الجمعة ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم عزيز العرباوي

صدفة غريبة

صدفة التقيت به في محطة القطار، لكنها تلاشت بعد وقت غير طويل مثل صديقين غابا عن بعضهما والتقيا مرة ثانية. ربما أكثر بكثير مما كنت أظن لأول وهلة. والمصادفة لم يكن من المرجح إغفالها أو تركها تمر دون أن أشعر بها أو أسجل فحواها الدقيق في ذكرياتي.

ولست أعني بذلك أن هذه الصدفة مجرد لفتة تهافتية مرت بسلام أو أنها كانت عملية صوغ حياة جديدة أو تشكيل صداقة حديثة. انحنى مقوسا يحمل حقائبي معي. ظننته سيسرقها بعدما باتت الصدفة في مهب الريح. قبضت بيدي على كتفيه وأسرعت بإظهار ابتسامة جذابة على شفتي. قلت في نفسي: ماذا أفعل؟ قد يكون قصده خيرا ومساعدة لي. حاولت خلق أوضاع جديدة لم تكن في حسبانه. إن السلوك عند المرء الذي يغريه المصادفة يدفعه إلى اتخاذ مواقف وقرارات قد تغير مسار حياته، وقد تغير رؤية الآخرين له.

نهض الشاب من جانبي على الكرسي وحقائبي الملتهمة في أحشائها كل قصائد الزمان وشعر الضعف والفقر الخاصين بي، ترتج بين يديه، ظننتها في أول الأمر تستنجد بي. وسرعان ما تمكنت من فحوى رسالتها الموجهة لي. حتما كانت تطلب منه إطلاق صراحها، وتؤكد ذلك له. لكنه كان يحدثني بطلاقة غير معير أي اهتمام لاستنجادها. تستحق هذه الأغراض ما يجري لها من تحت رأسي.

الساعة تنتظر دورها لتعمل في جو من الإغراء والمنافسة الشريفة...رجال الشبابيك لازالوا يرتقبون النظرات المصوبة إليهم. الزبائن منهمكون في أنحاء الفضاء الفضي يرسمون لوحات فقيرة ومطلية بزيت المحركات.الأطفال الصغار يكبرون بسرعة البرق بفعل الانتظار الطويل. تمكن الشاب من تجاوز رجل الباب الخلفي للمحطة، بنظرة حادة وهمهمات متراتبة، أحسست أنها تعودت عليهما. وانطلق إلى مقعدين بعيدين عن كل الناس دون أن يطلب مني أن أتبعه. كان يعرف أنني سألحق بحقائبي مهما ابتعدت ومهما استنجدت بالآخرين.
كذلك كانت المصادفة هي التي جعلتني أتبع هذا الشخص، أكلمه بكل تلقائية متخصصة. ارتمى على المقعد وتوجه بالنظر إلي وكأنه يراقب تصرفاتي العادية. بينما لم أجد بدا من تغيير مسار نظراتي إلى أمكنة متهرئة داخل المحطة. قطارات في عداد الموتى، مقاعد وكراسي تحمل تلك الأعضاء المتناقضة، أشخاص منهمكون في تبني الانتظار واليأس والفراغ. كان الزبائن يلجون مراحيض المحطة وهم دون إرادة فاعلة تقنعهم بمعارضة صاحبها. كما أنهم حبب إليهم الانتماء إلى قسم التلوث قصد الانتهاء من الآلام التي تعصف ببطونهم. وبين هذه الأجساد المتباعدة والمتعارضة كانت تتوزع أفكاري واقتناعاتي ومعظم إحساساتي بالذات داخل حقائبي، بحيث كنت أكاد أنتفض لمجرد ألا أخرج من بين أحضان المصادفة وألج عالم التضارب والاختلاف.
ظل يبحث عني ما بين المقصورات واحدة واحدة، مثل طائر فقد بيضه على شجرة في غابة كثيفة. كنت أراقب إيمانه العميق بالحصول علي. وكان هذا الأمر يحز في نفسي ويدخلني في عالم مليء بالشك والريب من أمر هذا الشاب الذي ظهر بين يدي بسرعة وصدفة غريبتين.

كانت المقصورة محشوة بالأجساد الأنثوية. فيها تمكنت بالإحساس بالأمان وبرائحة عطر لم تكن غريبة عني. جلت بنظري بين الوجوه البشوشة لفتيات في متوسط العمر، وصدفة مرت بين أحضان نظراتي ابتسامة عميقة في المعرفة واللقاء. ثم أعدت الكرة، لايزال تأثير بالغ في الابتسامة يمر بخاطري، وقد انفعلت انفعالا دقيقا للرؤية التي سيطرت على نظراتي لعدة دقائق. ثم قمت من مجلسي وتوجهت إلى جانبها، كانت صدفة غريبة بالفعل لا ترقى إلى الصدفة التي احتلتني في المحطة. إنها صديقتي القديمة في قاموس الزمن، والباقية في تفكيري في قاموس الصداقة. كانت رشيدة هي الأخرى مندهشة من رؤيتي وكأنها رأت رجلا بارعا في التخيل والتغير. ظلت ترمقتي دون أن ترد علي ببنت شفة. أزاحت خاصرتها بعض السنتميترات وكأنها خائفة من مس شيطاني فعلا. كان الزمن كفيلا بنسيان طفولة بأكملها، وبالأحرى بضع سنوات من اللهو واللعب في شارع ضيق وفقير.

وأخيرا انتهى آخر حق لي في التقرب منها، دخل الشاب الذي صادفته في المحطة. عدت بسرعة إلى مكاني خوفا من أن يسبقني إليه. لكنه هذه المرة، لم أتقن دوري، لقد سبقني إليها قبل سنوات دون أن أدري ذلك. لقد كان زوجها، وخاتمه الذهبي مازال بين عيني يمرر ذكريات الطفولة والمراهقة معها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى