السبت ٢٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم فتحي العابد

ربيعة الجميلة

دأبت ربيعة على أن تهتم بجمالها منذ صغرها حتى أنها كانت لا ينتهي الشهر حتى تعاود تخضيب كفيها وقدميها بالحناء من فرط اهتمامها بجمالها وجسدها، فهي كانت بالفعل ذات جمال أخاذ لدرجة أنها لقبت بملكة جمال العمارنة (القبيلة التي تنتمي لها). واهتمامها الزائد بجمالها جاء على حساب تحصيلها العلمي، حيث أنها شغلت نفسها بجمالها وزينتها وتركت جنبا كل أمورها الأخرى، ولهذا فهي لم تنل شيئا من الشهادات الدراسية، حتى تلك الابتدائية التي كانت في متناولها، رغم ضغط والديها عليها اللذانلم ينجبا سواها. وعلى الرغم من عدم حصولها على أي شهادة إلا أنها كانت مطمع لكل أبناء القبيلة بل لكل من يراها، فكل منهم كان يتمنى أن تصبح ربيعة زوجة له، حتى أن أحدهم يوما غازلها بقوله:

قمر تستحي منه كل حوراء

غجرية تغار منك نجوم السماء.

وكانت هي سعيدة بهذا..

ومرت بها الأيام هكذا سلسلة جميلة الحلقات، أحلام وبهجة وعجب بالنفس.. إلى أن حدث يوما قدر الله المحتوم، ما لم يكن في الحسبان، فبينما هي تطبخ غداء والديها القريبي العودة من الحقول، إذ انفجرت عليها قارورة الغاز التي كانت تطهي عليها الطعام، وسببت لها تشوهات في الوجه والبدن، وحروق غائرة وعميقة عمق الجرح الداخلي الذي حطمها.. وأسرع بها بعض الجيران إلى المستشفى، وهي بين الموت والحياة ولكن الله كتب لها الحياة.. في خضم تلك الفاجعة أضيفت لأحزانها مصيبة أخرى، ألا وهو فقدان والديها في حادث مرور عند زيارتهما لها في إحدى الأيام وهي في المستشفى. بعد ذلك أضحت تتمنى الموت أفضل من الحياة فالحادث حادثين، الأولأذهب جمالها وأحرق شعرها الأصفر الطويل، ووجهها الأشقر أصبح مشوها من كثرة الحروق.. والثاني أفقدها أعز الناس عليها في الدنيا.. غادرت ربيعة المستشفى وهي يائسة ومحطمة، وباتت لا تفارقها الدموع والأحزان على حالها، وأصبحت لا تقوى على أن تنظر في المرآة، فالمرآة لم تعد صديقة لها كما كانت م
ن قبل.. بل أصبحت المرآة ألد أعدائها لا تقوى على أن تمسك بها وتنظر فيها، ولم تعد تهتم بجسمها وجمالها فلم يعد فيه جمالا..
تنظر إلى الحناء التي تشوهت حتى هي، وهي تبكي ولسان حالها يقول..
بعيدك أزهر الحنا نقوشها كزخرفه من الصحن من المرمر

وكف ناصع بيدي بريقا كبرق شقشق الدنيا وأسفر

وصبح صافح الحنا انصياعا لكف يانع الأطراف أحمر

يذوب القلب للحنا اشتياقا لغيد صاغها الحنا وعطر

هكذا أصبحت تواسي حالها.. وتتغنى بأيام خلت، وتسرب لقلبها يأس عميق بأنها ستظل هكذا إلى أن تموت.. وتنسكت في بيتها وصارت لاتفكر في شيء سوى في حالها وما آل إليه وظلت حبيسة الجدران.. رغم محاولة والديها التخفيف عنها ومحاولتهما قبل موتهما عرضها على أكثر من طبيب، ورفضت أن تقابل أحد حتى لا يجرح شعورها بكلمة واحدة حول كيف كانت وماذا أصبحت؟.. ومرت بها الأيام تتوالي إلى أن حدث أن زارتها تونس إحدى صديقاتها التي افتقدتها، فاستأذنت من والديها، وطرقت بابها وفتحت لها فإذا هي أمام فتاة جعلتها الهموم والأحزان أكثر من التشوهات التي أصيبت بها، تبدو وكأنها عجوز في المئة من عمرها
.
رحبت بها وأجلستها وسألتها عن حالها فقالت لها: "الحال ماترين، محطمة" فقالت لها ولما كل هذا فهل ما حدث لك يد فيه؟ فلا دخل لنا في أمر الله ومشيئته.. وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث هي تشكو لها وهي تواسيها، وأدركت من خلال كلامها أنها تسبح في بحور من الظلام واليأس فقررت بينها وبين نفسها ألا تتركها هكذا.. وودعتها وقد قدمت لها الوعد على أن تقوم بزيارتها مرة أخرى.. وخرجت لتوها متوجهة إلى طبيب شهير في التجميل سمعت عنه ويوجد في مدينة بعيدة، وعرضت عليه أمرها وطلبت الطبيب رؤيتها.. وبالفعل ذهبت إليه وهي تغطي وجهها بحجابها خوفا من أن يراها أحد على حالها هذا.. ذهبت وقلبها ينبض بالأمل في أن يعود إليها ولو جزء من جمالها مرة أخرى حتى تصبح البدر ليلة الرابع عشر كما كانت تقارن، وتتعامل مع الحياة بأمل وإن كان أمل يائس، إلا أنه أفضل من فقدانه.. قال لها الطبيب إنها تحتاج إلى أكثر من عملية تجميل، وذلك حتى تستطيع أن تعيش حياة طبيعية بين أقرانها..

ولكن كيف لها إجراء عمليات التجميل هذه وهي التي لا تملك من حطام الدنيا شيء؟ ولم يترك لها والديها سوى تلك الدار القديمة التي تكنّ إليها، وقطعة أرض صغيرة جدّا هكذا صاحت في نفسها.. ولكن تونس قطعت عليها طريق تفكيرها في هذا الأمر وقررت أن تنفق على كافة عملياتها التجميلية من ميراثها الذي حصلت عليه بعد موت والديها.. "تونس هذه طيبة القلب ولا شك".. هكذا صاحت ربيعة في نفسها وهي تتحاور معها.. حدد الطبيب يوم إجراء أولى العمليات التجميلية لها وذهبت إلى بيتها وقلبها ينبض بين أمل يائس ويأس آمل.. فهي تتمنى أن تنجح العمليات في عودة ما قد ذهب من جمالها.. وفي ذات الوقت تخشى أن لا تأتي العمليات بنتيجة إيجابية وتظل هكذا حبيسة الجدران والهموم والأحزان.. مرت الأيام وكانت تونسهي الوحيدة التي تسأل عنها وتتردد عليها وتبث في داخلها جرعات الأمل والثقة بكل ما بين جنبيها من عطف وحنان، فهي تعيش بعضا مما تعيشه من ظروف أسرية وإجتماعية.. حيث أنها مفتقدة للوالدين منذ مدة وطردتها زوجة الأخ.. شعرت تونسبأن ربيعة هذه في حاجة إليها كما أنها في حاجة إليها..

عاد أخو تونس إلى أخته بعد أن طلق زوجته، وقررا السكن مع بعضهما البعض بعد أن عادت المياه إلى مجاريها، ورأت ذلك ربيعة فاستبشرت وفرحت لذلك، وقررت بينها وبين نفسها أن تتزوج أخو تونس بعد أن يعود لها جمالها، كعرفان لجميلها وما فعلته من أجلها، رغم أنه متزوج من قبل ويكبرها بخمس وعشرين سنة، ولكي تبقى قريبة من صديقتها.

وأزف وقت دخول ربيعة لغرفة العمليات.. ولأنها عملية معقدة وليست هينة.. قرر الطبيب الإستعانة بطبيب تخدير متخصص وذلك لظروف ربيعة الصحية والنفسية.. وبدأ الطبيب في إجراء عملية التجميل الأولى في وجه ربيعة وانتهى منها بعد حوالي 5 ساعات كاملة وانتقلت من غرفة العناية المركزة التي مكثت فيها بعد العملية يوما كاملا.. ومرت عليها أيام في المستشفى ثم خرجت منه على أن تعود إليه بعد مدة لإجراء العملية الثانية بعد إجراء تحليلات على قلبها والدورة الدموية.. بعد التحاليل أخبرها الطبيب أنها لاتستطيع إجراء أي عملية أخرى لأن قلبها لايقوى على تحمل المخدر بسبب جرعة المخدر الزائدة التي تناولتها في العملية الأولى.. أخذت تبكي وتمكنت منها الأحزان من جديد، لكن أخو تونس خفف من روعها حين طلب منها أن تتزوجه، تعللت بحالتها الصحية، فأصر، فلما رأت منه ذلك الإصرار الزائد قبلت.. وأنجبت ولدا وبنتين غاية في الحسن والجمال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى