الثلاثاء ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بين جودة الإخراج والتشخيص والسينوغرافيا
بقلم جميل حمداوي

الصرخة

شاركت فرقة مسرح مناجم جرادة يوم الجمعة 29مايو2009م بعرض مسرحي تحت عنوان:"الصرخة" بالمركب الثقافي بإقليم الناظور ضمن المهرجان الثقافي والفني السادس لجمعية التربية والتنمية.

والمسرحية كما هو معلوم من اقتباس إدريس الشليحي ، بينما التشخيص كان من نصيب حفيظ موساوي وإدريس الشليحي ولخضر مجدوبي ومحمد بوشنافة. أما السينوغرافيا فقد تكلف بها لخضر مجدوبي، في حين اهتمت عيادة موساوي بهندسة الملابس وتصميمها، أما التقنيات فتعود إلى محمد داني في حين تولى يحيى هورير مهمة المحافظة العامة . أما مخرج هذا العمل المسرحي فهو الفنان الجرادي المتميز حفيظ موساوي.

وقد حظيت مسرحية " الصرخة" لحفيظ موساوي بدعم من وزارة الثقافة المغربية على غرار كل أعماله المسرحية الاحترافية السابقة.

1- المحاكمة الجائرة بين الواقع والخيال:

تبدأ المسرحية بمحاكمة إنسان مقهور داخل مستشفى الأمراض العقلية حيث فقد ذاكرته الوجودية وحافظته الكينونية. فألصقت به كثير من التهم كالقتل والتحرش الجنسي والغدر بالآخرين وعدم الوفاء بالتزاماته وتحدي السلطة الحاكمة ناهيك عن تهم أخرى ملفقة مفهومة وغير مفهومة.

ويحاول المتهم طرق الباب مرات عديدة، ولكن بدون جدوى من أجل الخروج من ذلك العنبر الذي يختنق فيه ظلما وبهتانا. ربما يكون ذلك المجنون المتهم أكثر الناس عقلا أدخلته السلطة إلى هذا المكان الموحش لتخريفه وتحويله إلى كائن مريض ومجنون.

ونلاحظ في المسرحية تفاوت النبرات الصوتية واختلاف مقامات الأداء التعبيري الذي كان يتخذ صيغتين: صيغة الصوت المفخم الجهوري الذي كان يعبر عن سلطة الجنرال وطغيان كاتبه، وصيغة الصوت المهموس الخافت الذي كان يعبر عن وضعية المتهم المأسور في عالمه المنغلق ذاتيا باحثا عن مخرج لتصريف همومه وأحزانه الموبوءة. ولم يجد هذا الكائن المسجون سوى اللجوء إلى الصرخات المبحوحة التي تعبر عن تصدعه وانسحاقه وذوبانه كينونيا وتآكله وجوديا وانبطاحه قيميا. وقد دفعته قسوة الجنرال ومكر كاتبه المزيف ونفاق المحامي الموالي لهما إلى الاعتراف ضغطا وقهرا بكل الجرائم المنسوبة إليه ولو لم يرتكبها في الواقع ولا في الخيال ليحظى في الأخير بعقوبة الإعدام زجرا له على أفعاله غير المبررة شرعيا وغير المسموح بها قانونيا.

وتكشف المسرحية عن مفارقات الواقع الخارجي وسخرية الواقع الداخلي، فنرى محامي المدعى عليه يوقع المتهم بدوره في متاهات الغموض والإبهام، إلى أن تلتبس القضية بوقائعها المتشابكة بأحداثها المعقدة التي لاحل لها ولا خلاص ، سوى أن يتطهر منها المتهم عبر التعذيب والتجليد والإعدام المفبرك ضده لترحيله بسرعة قصد التخلص من أفكاره العابثة وجنونه الواقعي وتحديه للسلطة المحترمة التي لاتقبل بالمجانين الذين يعيثون في المجتمع فسادا وينشرون الفوضى والأفكار السامة التي قد تأتي لامحالة على الأخضر واليابس.

ولم تنته المحاكمة المسرحية التي قررت إعدام المتهم جورا وبطلانا إلا بدخول الطبيب إلى خشبة الركح. ومن هنا، تصدم المسرحية المتفرج الراصد بأن المحاكمة لم تكن سوى لعبة افتراضية لمحاكمة واقعية تمارس على مستوى اللاشعور. وبالتالي، يصبح الباب عنصرا سيميائيا بارزا في المسرحية ؛ لأنه يفصل بين عالمين: عالم واقعي حقيقي يحكمه العقلاء وعالم افتراضي خيالي ينبطح فيه المجانين.

وعليه، فالمسرحية في عمومها صراع بين العقل واللاعقل أو بين الوعي واللاوعي أو بين الشعور واللاشعور أو بين الواقع والخيال أو بين الحقيقة واللاحقيقة أو بين الذات والواقع. ومن هنا، تتحول هذه المسرحية إلى صرخة مدوية ضد واقع البؤس والرعب والمرارة والظلم داعية إلى تغييره وتكسير رتابة العالم الداخلي المغلق بعالم أكثر عدالة وفضيلة وسموا وانفتاحا.

وتنتمي المسرحية دلاليا إلى الكوميديا السوداء أو الكوميك الصادم لوجود ثنائيات متناقضة ومفارقات نظرية تتنافر مع حقائق الواقع، دون أن ننسى وجود السخرية الصارخة ، والنقد الكاريكاتوري، والهجاء الكروتيسكي ، والتعرية البشعة للواقع المتردي، والتعريض بتفسخ القيم في عالمنا المنحط والمحبط.

2- بين الفلاش باك والميتامسرح:

يستند العرض المسرحي الذي قدمه المخرج حفيظ موساوي إلى التشخيص الخارجي الكوكلاني المناقض للتشخيص الداخلي الذي دعا إليه ستانسلافسكي ؛ لأن المسرحية كوميكية صادمة تتطلب هذا النوع من الأداء الأسلوبي القائم على التمثيل والتشخيص الأدائي وعدم الاندماج في الدور معايشة وتقمصا. كما اعتمد المخرج في بناء مسرحيته المعروضة على تقنية الميتامسرح أو الميتاتياترو؛ لأن الممثلين كانوا يشخصون داخل عنبر الأمراض العقلية مسرحية المحاكمة للتعبير عن عقدهم الشعورية واللاشعورية، وطرح مشاكلهم الذاتية والموضوعية، وتجسيد واقعهم المأساوي المزري،، وتحديد أزماته الخانقة على المستوى الإنساني والواقعي ، وإبراز تناقضاته الجدلية ومفارقاته الغرائبية.

ويبدو لنا أن هذه الطريقة الفنية المبنية على الميتامسرح طريقة درامية محكمة في هذا العرض المسرحي تحبيكا وتشكيلا وتأزيما وتخطيبا؛ لأن الراصد سيندهش في نهاية الفرجة المسرحية أنه لم يكن أمام محاكمة واقعية ، بل كان إزاء محاكمة خيالية مسرحية تنتهي بدخول الطبيب إلى العنبر، لنفهم من هناك بأن الفضاء الدرامي هو عبارة عن مستشفى الأمراض العقلية، وأن الممثلين الذين كانوا يشخصون المحاكمة الجدية الصارمة لم يكونوا سوى مجانين المستشفى يعانون من الأمراض النفسية والعصبية التي قد تكون لوثة ناتجة عن الاضطراب الواقعي أو بمثابة رد فعل السلطة ضد المتنورين ومنتقدي الواقع القائم أو الزائف. وبالتالي، يظهر لنا الاشتغال المسرحي بأن الفضاء الدرامي مغلق سينوغرافيا، ومسيج مكانيا ومأسور مجازيا لا يفصله عن الواقع الحقيقي إلا باب مسدود لاينفع طرقه أو دقه، ولا يفتحه سوى طبيب العقول الواعية واللاواعية.

ويلاحظ أن تركيب العرض دائري البناء دلاليا ، وسينمائي المنظور لوجود تراتبية متدرجة في اللقطات المشهدية، فالجنرال يوجد في أعلى الركح الخلفي . بينما نجد، في الأسفل، كاتب الضبط إلى جانب شخصيتين وضعتا في قفص الاتهام. والمقصود من هذا أن هناك كاميرا مشهدية علوية تعبر عن قوة الجنرال وتسلطنه وتجبره سياسيا وعسكريا واجتماعيا. وفي المقابل، ترصد لنا هذه الكاميرا العلوية انبطاح الشخصيات الأخرى وسقوطها وجوديا وكينونيا. ويؤشر كذلك هذا التقابل في المنظور المسرحي والسينمائي على الصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي وهرمية المجتمع وبنائه على المنطق التقليدي المرتكز على توريث المحظوظين من أبناء المجتمع نفس الامتيازات والسلط التي استفاد منها آباؤهم وأجدادهم.

ويتبين لنا أيضا أن الممثلين يلعبون في مثلث درامي متوتر مشحون بالصراع التراجيدي والكوميدي، فينتقلون على مستوى الاتجاه فوق الركح أفقيا وعموديا وتقاطعيا من خلال أوضاع حركية متنوعة: أمامية وخلفية وجانبية بوضع الربع أو بوضع الثلاثة أرباع. ويمكن الحديث عن انتقال اتجاهي آخر من الأسفل إلى الأعلى أو العكس صحيح أيضا مثل: نزول الجنرال من أعلى عرشه إلى أسفل لممارسة سلطاته الزجرية والعقابية، وصعود الممثل المريض من أسفل السرير للتعلق بأعلاه توهما وتخيلا.

أما تموقع الممثلين فوق الخشبة المسرحية فكان تموقعا وظيفيا ومحكما وجيدا، إذ نرى الجنرال وكاتبه في وسط أعلى الخشبة، بينما المتهم الرئيس كان يحتل وسط أيسر الخشبة، في حين نجد زميله المتناظر معه يتموقع في يمين وسط الخشبة، أما وسط الركح فقد تركه المخرج للصراع الحدثي والتجاذب الدرامي.

وقد توفق لخضر مجدوبي كعادته أيما توفيق في اختيار سينوغرافية مناسبة وموحية ووظيفية على الرغم من بساطة مكوناتها وبساطة تأثيثها؛ لأن الفضاء الدرامي الذي يوجد فيه المرضى كان يستوجب بالضرورة تلك السينوغرافية الفقيرة والبسيطة.

ونشكر المخرج حفيظ موساوي الذي استطاع أن يبني حبكته الدرامية وقصته المسرحية على مجموعة من المشاهد الدرامية القائمة على الاسترجاع والفلاش باك عن طريق تشغيل الإضاءة الموحية واستنطاق الذاكرة المفتتة وتوظيف بشكل جيد ما يسمى بالتبئير المشهدي الضوئي، فكنا من خلال ذلك نلاحظ الانتقال المحكم من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر. ويترتب عن هذا الاسترجاع الدرامي أن المسرحية جديدة من حيث التركيب البنائي؛ لأنها تعتمد على التشظي ، والتناوب الزمني، وتوظيف الفلاش باك، وتنويع الأساليب، واستخدام عبارات كوميدية منبورة ومسكوكة كالتلاعب بألفاظ معية تثير ضحك الجمهور ككلمة " وقائع " التي كان يتلاعب بها المحامي تمديدا وتقطيعا وتكسيرا، فيربك بها موكله الذي لم يفهم منها أي شيء ، وتتحول هذه الكلمة في تحريفاتها الصوتية والدلالية إلى كلمة : وقايييــــــــع،وقائع، وقاييع، وقايييع...

إلا أننا نلاحظ أن هذا العرض المسرحي يهيمن عليه الحوار كثيرا ، وتنقصه الكريغرافيا الوظيفية واللوحات الغنائية المعبرة التي لو وظفت بشكل حيوي ديناميكي لجعلت العرض المسرحي عملا متكاملا وممتعا إلى درجة كبيرة ، وذلك من أجل التقليل من نبرة اللغة ، و تفادي الملل الحواري، والتخفيف من الرتابة الناتجة عن طول الحوارات المسترسلة والمنولوجات السالبة.

خاتمــــة:

بناء على ماسلف ذكره، نهنئ المخرج المسرحي الجرادي القدير والمتميز حفيظ موساوي على هذا الإنجاز الجميل، فلقد تمثل الانتقادات التي وجهناها له سابقا، فاستفاد منها واعتبر، وقدم لنا اليوم تحفة درامية رائعة أعادت لجرادة رونقها المسرحي السابق بعد ركود فني وكساد درامي دام فترة طويلة لأسباب ذاتية وموضوعية.

ونشكر أيما شكر السينوغرافي القدير لخضر مجدوبي الذي يعد في رأينا المتواضع من السينوغرافيين المتميزين في المغرب على الرغم من بساطة الديكورات والإكسسوارات والمؤثرات الموسيقية والضوئية التي يشغلها في عروضه المسرحية؛ لأن البساطة في كثير من الأحيان أجدى وأفضل من الديكورات الباروكية الفخمة التي قد لاتفيد شيئا في تحبيك العمل الدرامي ولاسيما في المسرحيات السوداء والكوميديات الصادمة.

كما نشيد بكل الممثلين داخل هذا العرض المسرحي الذين أظهروا كفاءة كبيرة وقدرات فنية هائلة متميزة وخاصة إدريس الشليحي ولخضر مجدوبي ومحمد بوشنافة.

ونرجو من مخرجنا حفيظ موساوي الصديق العزيز علينا عن صدق ومحبة أن يحافظ على هذا الفريق المسرحي الذي شاركه في عرضه الدراماتورجي بكل كفاءة ودراية حاذقة في السراء والضراء، وأن يراعي نفس مقاييس الجودة المسرحية في المستقبل مع التنويع في المواضيع والأشكال الدرامية تجريبا وتأصيلا، ونحذره أيما تحذير من الغرور والتسلط والتفريط في أصدقائه لسبب من الأسباب ، فيندم على ماصدر منه ضد أصدقائه المتميزين، فلن ينفعه آنذاك ساعة مندم أو لحظة لوم أو فترة عتاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى