الأحد ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

رحلة الملايين

نزل من الحافلة ويا ليته لم ينزل، كانت الساعة تجاوزت التاسعة صباحا حين خرج من محطة الحافلات،وقف مبهوتاً ينظر إلى روعة أبنية العاصمة وشـوارعها الجميلة، ويشم رائحة ياسمينها، فهولم يزرها من قبل، بل لم يخرج من قريته النائية غير هذه المرة، فقد جاء إلى العاصمة ليجرب حظه بعد أن ضاقت به سبل الحياة.

بما أنه لا يعرف شيئا عن العاصمة، وليس له مكان محدد يذهب إليه، راح يسير في الشوارع كمن يبحث عن محبوبته.

عند الظهيرة الحارقة فوجئ بجمع من الرجال أمام أحد البيوت الكبيرة، وبما انه "حشري" ويحب أن يتدخل في كل ما لا يعنيه، أسرع في سيره باتجاه الجمع: "يبدوأن هنالك عرسا، أوقد مات أحدهم". وحينما صار على مقربة منهم رأى رجالا كثيرين التقت أجسادهم ببذلات أنيقة، ومن ياقة قميص كل واحد منهم يتدلى شيء يشبه رسن الحمار.

اخترق الحشد متجها إلى الأمام، وكل همه أن يعرف ماذا يجري، تنحنح أكثر من مرة وهويسأل عن السبب في هذا الجمع، فلم يتطوع أحد ليبرد قلبه، أرسل نظراته إلى الجهات الأربع فشاهد في زاوية شبه مخفية شخصا نحيفا، يقف فوق طاولة صغيرة وهويحمل بيده جرسا يدق به ويصيح:

ـ على اونا.. على دوي.

اعتقد انه مطرب وهؤلاء يستمعون إليه:"لعنة الله عليكم.. من أجل أغنية تافهة تأتون إلى هنا في عز الظهيرة؟!.. ماذا كنتم ستفعلون إذا سمعتم (شكريو) مطرب قريتنا وهويغني أغنيته الرائعة"يا فطيم كـُعي الغنم". حاول أن خرج من بينهم ويذهب ليبحث عن شغل قبل أن يأتي المساء، لكنه تذكر بأن المطرب يغني دون عازفين، وهذا يعني أنه ليس مطربا فمن يكون إذاً؟ بحث عنهم طويلا لكنه لم يجد لهم أثرا:"بشرفي هذا ليس مطرباً، فلوكان مطربا لأحضر معه عازفا واحدا على الأقل". وبعد لحـظات كانت المفاجأة تنتظره، شاهد رجلا ذا كرش كبيرة يضع على عينيه نظارة سوداء ويصيح:

ـ عليّ بمليون ليرة.

هتف بلا صوت:" يابووووووي.. مليون ليرة؟! وبدأت أبالسة الأفكار تهاجمه:"هذا معه مليون ليرة! أي بديني كل أهل قريتي وقبلهم أجدادهم وأجداد أجدادهم لم يروا مليون ليرة دفعة واحدة". وبينما الأفكار لا تزال تأخذه بعيدا وترميه في مناطق نائية، سمع آخر لم ير وجهه يقول:

ـ مليون ونصف. وصاح المطرب:

ـ مليون ونصف.. مليون ونصف من يزيد؟ بيت أحلى من السرايا من يزيد؟

"يالك من طماع ابن طماع, ألا تكفي المليون ونصف حتى تطلب زيادة؟!

وبدأت الأصوات ترتفع، والملايين تنزل على المطرب من كل حدب وصوب، وهوالمسكين لم ينزل علي قرش واحد.

ـ مليونان.

ـ ثلاثة ملايين.

ـ وربع.

انهار شيء فيه فلم يعد يحتمل، فمه كان مفتوحا ولسانه يكاد يخرج منه، تقدم فجأة من أحدهم، أمسك به من يده، جفل، خاف، معه ملايين ويخاف من صعلوك كله، يبدوأنه خاف من منظره الذي يبعث على اليأس من الحياة:

ـ من فضلك قل لي ماذا يجري هنا؟ ولماذا كل هذه الملايين؟

قال بشيء من الغضب وهويحاول الابتعاد عنه:

ـ هذا مزاد.

ـ مزاد؟ ماذا يعني مزاد؟

رد وهويشير بعينيه وحاجبيه إلى بيت كبير:

ـ هذا البيت للبيع، يبيعونه بالمزاد، ومن يدفع أكثر يكون من نصيبه، ثم ابتعد عنه.

ارتفع الصياح من جديد:

ـ ثلاثة ملايين ونصف. أربعة ملايين ونصف. خمسة. وربع. ستة ملايين... فجأة تحرك شيء في داخله وهزه هزاً وصار يتخيل البشـر ذئابا جائعة لا تشبع أبدا، وشعر بالحقد تجاههم، وبما أن عقله " برأس مناخيره" ويبدوأنه قد لعب به، وفي مس من الجنون الذي أصابه، اخترق الحشد المكتظ إلى أن اقترب من المطرب وصاح بأعلى صوته:

"عليّ بخمسطعش مليون وووو.. ربع".

حينئذ ارتفعت الأصوات، وساد المكان هرج، ويبدوأن المطرب لم ينتبه إليه فراح يصيح هوالآخر بأعلى صوته:

ـ خمسة عشر مليونا وربع.. على اونا على دوي من يزيد..؟

فجأة صاح أحدهم وهويتقدم باتجاه المطرب الذي كان لا يزال يردد كلماته:

ـ إنه معتوه.. انه أهبل.. هذا معتوه فلا تستمعوا إليه.

ثم تقدم منه وهويهدد وكأنه قد خرج لتوه من بين براثن ثور اسباني:

ـ انقلع من هنا يا حيوان.. ماذا فعلت؟

ولم يمهله ليرد عليه، لأنه ضربه بقبضة يده على قمة رأسه أسقطه أرضا، لكنه نهض بعد أن استرجع أنفاسه، ولكمه لكمة جعلته يخرج كل ما بداخل كرشه دفعة واحدة، بعدئذ لم ير نفسه إلا وهوبين كوكتيل الأرجل، كل من حوله يركله، كانت الأرجل تتحرك ومعها الأيدي بإيقاع موسيقي، وكمهزوم جريح كان يصرخ ويحبوإلى الخلف مستندا على مرفقيه وكل همه أن يحاول الإفلات من راكلاتهم ولكماتهم التي تحولت إلى قسوة بالغة.

لم تتوقف حفلة الركل واللكم إلا بعد أن تدفقت جداول حمراء من وجهه، وحين بقي في مكانه حملــوه والقوا به بعيدا وعادوا إلى ملايينهم من جديد، وحين حاول النهوض وهويسمح دماء وجهه تساءل في داخله:"خليفة الجحش كيف عرف أنني لا أملك الملايين؟" لكنه سمع قهقهة من داخله:"تعيش وتأكل غيرها يا"حشري" يا أبوخمسطعش مليون وربع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى