الجمعة ٨ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم ماجد عاطف

أقدار الآخرين

الحيّ مطوق..

إنّهم فوق السطح وفي زقاق العبد ووراء سور الناطي وعلي الشجرات الفارقات شجرات الجوز في الحيّ وفوق صخر الحزين. اثنان وسبعون رجلاً.. واثنان وسبعون ساطوراً وجنزيراً وشرخاً يربضون في الظلام. والليل رجل غادر سريع الضربة، مثله الريح، والجبل بأكمله، والغضب والوعيد والترقّب والحزم البدوي. وفي داخل الدار هبط الصمت وحلّقت نظرات الصغار الحائرين تحسّ بالقادم وقد تتوقّعه لكنها لا تحيط به، فتتلهي أصابعهم بمسح البساط المقلّم أو تتبع خطوطه بحركات مضطربة، طالما لا حركة في الخارج تنبو. وإلا فإن الآذان تصيخ السمع بتركيز لتشرئب الرؤوس بتوتّر.

وأسقطت المرأة حبّة أخري في دائرة مسبحتها، فخرج لسقوطها صوت نبّه الجميع إليه فالتفتوا. والتفت هو أيضاً بعد أن كان يتأمل الأباجورات التي تغلق علي القضبان وشبابيكها. كانت في ذهنه فكرة واحدة: أنّه مهما بلغت بهم النذالة هناك حدود لا يستطيعون تخطيها: الدار المحصّنة والأبواب الموصدة والنوافذ.

وكانت المرأة كمن تغفو متربعة يدها في حضنها وتستيقظ: تطيل النظر إلي الجدار ثم تعصر جفنيها في فكرة بعيدة صمّاء.

عندما تحرّكت قدم بحذر فوق السطح، ذهبت العيون كلّها إلي الموضع في السقف، ثم عادت وحدّقت ببعضها تتبادل فكرة من رعب مشترك، عززها صوت أتي من الخارج أجشّ:

ـ أخرج إلينا يا علي!

ويودّ عليّ الأشعث القلق لو يخرج أو يجيب، لكن ما الجدوي؟ :العقل قبل ـ وبعد ـ أي شيء. الليل لهم وله النهار. لو كانت فيهم ذرة من رجولة لأتوا نهاراً، ولكنهم يحتمون بالليل وبالشخوص المجهولة. فكيف له أن يثق بأشخاص هذه حالهم؟ أين الضمانة ألا يطيش التحامل بصوابهم؟ إن كانت لهم اليد الطولي مدّوها كلّها ولو ليجرّبوا طولها. فمَن يسلّم عنقه إلي الذبح؟
واقترب الوقت من منتصف الليل.

يبقون كل ليلة إلي الخيط الأول من الفجر ثم يتلاشون كغبار، وعندما يخرج صباحاً إلي الشوارع القريبة والبعيدة يبحث عمّن يواجهه شخصاً لشخص، لا يجد أحداً. يصبّح عليه هذا بأدب وربما كان في الليلة الماضية فوق السطح أو وراء السور؛ ويحيّيه ذاك ولعله مَن ناداه للخروج.

وسيتكرر في اليوم التالي كل ما حدث في الأمس.

نهضت المرأة ونقلت الصغار الغافين علي البساط إلي فراشهم. عندما عادت وجلست كان واضحاً أنّها تريد قول شيء مع أنّها صمتت.

كانت تحشد نفسها ببطء وصبرٍ وتروٍ. ثم نهضت عن البساط وجلست علي الأريكة الوحيدة في الغرفة قبالته بالضبط. رآها تتحوّل إلي شخص أو شيء آخرين، حكيمين، فاختفت منها تلك الزوجة المطيعة. وبدا أنّها تجمعت بما فيه الكفاية. قالت بصوت عميق، لا أثر فيه لانفعال:

ـ الله يظلم مَن ظلمنا..
وصمتت ثانية لتستعد لكلام جديد، أكثر صعوبة. توقّع أن تطلب منه الخروج إليهم أو المغادرة صباحاً دون عودة، فما عادت المعيشة تطاق: حذر هائج النظرات والسكنات طوال النهار، وفي الليل عجز وحصار. وراوده غضب عنيف أخرس.. ليس الخوف إنّما العبث والخضوع، أن يسلّم نفسه لمقادير غبية متحاملة، وأن يطلب أحد منه تقبّل هذا المصير. مَن يملك هذا؟

تنحنحت لتلفت انتباهه فانتبه. سيري كيف يتنصّل اللحم من اللحم، وكيف تنحل حبال المصائر في أفكار تبريرية.

ـ قبل سنوات كمنوا لابن القيسي. هدموا سنسلة علي الشارع وانتظروا قدوم سيارته، عندما وصل..

شهد الحادثة بنفسه ولكنه لم يخبرها. كان فيها من الدم والعنف ما يمنع الإخبار. وقف ليلتها مع المتفرّجين يطل علي حفنة من الرجال الملثّمين المتربّصين، وعندما نزل ليفتح الشارع أحاطوا به واقتادوه. لكن الحشد الكاره المتفرّج ذاته مَن طّيرت الخبر إلي أخوته الستّة خلال دقائق، فلحقوا بهم حتي خلّصوه منهم بل وأسروا واحداً من الملثّمين جالوا به الطرق والشوارع، نصل الساطور علي عنق رأسه بلثامه الأسود ينتظر تدخّلاً ليحزّه. وأينما عُرِف عن عائلة لأفرادها صلة وقفوا أمام بيتهم طويلاً. لكن لا أحد تجرأ أو تدخّل. ولم يقتلوا الملثّم بل قطعوا يده التي امتدت علي أخيهم. وفي اليوم التالي انتصب الجميع لهم خوفاً واحتراما.

ما الذي ترمي إليه؟ نفاقهم؟ إنّه يعلم هذا، وهو ما يحرّكه، فقال لها:

ـ كان له أخوة يخشونهم..

أمّا هو فلا. بقيةُ فرعٍ حيّ من شجرة ميّتة. لا أحد له سوي صغار يحتاجون مَن يحميهم.

ـ لو قُدّر لابن القيسي الموت ما نجا. وكتب علي ابن العبد أن يخسر ذراعه، ولم يمنع المكتوب أحد.

أحسّ بغضب فيه يتعالي وقد بدأ يفهم ما ترمي إليه. لا، لن يخضع لأحد!

ولكنها وقد أحسّت بانفعالاته تتوثّب في عروقه، رمت بتردد ونبرة متآكلتين جملتها الأخيرة:

ـ أخرج إليهم يا عليّ..

ثم انسلّت إلي غرفة الصغار وتمددت بينهم.

آلمه أن يكون المطلب ذاته، في المحصّلة النهائية، صادراً عن الخصم والزوجة..

لا أحد لأحد، إنما المصير طريق يذهب بالمرء وحيداً إلي المجهول. إن خرج الآن انتهت محنة صغاره، وعليها أن تنتهي.

أضاء الأضواء الخارجية، وفتح باب الحديد. أشعل سيجارته وحدّق في المساحات التي لا يصلها الضوء، في زقاق العبد ووراء سور الناطي وحول الصخر وتحت الأشجار. لم يكن الخوف ولم يعد الآن العبث أو اللا جدوي. أطبق الباب خلفه ومضي خاضعاً لمرّة أولي في حياته، لأقدار يرسمها الآخرون.

ومن بين أجساد الصغار، تحت سقف تحرّكت فوقه قدم خفيفة، ومتخيّلةً أن ساطوراً أو شرخاً أو جنزيرا يتناوش الآن جسده، رددت دعاءً عريضاً، لا جدوي منه، بصوتها المكتوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى