الجمعة ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم سعاد جبر

ماهية الحياة في الرؤية السيكولوجية للأدب

نسجت الحياة ردائها على الوجود واحتارت في ماهيتها العقول ، وتنوعت المدارس الفكرية في تدفق انفعالات التعبير حولها ، بين لغات مثالية وواقعية وتعبيرية ، ولكنها مقرونة في بعد المدرسة السيكولوجية في لغة المدرسة التعبيرية ، التي تكسر القيود وتعلن انسيابات الأنا الكامنة ، وترتسم عليها بجمال اسقاطات المكان والزمان ، في لغة تتجاوز الواقع ، وتسافر في آفاق لغة الذات بين نشوة التعبير والم الإحساس ، في الأشكال الأدبية المتنوعة وفي عوالم الفن التشكيلي ، وترتكز المدرسية السيكولوجية في التحليل الأدبي في كافة أشكاله الفنية ، على معادلة ( الأنا ، الآن ، هناك ) وعلى انعكاسات المدرسة التعبيرية في الأدب والفن التي تعتبر الوجود كله امتدادا لروح الأديب أو الفنان ونفسيته .

والأديب والفنان في مرجعية تلك المدرسة يعتبر مركز الكون والكون نابع منه ، وهنا تعتبر الأنعكاسات الأدبية والفنية ليست موضوعية وتسجيلية بحته للواقع ، بل ذاتية ترتسم بتحليق حر جميل ، لذا فهي تخالف الانطباعية التي هي موضوعية قبل كل شئ ، ومن ثم إذا كان الأديب او الفنان حزيناً او بائساً فالوجود كله قاتم الألوان في انسيابات اليراع وتشكلات الأنا عليه في اسقاطات وانكسارات الزمان والمكان على الصفحات ، والقول ذاته في فرشاة الألوان وتشكلها على اللوحة في ألوان قاتمة وانسيابات تعبيرية حزينة في الشعر او النثر او القص وغير ذلك حتى لوكانت الشمس ساطعة وتنثر ضحكاتها على الوجود ، وهذا هو لب المدرسة التعبيرية التي تستقي من معين سيكولوجيا الذات و ترتسم انعكاساتها على النص او اللوحة بلغة اللاشعور الدفين المختزن في الأعماق ، وربما هذا هو مصدر ضعفها عند بعض النقاد ولكنه أيضا مصدر قوتها وجمالها بل وروعتها الساحرة في الأسقاطات ، وكما يقول أحد الفنانين في الغرب في هذا الصدد ( بدلا من أن أحاول أن انقل ما أمام عنيي بحذافيره فأنني استخدم اللون استخداماً جائراً حتى اعبر عن نفسي بقوة اكبر ) .

ويجدر بالذكر هنا أن لغة استيعاب الأنا والوجود ومنطومة اسقاطاتهما لا تتشكل لتوها عند تشكل الحروف على السطور او رقصات الفرشاة مع الألوان ، بل تكون قد اخترقت مرحلة الإشباع في ذبذبات التماهي في الأنا والوجود ، التي تخلق معها الحروف وانسيابات الألوان ، فتغدو الصورة الفنية التعبيرية في الأدب واللوحة الفنية في تماهي مبدع ، تشكلت مادته من لوحة الواقع واسقاطاتها وتماهيات الأنا وتعرجاتها في الشعور وانعكاسات الزمان والمكان الذي تختزنه مشاعر الأديب والفنان فتنصهر في بؤرة أيدلوجيته وكنه أفكاره ، فتخلق مادة ابداعية في حلة سيكولوجية مرهفة ، تتجاوز القيود والأسوار وتسافر بعيدا في عوالم اللامالوف وارتسامات العاطفة بانسياب تحت مظلة حرة لاتقيدها الأسوار والحدود . وبذلك لاتكون الصورة الفنية نقلاً للواقع الخارجي بل هي شحنات عاطفية متولدة من انصهار الوجود في مخيلته ثم افراغة على المادة الأدبية او الفنية التي تشكل تؤامة روحية مع انعكاسات الأنا في ذاته الدفينة في عوالم اللاشعور الدفين لا جزءاً من الواقع الموضوعي المحيط به .
والسؤال المطروح هنا حول ماهية الحياة ؟ وهل هي ذاتها في الدراما المتشكلة في المسرح في كافة اشكالة او لغة القص والرواية اوانسكابات الشعر في اللذة والألم او لغة الفن التشكيلي في كافة خطوطها ، ومن وجهة نظري أن السؤال المطروح بهذه الصيغة عند الكثيرين يقتضي تعديل الصياغة فيه في بعد مدرسة سيكولوجيا الأدب ليدور حول هل الحياة تتشكل في تلك الفنون جميعا في المدرسة المثالية او الواقعية او التعبيرية ، وهل تتحقق ماهيتها في ظل المدرسة الكلاسيكية المحافظة في قيودها الصارمة أم المدرسة التعبيرية الحرة في التعبير ، أم لا بد من حالة تماهي تتوسط بينهما فتشكل ماهية الحياة .

وتبقى في نهاية المطاف سيمفونية الحياة مفردة احتار فيها الفلاسفة وتغني بها الجميع
وتاهت في موائد التنظير عند علماء النفس ، وكل بذل ما في وسعة في تحديد جوهرها وكنهها الدفين ، وبقيت عصية على كشف ردائها الأرجواني الذي يخبئ جمالا وجوديا ماسيا خاصا في الوجود وبقيت ظلالا فحسب تتشكل اشراقاتها النورانية على السطور ، وستبقى شعورا ذاتيا ينعكس في ظلال الأنا بكافة ألوانها ، وانعكاسات ازمان في كافة اطيافه ، وإسقاطات المكان في كافة تناثراته ، وستبقى شحنات متماوجة بين هدير هائج وانسياب هادئ وبين أسوار مغلقة وأفاق حرة شاسعة تخترق الحدود في لغة الوجود .

وعلى حد قول الشاعر الفرنسي رونسار:

يا صغيرتي هيا نرى الوردة

هل أسقطت هذا المساء

طيات فستانها الأرجواني

ولونها صنو بشرتك الجميلة ؟

واحسرتاه ! انظري ّ في هذا الوقت القصير

يا صغيرتي ، قد ألقت الوردة على التراب

واسفاة ! كل جمالها

يا للطبيعة القاسية !

آه لتلك الوردة الجميلة التي لاتعيش

إلا بين صباح ومساء

صدقيني إذاً يا صغيرتي

أنت في زهرة العمر

وفي خضرته المتجددة

اقطفي شبابك قبل أن يأتي عليه العمر

كما تقضي على الوردة الناضرة

وكما يجسدها الشاعر الفرنسي دي بولليه :
لو أن عمرنا ليس إلا نهارا واحدا بالنسبة للخلود ن لو أن السنة التي تدور تذهب بأيامنا دون رجعة ،
لو أن الأنسان مصيره الفناء ..

يا أيتها الروح الحبيسة ، ففيم الفكر اذاً ؟

لم تفضلين ظلمة العيش .

وأنت تمتلكين أجنحة .

تقودك ، لو أردت ، إلى بلاد النور ؟

هناك الخير الذي تصبو إليه كل نفس ..

هناك الراحة التي تتوق إليها..

هناك الحب والهناء .

هناك ، يا أيتها الروح ، ستحلقين إلى العلا ،

وستلتقين بالله .

الذي أعشق هنا صورته …"

وارجو في نهاية مطاف إطلالة مقالتي على ماهية الحياة في لغة سيكولوجيا الأدب ، أرجو أن أكون قد وفقت في تلك الإطلالة وحققت إضاءة مشرقة في ذلك الصدد وبلغت زبدة المقال في التعبير ، وإلى لقاء مستجد في اقتطاف ثمار الأدب والتواصل على مائدة العلم والنقد معا .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى