السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

التمزق

الجرح النازف يقطن ذاتي، وأوردتي، وشغاف القلب، يسكنني إلى حد الهوس والامتلاء، وأنا خلف قضبان التعاسة الرمادية أصرخ عاليا، أتضور ألما ومتاهة، وأثور بملء فمي.

أثور على واقعي المشاكس المر، المتخم بالإنكسارات والهزائم، وأنتحب بعنف شديد على أطلال ذكرى متماوجة إيقاعاتها. في تربة نفسي الندية أزحف عارية، عارية من نغمة القصائد، وشهوة القصص، وجنون الخواطر، وأنا كطفلة متعثرة الخطى في الدرب الوعر يعربد الشجن بدواخلي المقفرة شيطانا ماردا يسعى للتشتيت والخراب، أحمل فؤادي الدامي الكئيب في راحة يدي الناعمة، وأفتش كبلهاء في زحمة هذه الدنيا الشمطاء اللعوب عن أعوام فضية، مباركة تنبت أحلاما عسجدية ظليلة، ونبوءات مزركشة تضارع مباهج العيد، ونكهة الحلم. نعم أفتش عن حلم قزحي راقص يلد في كل مرة من عمري أروع قصيدة ابتكرتها يد شاعر واعد.

متعطشة دوما إلى عالم ملون تبطنه أغان فيروزية، حالمة، وصدى حكايات حديثة العهد. إنني أتتبع برفق وحذر حكاية ابن عمي المغترب الذي زرع وراءه ذكريات حبيبة دافئة لأيام حبيبة، بيض، سأهتز فرحا أثناء عودته إلى الديار، إلى أرض الوطن، سأزغرد، وأصفق، وأغني، وأمطر أطفال حارتنا الخجولة سيلا من الهتافات، والمرح، والقبل، وأرقص بلا هوادة، وأرقص إلى حد التخمة والغرق.

آه! نسيت، معذرة، وألف معذرة، تقبلوا عذري الحميم برحابة صدر، لن أرقص، لن أرقص أبدا لأن أظافر الخيبة الشنيعة تقرصني، تحتويني بقسوة ضارية، مجنونة، لا، لا، لن أرقص.
في بطن أيامي المتآكلة، المهدورة أتكمش كقنفذ بري ضاقت به جميع السبل، ودمرته همجية العواصف، وأغتسل بمياه الوحدة الآسنة.

أحس بالغربة الموحشة، بالقيء، بالاختناق، بالتمزق، بالغثيان، أحاول الهروب من هذا العالم المارد إلى بحار الصمت اللامتناهية، أحاول الفرار من أعماق ذاتي، من خريطة عمري، أشعر برغبة ملحة في الهروب، ولكن يا للأسف كيف أفر؟ كيف أتحرر من قيدي وأسري والفرح يقسم أمامي ألا يزور دنياي الكسيحة، المتعبة، وألا ينزل ضيفا معززا في محطة مشاعري؟ كيف أفر والعيون المليئة انتصارا، وخبثا، وهزيمة تطوقني بلا خجل، تلاحقني من كل الزوايا، من كل الثقوب، تبتلعني من غير رحمة، أردد أسفي بكل هدوء، وأدب جم.

أعذروني، لن أرقص، لن أرقص أبدا لأن الكرسي المتحرك ذي عجلات يلازمني عنوة، رجلاي الكسيحتان لا تقويان على الحركة، فهل تريدون من الكسيح أن يرقص بكل حزم وجرأة؟

عودي أيتها اللحظات الوردية في ثوبك الربيعي، القشيب، ألثمي جبين أيامي الذي غزاه الصقيع، والصدأ، رفرفي بأجنحتك الفضية فوق شبابيك قلبي، بددي طقوس حرماني، ووحدتي بسحر أنشودتك الحانية، الأزلية، واحمليني فوق أنغامك إلى واحة السعادة المطلة على بوابة الحلم، والاخضرار، إحمليني وأنا جريحة مضرجة بقطرات الضياع، ملطخة بالخيبة، وعانقي أعماقي المجدبة، الباحثة عن ذرات الهناء.

إزرعيني ثباتا، وصمودا، وعزيمة، وامنحي لي سلاح اليقين لأقهر به أشباح التعاسة، وأشهره في وجه أراضي اليأس التي طوقها الجفاف، والبور،عودي أيتها اللحظات البريئة فأغلال الألم تكبلني، تجردني من كل ما هو جميل، وبهي، قلبي يستعطفك أن تعودي مثملة بالحنين، وصدى الذكريات العجيبة. أين هي زقزقات طيورك البرية، ورقصة ورودك، وأنغامك السحرية التي كانت تتوغل في قصور أحلامي، وبروج أفكاري، وتضرب بجناحيها نصاعة المكان؟

أين هي بسمة صباحك المشرق التي كانت تغازلني عن كثب في شبق جنونها، وتتسرب إلى قلبي الطفل النائم فتوقظه في مهده؟
متى تكنسين أيتها اللحظات الهاربة كآبتي المزمنة، وألمي المقهور الدفين؟ ومتى تقهرين أشباح القلق المتعنتة من ساحة ذاكرتي، وتقذفينها بعيدا في صحاري التيه، والمشاغبة، والنسيان؟

عودي أيتها اللحظات الرائعة في روعة البدر، واغرسي في تربة نفسي شجرة سنديانة، وفي مقلتي أشجار الكرز، وفوق شفتي زهور الأمل، عودي فغصة الألم تخنق أنفاسي اللاهثة، تطغى على حواسي، ومشاعري، وتحيلني إلى صبية تافهة لا تعرف سوى البكاء، والأرق.

متيقنة أن عائلتي ستهرع إلى ابن عمي واللهفة العارمة تسكنها، تبهرها لحظة اللقاء، تتحلق حوله، وتتطلع إليه في فضول بالغ عجيب. ولكن أنا ماذا سأفعل ساعتها؟ هل أختبئ، وأحبس نفسي بين جدران البيت الصامتة، وأنغمس في دنيا الهواجس والشجن؟

ترامى إلي صوت والدي من الغرفة المجاورة وهو يحاور أمي: لقد قال الطبيب أن(سلمى) لن تشفى، حالتها ميؤوس منها.
لن أشفى، لن تعود رجلاي تركضان في الدروب المتربة، ولن أطارد الفراش، ولا العصافير كسابق عهدي، بل سأبقى حبيسة هذا الكرسي اللعين الذي يشاطرني نصف عمري.

هتف ابن عمي ونحن نتوسد حكاية الفصول، وخرير الزمن: سأهدي لك هدية رائعة أثناء عودتي من ديار الغربة.
ــ لا أطمع منك في شيء، أريد سلامتك، سلامتك فقط.

قلت والأمل طفل بريء يلهو على شاطئ عينيك: وأخطبك من والديك.
ــ ليكن ما تريد.
لقد بت أحلم بحياة هنيئة بجانبك تظللني، أقضيها من غير أن يداهمني شبح القلق المريع، ورحت أخطط لذلك المستقبل الدري اللامع الذي داعب مخيلتي عن اقتناع ورضا.

ــ سلمى، ابنتي جئت لأطمئن عليك.
كانت أمي في حالة صعبة للغاية، باكية، حزينة، يائسة.
ــ لا تفكري في كثيرا يا أمي، الممرضات هنا يحرصن على رعايتي، إنهن في منتهى الرقة، واللطف.
سقطت بيننا غشاوة ممزقة من الصمت، وكانت كل واحدة منا ضائعة في دروب تخميناتها تبحث عن كلمة ودودة لتلطف بها حدة الألم الرابضة فوق الصدور.

ــ لا تهتمي بأمرك كثيرا يا ابنتي، ستشفين بإذن الله.
وانصرفت وفي عينيها المعذبتين تزدحم العبرات ازدحاما.
تأملت رجلي المشلولتين ثم استسلمت بعنف للحادثة المريعة التي وقعت لي بإرادة الله في ذلك المساء.
كنت ذاهبة لأنتقي فستانا لأختي الصغرى وإذا بسيارة فخمة تطوحني أرضا. تجمهر الناس حولي وفي عيونهم شتى التساؤلات.

أعذروني، لن أرقص، فهل تريدون من الكسيح أن يرقص بكل حزم وجرأة؟ هل تريدون ذلك والواقع المر يهزمني، ويتحداني؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى