إلى زمن قديم جدا، إذ يمكننا أن نربط بدايات تشكّله الأولى باليونان، حيث تجلّى الاهتمام ‏واضحا بالعملية النقدية معهم، خاصة بعد ظهور أطروحات «أفلاطون"وتلميذه «أرسطو» فيما ارتبط منها بـ"نظرية المحاكاة"التي حاولت ‏تفسير ما ينْظُمه الشعراء في مختلف الأنواع الأدبية من ملاحم ومسرحيات وغيرها، فاعتبر «أفلاطون"أن ما يقوم به الشعراء ‏إنما هوتشويه لما هوكائن -الطبيعة، في حين رأى «أرسطو» بأن هذه"المحاكاة"لا تقف عند حدود ما هوكائن، بل تتعداه لما ينبغي أن يكون، ولأجل ذلك كان لا بدّ من الاهتمام بتلك الأعمال وتحليلها ‏لمعرفة مواطن الجمال فيها، وقد أولى «أرسطو» عناية كبرى للشعر والإبداع من خلال ما أسماه"نظرية التطهير"التي تناقش فكرة التأثير الذي يحدثه ‏الإبداع في نفسية المتلقي.

بينما ارتبط النقد عند النقاد العرب"القدامى"، ارتباطا وثيقا بالبحث عن سرّ الجمال والإعجاز في القرآن الكريم، وعلى ‏ضوء مختلف الدراسات التي تناولت هذا الأخير في جوانبه المختلفة؛ اللفظية والنحوية والتركيبية والدلالية والنظمية، تم ‏وضع الكثير من المبادئ والأسس لتحليل وتقييم الإبداع، غير أن بدايات هذا النقد العربي كانت في أكثرها أحكاما ‏ذوقية، انطباعية، ناتجة عن التأثر بالنص، ولا تقدم تعليلا إلا فيما ندر.

أي أن المفهوم اللغوي للنقد؛ كان متعلقاً بتميز الجيد من الرديء، وهكذا ألقى هذا المعنى بظلاله على المعنى الاصطلاحي، إلا أن النقد العربي تطور بعد ذلك، وبدت تظهر ملامحه مع ظهور كتاب"طبقات فحول الشعراء"لأبن سلام الجمحي، كما يمكن القول أن النقد العربي القديم بل ذروته مع أعمال عبد القاهر الجرجاني.

كان مجيء النقد الأدبي الحديث والمعاصر سدا لهذه الثغرة في تاريخ النقد الأدبي وتجاوزا مؤسسا للأفكار النقدية ‏القديمة، فظهرت علوم متنوعة وأنواع أدبية ‏جديدة، واكبها أيضا ظهور كثير من المناهج النقدية، والتي تسلحت بكثير من الأسس العلمية والفلسفية والنفسية والاجتماعية، من أجل إيجاد نقد يتسم بالموضوعية، أوعلى الأقل يسعى لأن ‏يكون موضوعيا في تحليلاته، فكان من آثار ذلك أن تعددت زوايا النظر للإبداع وظهر في الساحة النقدية ما يعرف باسم"المناهج السياقية"‏كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي، والتي تحاول قراءة النص من خارجه، وأخرى عرفت باسم"المناهج النسقية"، والتي ‏تشتغل على بنية النص الإبداعي؛ كاللغة، البنية، النظام، العلامة، الرمز، ومن بينها"البنيوية"و"الأسلوبية"و"السيميائية".2

فظهرت في الساحة الأدبية وجوه تحاول أن تتجاوز النقد التقليدي، والاستفادة منه في الوقت ذاته، على غرار ما قاله"سارتر": بضرورة أن يختار المرء الموجود لا الكائن بين ما تطرحه أمامه الحياة من خيارات"، جاء ليعمق فكرة الالتزام بالموقف، بالرغم مما يصحب ذلك الاختيار من قلق على ما يختار وندم على ما يترك.

كما انه وإن كان لكل زمنٍ موجته الغالبة فإن الدارس لن يكون في غنى عن الوعي بالامتداد التاريخي، وبالأصول المتغيرة.

من هنا يكون الجمع بين القديم والحديث، والحداثى، في النقد الأدبي مهمة غير يسيرة، لكنها ليست مستحيلة، وذلك إذا استدلت الممارسة على نقاط الارتكاز الأساسية في كل عصر.

كما أن جل الأعمال النقدية في الجزائر، قد بدأت بأسلوب أكاديمي كلاسيكي، كأعمال"محمد مصايف"و"عبد الله ركيبي".‏ ولكنها مرحلة طبيعية لا يسعنا إلاّ أن نقدر مجهودات الذين ساهموا فيها.

إلاّ أن ما يغلب على محاولاتها الجيل الجديد، أنها تنحوفي معظم الأحيان منحى نظرياً يبدوفيه اطلاع كبير على أحدث النظريات النقدية كالبنيوية مثلاً، غير أن الصلة بالنظريات المعاصرة بقيت على صعيد التنظير واجترار التنظير.‏

واستمرت العربية في زمانهم تصارع وتجاهد، لتفرض حضورها في الساحة الأدبية، في خضم الواقع الزاخر بالمتناقضات، وكثرة الألوان واللهجات العامية، وانقسام الناس ما بين فرانكوفوني وعامي، وذلك ولوبتغليب الدلالة الاجتماعية، وإن تم الاعتراف بالدلالة الاجتماعية للأدب منذ القديم، صراحة أوضمناً، إلا أن التنظير لوجودها على نحوفلسفي أعمق، لم يحصل إلاّ في العصر الحديث. وربما كان لحركات التحرر دور كبير في حمل الأديب على الالتزام بقضايا أمته.

فسيظل المبدأ الأدبي، مدخلا طبيعيا لنقد أي عمل إبداع، ذلك لأن المادة الأدبية هي البوابة الرئيسة الخاصة بالعبور إلى فضاءات الإنتاج الأدبي، والعنصر الأساس المساعد لنا على كشف ما يزخر به هذا الإنتاج من عمق فكري وفني وروحي، وبالتالي الوقوف على أبعاده ومدى قوته التواصلية.

المنهج النقدي وآليــاته

يلاحظ الدارس والمتتبع للحركة النقدية -في الجزائر- كثرة تنوع المناهج النقدية، والتي تطبق من أثناء الممارسة النقدية، قد يؤدي هذا التنوع والتعدد في شموليته إلى الخلط أوالتداخل فيما بينها خلال العملية النقدية، منها المنهج التحليلي، المنهج اللغوي، المنهج النفسي، المنهج الجمالي، المنهج التاريخي، المنهج الاجتماعي، المنهج العلمي والموضوعي وغيرها من المناهج المتصارعة فيما بينها.

أمام تنوع المناهج النقدية المعتمدة من طرف النقاد والباحثين، نرى أن الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب لنقد أي أثر إبداعي، يقتضي العودة إلى ما يشتمل عليه هذا الأثر من خطاب، وذلك لضبط أهم مرتكزاته، وهذه العودة من شأنها أن تساعد الناقد على تحديد دعائم المنهج النقدي الملائم، الذي بإمكانه أن يفي بممارسة نقدية علمية، مستوحاة أصلا من طبيعة العمل الأدبي المنقود،

فالمناهج النقدية مثل الأدب، ترتكز بدوره على عدة خبرات واليات مكتسبة، فما هي في الأصل إلا وسائل وأدوات، تطورت واستخلصت، تساعد على سبر أغوار النص الأدبي، وليست غاية في حد ذاتها،

ففي البداية كان"الخطاب الأدبي"وبعد ذلك لحقت به"الممارسة النقدية"، ثم لازمته وتطورت إلى مناهج، فأصبح النقد الأدبي؛ لحظة وعي مسخرة تعمد إلى تفكيك النص وهدمه، لمعرفة بنيته، ومن ثم تعيد بنائه وتركيبه، بغية البحث عن غاية الكاتب ومقاصده، واستقصاء تجليات ذاته، واقتفاء تأثير خطابه، ثم ضبط الوعي في الأشياء، واستقراء الظواهر والفضاءات، وكذلك إزالة النقاب عن العلاقات الخفية في قلب الخطاب الأدبي

وهي بالتالي قراءات متكاملة رأت النور بفضل الأدب وقوته الإيحائية. ولا شك أن منطلقها العلمي؛ إنما هومحاولة إنجاز قراءة دقيقة، يطرح الناقد في مختلف أطوارها أسئلة جد مركزة، بقصد أن يصل إلى إجابات وافية محددة، وبهدف أن يفتح بها آفاقا جديدة وفضاءات مغمورة في أجواء العمل الأدبي المنقود، مستعينا في سبيل ذلك بخلاصة ما انتهى إليه من قراءات منهجية.

إلا أنه حتى الآن لم يبلغ النقد اكتساب الصفة العلمية بالمعنى الصحيح والدقيق، إذ على الرغم من وجود الاتجاهات النقدية الجديدة، كالبنيوية والأسلوبية، فإن أي نص إبداعي سيظل يحتفظ بجملة عناصر لا سبيل إلى استقرائها إلا باعتماد ذوق وحس لغوي عند الناقد. ولكن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا أهمية النقد المنهجي.

بناء على ذلك كله، نظن أنه من الراجح والأجدر أن يستقر الرأي بالناقد على توظيف منهج نقدي مركب ومتكامل، تحدث عدد من النقاد والباحثين، ونذكر من بينهم على سبيل المثال: سيد قطب، وشوقي ضيف، ويوسف الشاروني، وعمر محمد الطالب....، بشرط أن يرتكز على وسائل متعددة ويقصد إلى هدف واحد، وبشرط أن يكون الناقد مؤمنا بضرورة الاستفادة من المناهج النقدية المختلفة في نقد العمل الأدبي، لأن الاكتفاء بمنهج واحد لن يفضي بالناقد إلى الغاية المنشودة.

أن المنهج التكاملي، يمثل أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والدينية وغيرها، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهوالارتكاز على رؤية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية، وهذا الخيار يسمح للناقد بممارسة وتوظيف قراءة نقدية عميقة، دون إغفال، أوإقصاء لأي مكون من مكونات النص.

العمـل الإبداعي والمنهج الـنقدي

إذن فإن الأعمال الأدبية في حد ذاتها تمثل النبع، الذي تتولد منه المناهج النقدية، والبوابة التي تمكن من النفاذ إلى جوهرها، وحسب ما نرى لن يستطيع أي منهج نقدي بمفرده أن يوفي أي عمل إبداعي حقه من النقد السليم، لأن الناقد سينظر من خلاله إلى الأثر الأدبي المنقود نظرة جزئية، في حين سيهمل الجوانب الأخرى، خاصة إذا استحضرنا في أذهاننا ونفوسنا، خصوصيات كل عمل إبداعي، وما له من امتداد في الزمن، وسعة في المكان، وواقع في اللغة.

إن منتهى القصد في هذا الباب، هوأن الأصل في مهمة الناقد كامن في اجتهاده ما وسعه الاجتهاد في نقد العمل الأدبي بأقصى ما يمكن من الإحاطة العميقة به، دون الاستسلام للسطحية، وذلك بالاعتماد والاستفادة مما سبق في مختلف المناهج، من تكامل على مستوى الأدوات الإجرائية، ومما انتهت إليه من نتائج علمية، وما بلغته من عصارة وحقائق.3

النــاتج الأدبي والممـارسة النقدية

إن النقد الجزائري المعاصر، قد عرف تحولاً في المفاهيم التي صارت غير قابلة وغير قادرة على مسايرة العصر ومواكبة تغيراته وتطوراته السريعة ومقتضياته، في ضوء ما يرى الدكتور عز الدين مخزومي بجامعة وهران، وذلك على غرار ما قد نراه في بلدان عربية أخرى، والتي تحاول بدورها أن تساير الركب، في ظل عولمة سيطرت على الفكر العالمي..

لأن نضج النقد الأدبي خاصة يرتبط بتحقيق نهضة ثقافية شاملة، والنضج في المجال الثقافي، بدوره مرهون بمشروع التحويل الذي لم يكتمل في جميع الميادين.‏

مع أن البلد والفترة التي أنجبت جيلاً من الأدباء يكتبون باللغة العربية، في ظل الظروف الملمة والصعوبات المحيطة، واستطاعوا أن ينتجوا نصاً أدبياً يرتقي ويتسامى فوق كل تلك الظروف، لكفيلة بأن تنجب جيلاً من النقاد أيضاً، يواكبون التطور الأدبي الحاصل، لأن الولادة في ميدان النقد عسيرة وبطيئة ولأن نضج العمل النقدي يتطلب معرفة علمية وفلسفية عميقة كما يتطلب ممارسة منتظمة طويلة.‏

ومن الواضح أن الأدب الجزائري المكتوب بالعربية، في البداية، إنما كان تابعاً لأحداث حرب التحرير المتسارعة، على حد تعبير"محمد العيد خليفة"أن ثورة الشعب هي التي أنتجت ثورة الشعر، مما جعل الأناشيد الشعرية الوطنية تتصدر الموقف الأدبي في نظم حماسي يستمد شرعيته من هول الحدث أكثر مما يستمدها من طبيعته الفنية.‏

وربما حتى نتاج فترة الاستقلال كان أدعى إلى الميل نحوكتابة الفن القصصي، لما فيها من هدوء نسبي، لكن ظل موضوع الثورة يهيم بظلاله على أغلب النصوص.، سواء من باب الحنين فالاستحضار فالوصف، أومن باب الحنين فالنقد.

فروايات"كالمؤامرة"لمحمد مصايف، وهموم"الزمن الفلاقي"لمحمد مفلاح مثلاً، لم تتعدى الوصف بهدف التغني بمجد صنعناه. بينما"التفكك"لرشيد بوجدرة أو"اللاز"للطاهر وطار أوريح الجنوب لابن هدوقة، من الكتابات التي لم تبق في حدود التعاطف والوصف، بل تجاوزت ذلك إلى النقد.‏

فمنذ بروز الحركة الوطنية كانت الأولوية -دوماً- للخطاب السياسي الأيديولوجي، كما عبر عن ذلك الدكتور مخلوف عامر - جامعة سعيدة-، بقوله:"أن الحركة الأدبية في الجزائر، مرتبطة بالخطاب السياسي منذ عشرينيات القرن الماضي على الأقل".

فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كانت حركة بعث وإحياء، عملت على توظيف الأدوات المتاحة بما فيها اللغة، لخدمة القيم الذاتية، وأغراضها

فلم يكن أدباءها يهتمون بالناحية الجمالية، بقدر ما كانوا يهتمون بالدلالة السياسية والاجتماعية في كتاباتهم. فبقي الشعر في حدود القوالب التقليدية، وتخلّف عن شعر المهجر وتجديداته، ونال فن المقالة الحظّ الأوفر من الكتابة النثرية ثم كان المقال القصصي -فيما بعد- أقصى ما بلغه الفن القصصي قبل حرب التحرير.‏

أمّا ما كتب خلال الحرب بالعربية، لم يكن يلعب دوراً ريادياً أوقيادياً، لا لأن أحداث الحرب بطبيعتها أقوى وقعاً من التأثير الأدبي، ولا لأن تسارع الأحداث لا يتناسب مع ما تقتضيه عملية الكتابة من بطء وطول اختمار، بل أيضاً لأن الحرب من حيث هي مضمون واقعي تحرري، نضجت ظروفها بفعل تراكمات الماضي بما عرفه من مقاومات شعبية وبفعل المد التحرري العالمي. بينما لم تتخلص الأشكال الأدبية من بنياتها التقليدية وبقيت في حدود المواكبة والتسجيل والاستجابة العاطفية.‏

بينما يبدوأن الحركة الأدبية الجديدة مقطوعة الصلة بسابقتها أوكأن المجددين لا يستندون إلى أدب الحركة الوطنية، بقدر ما يستندون إلى الأدب المشرقي والعالمي الوافدين عبر الكتب والمجلات وبعثات المتعاونين في قطاع التربية والتعليم، لأنه"قليلا ما يقنع النقاد بما سجله السلف في ميدانهم، فيحاولون الخروج على الأساليب المتوارثة، وذلك باستخدام الكير من أسباب التطور العقل الحديث، في تقويم الأثر الأدبي، والواقع أنه منذ بدأ النقد المنهجي وجميع النقاد يبحثون عن أمثلة شكل للمعرفة يمكن تسليطه على الدب لتقويمه".4

إن الجيل الشاب الذي أتى بعد جيل الشيوخ –"الذين لا أجد تقييماً لهم، أدق مما قاله عنهم حمود رمضان: إنهم بلّغوا تلك الأمانة التي استودعت في أيديهم إلى أيدينا بغير خيانة ولا تقصير لا أكثر ولا أقل، والأمانة هي اللغة العربية لا غير".5‏

كان هدفه نبيلا،لكنه كان واقعا تحت نزعة الموضة والمخالفة القشرية، على غرار ما قاله د.إبراهيم رماني في مقال بعنوان ز من النقد، واصفاً إياه بقوله:"زمن الحوار والاستقراء لذاكرة الموروث والتأسيس، زمن المراجعة الكلية وإلغاء الأطر المرجعية المسبقة، نفي الأحكام الجاهزة، ومواجهة النص عاريا من كل ملابساته وشوائبه، التي تخفي حقيقته التي ترسبت في ذاكرة القارئ، بفعل الإلحاح عليها، زمن جديد لا يتكئ على آراء غيره أويستند إلى أحكام الآخرين، ولا يشفع لهذا النص أوذاك بشهادة ناقد كبير أوأستاذ معروف، لان الشهادة الصحيحة في التاريخ الأدبي المكتفية بذاتها؛ هي النص كبنية لها وجود متكامل داخليا وخارجيا"6.

ففي نهاية السبعينات بدأت موجة الدراسات البنيوية تغزوحقل القراءة العربية، وذلك من خلال مجلة فصول النقدية، التي أسهمت مساهمة معروفة، في الإشهار لهذا المذهب النقدي، فتحولت أعمال رولان بارط وغيره، إلى علامات راشدة للنقد.

كما أن في التسعينات ظهرت موجة جديدة في الرواية الجزائرية، تحررت من اسر الطابع الكلاسيكي للرواية القديمة، لتعبر عن انسداد الواقع السياسي، وكذا الاجتماعي والاقتصادي، محاولة نقده من زوايا إيديولوجيا متباينة ومختلفة،

لكن الحركة النقدية أوالتجربة النقدية، وبالرغم من التطور الحاصل، نجدها قد بقيت تعاني من عيوب في التأصل النقدي، أوالمنهج النقدي، الذي يقوم على أساس الوعي الذاتي بمختلف القيم الحضارية، والفكرية، موازنة ومراعاة لمختلف الظروف الاجتماعية، الثقافية، بحيث لم يعد أداة سهلة في يد كل متتبع الحركة الإبداعية الحاصلة على مستوى الساحة.

كما أنه من خلال الدراسة والمتابعة، لعدة أعمال روائية حديثة، يتضح اشتراكها في عدة صفات تجمعها، كما يوضح ذلك الأستاذ جعفر يايوش: منها ظاهرة تكسير اللغة، أواختلاط اللهجات الدارجة والعامية والفصحى والأجنبية، بغية الوصول على عامة الناس والتعبير عن الواقع بصورة أكثر مصداقية، كذلك ظاهرة التلاعب بالأزمنة، بالانتقال من زمن إلى أخر عبر تقنية تكسير خطية السرد، وتعدد الشخصيات الروائية، واختفاء الشخصية المحورية المنفردة والحدث الرئيسي المحرك للنص.....

إشكــاليات الــنقد

ويبقي علينا معرفة الإشكال الذي نعاني منه وتشخيصه، بغية الوقوف عليه والخروج بالنقد والإنتاج الأدبي عامة، من دائرة الاجترار والتقليد الميت، التطبيع ألا عقلاني، إلى دائرة التصنيف العالمي ومراتب أرقى، لنصل إلى نقد بناء يسعى إلى معالجة الأثار الأدبية علاجاً منظماً، يكشف عن أفكارها وقيمها، ويجيب عن شتى الأسئلة التي تدور حول الصلة بين الأدب وحياة الأديب وعلاقته بالمجتمع.

فيمكن أن نلخص فيما يلي تلك المشاكل، ونصنفها على حسب طبيعتها:

 في الوقت الذي أجده قد استفاد من خلال الانفتاح على قيم الأخر، وثقافته وتطلعاته، إلى حد التطبيع الفكري، والتقليد للمنتج الغربي، الذي يمثل معايير النقد العالمي، والذي لا يتمثل في شيء من ثقافتنا، أومورثنا، أوحتى واقعنا الذي يعج بالتناقضات مع التأصل والثقافة الغربية، أوحتى مراعاة الصراع الذي نتخبط فيه؛ بين موروث يحاول أن يفرض نفسه، وجديد مرغوب فيه، ويتضح خصوصا هذا الصراع والتخبط، في التنوع والتعدد في المفاهيم بين مصطلحات مستمدة من الموروث الشرقي وأخرى مستوردة من المفهوم الغربي، وثالثة ابنة للمنطقة، كما هوجلي في الدراسات النقدية الأكاديمية، والتي تمثل أكبر منتج للعملية النقدية في الجزائر.

 وقد تكون المشكلة عندنا، ذات طبيعة أخرى، تتجسد في قلة المهتمين بالمجال النقدي مقارنة بحركة الكتابة الإبداعية والتأليف، إذ باستثناء جهود محمد مصايف وعبد الله ركيبي التي بقيت في حدود المدرسة التقليدية، وبصرف النظر عن الدراسات الأكاديمية التي لم تر النور بعد، فإن وجوهاً قليلة جداً يمكن أن يعوّل عليها مستقبلاً، إذ أن الأدبيين لا يقبلون على المحاولات النقدية، وإذا هموا بها، وأقبلوا عليها في بداياتهم، فإنهم سرعان ما ينصرفون إلى كتابة القصة أوالرواية أوالشعر، كما انقطع محمد ساري إلى تجريب الكتابة الروائية، مع أنّ مساهماته النقدية تشهد له بحضور متميز.‏

 وهناك من ينظر للقضية من زاوية أخرى على سبيل المثال الأستاذ"محمد بشير بويجرة"جامعة وهران، حيث يرى أن الإشكال في المسار النقدي والأدبي في الساحة الجزائرية، إنما هوإشكال لغة، لكونها عرفت أوضاعا خاصة لم تعرفها بقيت الأقطار العربية الأخرى.

 غياب التخصص:وهذا أمر واضح في كل الكتب النقدية الجزائري، فثمة ما قد نسميه النقد الجامع؛ أي الذي يجمع النصوص الأدبية كلها، ولا يضع أمامه شكلا معينا منها، وهكذا تجد كتابا واحدا يحتوي مقالات نقدية، في أشكال أدبية متعددة:القصة، الشعر، الرواية،دون أن يشكل ذلك حرجا لصاحبه.

 وقد يكون المشكل وفي ظل غياب التخصص، يعود إلى طبيعة الدراسة النصية، أوالممارسة النقدية، إذ تعمد إلى فرض منهج نقدي على عمل أوإنتاج أدبي لا يتماشى وإياه، دون فحص أوتمحيص، وإشكالية الضبط المنهجي لمفهوم الممارسة النقدية لا تنطبق على النقد في الجزائر فقط، وإنما على واقع النقد العربي بكامله.

فالضبط المنهجي يقوم على الوعي النقدي الذي يتأصل ويتبلور نتيجة الوعي بالذات، وهوأساس مقومات الشخصية المتشكلة من القيم الحضارية والفكرية والدينية للأمة".7

ونحن من هذا المنطلق وهذا الاقتناع، نعتقد بأن فرض منهج نقدي، هوعمل غير صائب، وخطوة لا تندرج ضمن المبادئ العلمية السليمة، خاصة ونحن الآن في وقت لم يعد الأمر فيها، مجرد تجريب زخم من الرؤى أوالأدوات النقدية، التي أفرزتها جملة من المناهج الغربية على نتاج الأدب العربي الإسلامي.

إن فرض أي منهج بالقوة على خطاب أي عمل أدبي عربي، كفيل بتكريس عملية أومعالجة نقدية منحرفة، ومن شأنه كذلك أن يسفر عن لغة واصفة عقيمة، ومن المؤكد أن أي عمل أدبي نابع من صميم البيئة العربية يظل مغتربا، بل ويتم إلغاؤه وطمس أسئلة الذات الكاتبة والمنتجة له، عندما يصير تباهي الناقد العربي بالمفاهيم والمناهج النظرية الغربية غشاوة سميكة، تحول بينه وبين الاهتمام بالعمل الإبداعي، والإنصات إلى الأصوات والأصداء المترددة فيه، مما يجعله بعيدا كل البعد عن تقديره حق قدره8.

 الاعتباطية في توظيف المصطلحات، ذات المحمولات الفلسفية والأدبية، كاستعمال الحداثة مرادفا للحديث، وعدم احتواء المفاهيم، كمعنى"الأدبية"على سبيل المثال، فقد أسهمت في إقصاء نصوص عدة من الدراسة الممكنة طالما أن هذه النصوص خرجت عن معيار الأدبية الذي يجري فيه هوى البعض 9.

 المفارقة لدى الناقد أوالدارس، بين الجانب النظري والجانب العملي، بين امتلاك الجانب النظري والمعطيات والمفاهيم النظرية، وكيفية تطبيقها وتطويعها أثناء إنزالها إلى ميدان الممارسة العملية.

وهذا ما يشهده الواقع الأدبي، فالنقاد والمحللون يعمدوا إلى إفراغ كل ما لديهم من معلومات وما تم الاطلاع عليه من نظرايات، دونما مراعاة لمتطلبات الحال والواقع الفكري، ودرجة التثقف أوالتخلف في المجتمع، مما يجعلهم يجنحون في أفاق بعيدة.

قال المفكر الناقد حسين مروة، ليمنى العيد"نحن بحاجة إلى ممارسات نقدية، لا إلى نظريات في النقد وعظية لنكتب نقداً، ولنترك الآن مهمة تحديد أصول النقد ومنهجه، وواجبات الناقد، ما عليه أن يقول وما عليه أن يدع....... يومئذ يصبح عندنا إنتاج نقدي، يصبح بإمكاننا أن نستنتج كل هذه المقولات النظرية، وبشكل أصدق"10.

لا أحد منا ينكر أهمية النظرية والتنظير، ولا ننكر دورها في العملية، فالممارسة بدونها عمياء لا تهتدي إلى الطريق السوي ولكن النظرية هي الأخرى في غياب الممارسة تبقى عرجاء.‏ ولكن لابد أن ندرك ونعي ما نقرا، ونعرف ماذا نكتب وكيف نكتب. فالخطر كل الخطر في الولوع بما هونظري أن يتحول إلى لعبة ذهنية تصبح متكأ للتلذذ والمباهاة والاستعلاء، وقد تصبح في أحسن الأحوال مطية لتلقين دروس للمتلقي بشكل تعليمي مفضوح.‏ وقد يعزى ذلك إلى الانبهار بالنظريات المستجدة على الساحة الأدبية، عربياً وعالمياً.

إذ لا يفترض بالناقد العملي أوالتطبيقي، أن يمارس معالجته للنصوص الإبداعية، إلا بعد أن يتثقف ثقافة نظرية شاملة وصحيحة، أن يكون بصيراً بفنون الأدب وأغراضه وتطوره، ومعرفته باللغة ومفرداتها، والبلاغة وفنونها، والكلام وأساليبه، وأن يطلع على جملة من المعارف والعلوم، كالفلسفة ونظرياتها، وعلم النفس، وكل ما يخالج الشعور الباطني"11. فيعرف الأنواع الأدبية، وخصائص كل نوع، ومكوناته، وتاريخه، وتطوره، واهم المبدعين في مجاله، ويعرف دوافع الفن، ووظيفته، ووسائل تأثيره، ويكون قد استوعب علاقة الفن بالحياة والواقع، عبر العصور والحضارات، وطبيعة اللغة الملائمة لكل نوع أدبي.

 ضعف التواصل والتكامل، إذ يستحيل على الناقد الأدبي أن ينشئ أويطور أدواته في ظل الانغلاق الخانق، إذ لا نشكوفقط من ضعف التواصل فيما بيننا وبين البلدان العربية في المجال الثقافي، بل إننا نشكومن ضعف التواصل بيننا حتى داخل الوطن، ومن الغريب أن يحدث هذا في وقت أصبح فيه العالم قرية صغيرة.‏

 من طبيعة الكتاب أنه يخدم التواصل والتعارف ولكنه كفّ ذلك، ولم يعد يلعب هذا الدور، بسبب ثمنه الذي زاد ارتفاعه، مما قلل من إمكانية اقتنائه بالنسبة للمواطن أوالدارس البسيط، وقلة توفر الكتاب، وجود النص كشكل طبوغرافيا، ليكون عينة للدارس، نظراً إلى إشكالية الطبع، لذلك استوجب البحث عن النقد؛ في الرسائل والأطروحات الجامعية، والتي ما تزال مخطوطات لا يطلع عليها إلا جمهور ضئيل من القراء.

ثمة إشكالية أخرى لها علاقة بهذه المخطوطات إذ كيف يمكن قراءتها ومقاربتها مقاربة علمية، خاصة في ظل قلة المعطيات المتعلقة بالبحوث المختلفة التي تقدم هنا وهناك وحتى في ظل شبكة الاتصال العالمية الانترنت لم يجد الأستاذ الباحث إلى حد الآن وسيلة تربطه بأنواع البحوث المناقشة أوالصادرة في منشورات عامة، وهنا يكون من الضروري الخروج من العزلة إلى الاجتهاد والعمل الاستراتيجي".12

وفي الأخير، إن ما نلاحظه من تفاوت بين النقد في المشرق العربي وفي المغرب سواء على مستوى الوعي الأدبي والفكري أوعلى مستوى الممارسة النقدية التي لم تكن مبنية في معظمها على الفكر النقدي القادر على التمثل والإستعاب، ومصدره هذا هوانعدام نظريات نقدية فلسفية، تستند إلى المدارس النقدية الحديثة، فرغم الدراسات التي كتبت بقصد توضيح أصول أزمة النقد الأدبي في الجزائر، فإن الحاجة ما زال ماسة لإعادة النظر في المسلمات والأسس التي ترتكز عليها مفاهيمنا الثقافية، ومنطلقاتنا الفكرية، المسؤولة عن هذا المأزق الذي نستشعره في كل مجالات الإبداعية والممارسات النقدية.13

إذ يمكن القول أن النقد اليوم، إنما يقوم على مرجعية معرفية متنوعة، يصعب الخوض فيه، من دون زاد مسبق يتمثل في امتلاك ناصية اللغة الجمالية، مع الفهم الدقيق، واختيار جيد وسليم للمفاهيم والمصطلحات النقدية، واختبار مطول للمناهج النقدية للوقوف على كيفياتها14.

المراجع

د. إبراهيم رماني:أسئلة الكتابة النقدية، المؤسسة الجزائرية للطباعة،منشورات المجاهد الأسبوعي.

د. أبوالقاسم سعد الله: دراسات في الأدب الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،ط2، 1985.

د. أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث، أصوله واتجاهاته، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

د.محمد مصايف:فصول في النقد الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،ط2، 1981.

د.محمد مصايف:النثر الجزائري الحديث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،ط1، 1983.

د. محمد ناصر: رمضان حمود،حياته وآثاره،المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،ط2، 1985.

د.عبد الرسول الغفاري، النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 203.

د.عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعي، تظرية وتطبيق، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، بيروت 2006
د.عمر بن قينه:في الأدب الجزائري الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط1.

بقلم: بلـــوافي مَحمد

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى