الأربعاء ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
في مسرحية (البطة البرية) لهنريك إبسن
بقلم محمود فهمي عامر

مفهوم المثالية وكذبة الحياة

كأن هنريك إبسن في مسرحيته (البطة البرية) بيننا الآن، ويتابع منتدياتنا الحياتية وأحوالنا الشخصية، ويطلب إلى القراء الحقيقيين غير المفترضين أن يعودوا معه إلى ماضي بطته البرية ليشاركوه (الصدى) الذي أرّقه في مسرحيته، وأقام عليه عالمه السحري بين المثالية وكذبة الحياة بتحيز عاطفي خفي إلى طرف من أطراف الصراع يبدو خلال العمل المسرحي أنه ضده بانتصار الآخر عليه في نهايته الحزينة، ويستدرجنا بكفياته الأدائية في بداية كل فصل من فصوله الخمسة إلى ظروفه الزماكانية المعقدة بتفاصيلها الموحية إلى ما سيحدث في كل فصل؛ لنصل في نهاية العمل إلى حل العقدة (الصدى)، وما تعلق بها من مستنقع الثنائية بين المثالية وكذبة الحياة، وحتى لا نكون نظريين وقراء مفترضين نَمُرّ على النص مسرعين نضع بين يدي القارئ الحقيقي المقدمات الآتية للفصول الأربعة من هذه المسرحية، ونحاول خلالها توضيح العلاقة بين الصدى والزماكانية وتلك الثنائية في بطه هنريك إبسن البرية: (ستديو هيلمر أكدال، وهو غرفة فسيحة في أعلى المنزل، إلى اليمين سقف منحدر يتألف من ألواح زجاجية كبيرة، وتغطيه إلى قرب المنتصف ستائر زرقاء، في الزاوية اليمنى من الصدر باب الدخول، وإلى الأسفل في نفس الجانب باب يفضي إلى غرفة الجلوس، وفي الجانب الآخر بابان.. وفي الصدر باب كبير مزدوج، الفصل الثاني ص57) (ستوديو هيلمر أكدال، والوقت صباحا، وضوء النهار يسطع من خلال النافذة الكبيرة في السقف المنحدر، وقد رفعت عنها الستائر، الفصل الثالث ص93) (ستوديو هيلمر أكدال.. نلمح في الغرفة آلة التصوير فوقها غطاؤها الأسود.. نحن في الأصيل والشمس على وشك المغيب، ولن يلبث أن يحل الظلام، الفصل الرابع ص129) (ستوديو هيلمر أكدال، في ضوء الصباح ذات يوم بارد كالح، يبدو الجليد الندي على الألواح الزجاجية الكبيرة للسقف المنحدر، تأتي جينا وقد ارتدت مئزرا، وفي يدها مكنسة ومنفضة، وتتجه إلى باب البهو، وفي هذه اللحظة تدخل هيدفج مندفعة من باب الصالة، الفصل الخامس ص163).

لقد ركّز هنريك إبسن خلال هذه المقدمات على: عبارته الاستفتاحية (استديو هيلمر أكدال)، ثم أثثها بالأبواب، والسقف المنحدر، والألواح الزجاجية، والستائر، والصباح المتغير مع الحالة المكانية وأحوال الساكنين، فهذه الألواح الزجاجية كانت في الفصل الثاني مغطاة إلى المنتصف بالستائر، ثم رفعت عنها الستائر التي تحجب كل الصباح، وهذا يعني أن الحقيقة كانت غير صريحة كصراحة النهار المغطى إلى منتصفه، ولكنها ما لبثت أن أصبحت في الفصل الثالث ساطعة سطوع النهار نفسه، وما جاءت الأبواب الكثيرة إلا لتعبر عن أسرار البيت وكذبتهم، وأسئلة المثاليين الكثيرة التي تسعى إلى اختراق سعادتهم خلال السقف المنحدر، الذي يشير إلى الضعف الذي تدعمه تلك الألواح الزجاجية الشفافة، التي حل فوقها الموت المتمثل بالجليد الندي، وتحوّل الستارة في النهاية إلى مئزر ترتديه جينا؛ ليعلن الكاتب حقيقتها التي حاولت أن تخفيها عن المثالي جريجرز بمساعدة نصيرها كذبة الحياة رلنج، وهذا الصراع دفع البطة البرية إلى (الصدى) الذي لا يمثل طبيعتها الإلهية، وذلك حين اندفعت بتأثير مثالي إلى الانتحار؛ لتستمر كذبة الحياة، وإن حاولت المثالية الاعتداء على وجودها، وهذا ما جعلني أقول في البداية(يبدو خلال العمل أنه ضده بانتصار الآخر عليه)، فالانتصار الحقيقي المخفي ظهر بإيثار هديفج وتضحيتها في سبيل ديمومة الكذبة، وموتها ليس انتصارا للمثل أو (المبادئ التي وصفها رلنج بالأكاذيب ص170).

وأنا أشكر الناقد عبد الحليم البشلاوي على مقدمته النقدية الواعية لهذه المسرحية؛ حيث وضع لنا حجر الأساس، وفتح أعيننا عليه، وهذا يجعلني أعود وأكرر، خصوصا عندما أكون في مثل هذه الظروف الكتابية، ما سمعته من أستاذي رشدي حسن نقلا عن أستاذه شوقي ضيف بتصرف: (الكاتب يستطيع أن يجد موضوعا جيدا للكتابة معتمدا على كلمة أو تركيب أو جملة وردت في دراسة هنا أوهناك، وما كانت أعظم الموضوعات وجودا فنيا وجدلا ثقفيا وحضاريا في ساحتنا الأدبية إلا نتيجة هذه السياسة الكتابية، كشياطين الشعراء التي ظهرت مصطلحا في ثنايا كتاب، لتكون كتابا مستقلا).

من هذا الفهم أقول: اعتمد الكاتب النرويجي هنريك إبسن في صنعته الدرامية وتطويره للأحداث في مسرحية البطة البرية خلال فصولها الخمسة على الصراع القائم بين (المثالية) التي أدى دورها جريجرز فرليه، و(كذبة الحياة) التي دافع عنها رلنج الطبيب؛ ليصل إلى قضيته الفكرية الخالدة وفلسفته المتحيزة لكذبة الحياة وسط ثقافة العصر المثالية، وما كان تأرجحه بين الرومانسية والواقعية خلال هذا العمل المسرحي إلا ليكشف لنا عن طبيعة هذه الثنائية بين كذبة الحياة والمثالية، وانتهج خلال صراعه أسلوب (إبراهيم حمدي) البطل في رواية (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس، وهو أسلوب يعتمد على كاريزما الشخصية، فترى الآخرين خلالها يؤمنون بفكرتك ويمارسونها دون أن تطلب إليهم ذلك، أو أن تجعل نفسك مسؤولا عنهم وقائدا لهم.

بهذا الأداء السيميائي المرتكز على الإشارة والتلميح قدم الكاتب النرويجي، الذي يعد في مفهوم برناردشو أعظم من شكسبير، فكرته الفلسفية وطريقته العلاجية التي حضنت إضافة لما سبق الجانب النفسي لبلورتها، ثم وضعها بين يدي القراء؛ ليقولوا كلمتهم في (كذبة الحياة) و(المثالية)، وقد يصل غيري إلى المثالية ويكون معها، ولكنني وجدت نفسي في هذا العمل المسرحي منحازا إلى أن يبقى الإنسان في كذبته وأحلامه وأوهامه ما دامت هذه الكذبة تعد حاجة اجتماعية أو ضرورة إنسانية تحقق سعادته، وتمنحه القدرة على الاستمرار في بسمتها، وإن كانت صفراء متكلفة، خصوصا إذا عاش معها فترة طويلة من الزمن، وأنا لست هنا مع من وصف إبسن بالمثالية المتطرفة حين اختار كما قالوا تمزيق الأقنعة كلها؛ لأنه سعى في هذه المسرحية إلى تثبيت ثلاثة أقنعة مرتبطة بكذبة الحياة، الأول كان لهيلمر أكدال وكذبة حياته المتصلة بقدرته الخارقة على اختراع يعيد هيبة العائلة، متجاهلا السر وراء الدعم المالي والمعنوي من قبل فرليه، وحقيقة جينا، ووحيدته هدفيج، والثاني للضابط أكدال الأب صياد الدببة القديم الذي (أغلق على نفسه أبواب قاعة مظلمة وراح يقتنص الأرانب... ذلك العجوز الذي يصول ويجول وسط مهملات تلك القاعة... الشجرات الأربع التي استبقاها من مخلفات أعياد الميلاد تبدو لنظره وكأنها غابات هويدال الشاسعة ص196)، أما الثالث فجعله لمولفيك(طالب لاهوت سابق) الذي يظن أن عفريتا يلازمه، وهذا العفريت هو الذي يحفزه على العطاء ومواكبة الحياة بإيجابية ومرح، وفي المقابل أراد أن يزيل قناعي المثالية عن جريجرز، ومسسز سوربي مدبرة البيت عند فرليه، وأراد إبسن من هذه الثنائية المتصارعة ولعبة الأقنعة إصلاح ذات البين من جهة، وكشف الأكاذيب المتصلة بالمثاليين ومنافعهم الشخصية وحقدهم الدفين الذي لا ينسجم مع سعادة الإنسانية من جهة أخرى.

وعلى طريقته الانقلابية المعروفة عند النقاد خصّص هنريك إبسن الفصل الأول في بيت الثري فرليه؛ ليكون المكان التمهيدي والبيئة الخصبة الحاضرة التي ستنتج حمى الصراع حول أحداث جرت في الماضي وما زالت مغلفة بالغموض والشك، وتنتظر من ينقل العدوى من هذا الفصل إلى الفصول الأربعة المتبقية، وعلى الرغم من الصراع بين فايروس المثالية وترياق كذبة الحياة، ونهاية المسرحية الحزينة، إلا أن الكاتب نجح في فلسفته الوجودية، وانتصر بالانتحار؛ ليظهر بشاعة العمل المثالي عندما يحاول كشف الستار عن كذبة الحياة.

وحمل هذا الفصل التمهيدي الرقم المنبوذ (13)، وهو عدد المدعوين للحفل الذي أقامه فرليه على شرف ابنه جريجرز الذي عاد بعد ثماني سنوات؛ ليلتقي بصديقه الرقم(13) هيلمر أكدال بعد أن وجه له دعوته المثالية دون علم والده الذي استنكر العدد المذكور على مسامع صاحبه؛ حتى قال هيلمر: (لم يكن هناك داع لأن تدعوني يا جريجرز ص32).

وفي هذا الفصل أدى جريجرز المثالي دور المحقق والشاهد والمحامي والقاضي، وأعلن من اللحظة الأولى في وجوده المسرحي فلسفته الوجودية القائمة على الشك المصبوغ بمثاليته الحاقدة كما بدا لنا ذلك في حواريين متتاليين، كان الأول مع هيلمر أكدال حول ظروف زواجه من جينا هانسن التي تولت تدبير البيت في العام الأخير من مرض أمه، ونفقات الزواج السريع والبيت، والأستديو، فأمسى والده كما قال جريجرز: (بمثابة العناية الإلهية ص38) لهيلمر، والثاني ختم به الفصل الأول، وجعله مع والده فرليه، وكان حوارا وقحا كما وصفه الأب عندما قال: (أو تجرؤ... لديك الوقاحة ص49... كيف تجسر على مخاطبتي بهذه اللهجة ص54)، وصعبا مع مثل هؤلاء المثاليين؛ لأنه كما قال فرليه لابنه جريجرز: (ولكن من الصعب أن يتفاهم المرء مع أناس مظلمي التفكير متوتري الأعصاب ص50)، وحدّق جريجرز في شكوكه نحو الجانب الاتصالي التبادلي الذرائعي والصدفة العشوائية؛ وربطها بحساسية الاعتماد على الظروف الخارجية، والافتراض المسبق؛ ليصل بمثاليته إلى تفسير تلك المساعدات الإلهية التي جعلته يستنكر كرم أبيه قائلا: (وراء الأكمة ما وراءها ص52... عندما أعود بذاكرتي إلى ماضيك يخيل إلي أني أرى ساحة قتال تتناثر فيها أشلاء الضحايا ص55).
وانتقلت الشكوك المثالية لتسكن في الفصول الأربعة في بيت هيلمر أكدال، حيث استأجر جريجرز غرفة عنده، وترك قصر أبيه؛ انتصارا لفكرته على كذبة الحياة، ورغبة في كشف الستار عن مسرح استديو هيلمر أكدال، وجاء حواره الأول مع جينا وهيلمر في الفصل الثاني، ليعزز من اللحظة الأولى مثاليته الحاقدة، ونيته السيئة التي تسعى إلى الحقيقة، وإثارة البطة البرية؛ لتخالف طبيعتها الإلهية، فالبط البري سبحان الله لا صدى له، ولكن الكاتب أراده على أيدي المثاليين أن يكون له صدى (ص73-76):

جريجرز لجينا: هل تذكرينني أم لا ؟
جينا: بالطبع أذكرك.
جريجرز: هذا لأنني أشبه أمي؟
جريجر: هذه إذن ابنتك؟
هيلمر: نعم.
ـ ابنتك الوحيدة ؟!
ـ يتهددها داء خطير قد يذهب ببصرها.
ـ وما تفسيرك للموضوع ؟
ـ مرض وراثي.
ـ وراثي؟!!
جينا: كانت حماتي ضعيفة البصر.
جريجرز: سوف تزداد شبها بك يا جينا، ما عمرها الآن؟
ـ تشرف على الرابعة عشرة.
ـ هي إذن أكبر من سنها... كم عاما انقضت على زواجكما الآن؟
ـ تزوجنا منذ... منذ... خمسة عشر عاما تقريبا.
ـ كل هذه المدة ؟

لقد سعى جريجرز بفضوله المثالي إلى أن ينبه هيلمر أكدال إلى حقيقة البطة البرية بعد تلك السنوات السعيدة، وأراد أن يلتفت إلى ذلك المستنقع (كذبة الحياة) الذي يعيش فيه، واستعان بالرمز في الفصل الثاني وبداية الفصل الثالث، ولكن هيلمر الساذج لم ينتبه، والمثالي مع مثل هذه الحالة الإنسانية ووجود رلنج الطبيب لا يكتفي بالرمز، ولا يفضله كثيرا، بل يرى سمو رسالته في مباشرة الطرف الآخر بالحقيقة (ص121-122):

رلنج لجريجرز: أليست متعة أن يجلس المرء ولو مرة في كل حين إلى مائدة حافلة في جو عائلي ترفرف عليه أجنحة السعادة ؟

هيلمر: آه، كم أستمتع بأوقات هذه الولائم!

جريجرز: أما أنا فلا يلائمني بخار المستنقع !!!

جينا: يعلم الله أن بيتنا خال من رائحة المستنقعات!! أنا أعمل على تهوية المكان جيدا كل يوم.

جريجرز: لن تجدي التهوية في طرد النتن الذي أعنيه.

رلنج: أرجو المعذرة، أليس من الجائز أن يكون هذا النتن قد جاء معك أنت من المناجم؟. اسمع يا بن مستر فرليه، يخيل إلي أنك لا تزال تحمل نسخا من ذلك النداء الأمثل بصيغته غير المختصرة، في جيب سترتك..

جريجرز: بل أحملها في قلبي.

رلنج: أينما كنت تحملها فنصيحتي إليك ألا تقذف بها في وجوهنا هنا، طالما أنا موجود.

فانتقل جريجرز إلى طريقته المباشرة، وطلب إلى هيلمر أن يرافقه (في نزهة طويلة ص127)، مما دفع جينا إلى القول: (لو كنت مكانك ما خرجت معه يا هيلمر ص127)، وأيدها رلنج عندما قال: كلام في محله، ابق مكانك ص127)، ولكن هيلمر لم يستمع إلى النصيحة، فجاء الحوار التالي خاتمة للفصل الثالث؛ ليؤكد الصراع بين المثالية وكذبة الحياة (ص127-128):

رلنج: يا للشيطان! ألا ترى أن الرجل مخبول ملتاث العقل!

هيلمر: وهذا ادعى إلى أن يلقى بجواره صديقا عطوفا.

رلنج: مما يؤسف له أن ذلك الشخص لم يذهب إلى الجحيم في منجم من مناجم هويدال.

جينا: لماذا تقول ذلك؟

رلنج: إنه يشكو من التهاب حاد في الضمير.

جينا: وهل هذا النوع من الأمراض؟

رلنج: نعم، وباء قومي، غير أنه لا يظهر إلا من آن لآخر.

وإبسن في أجواء مسرحيته يرى المثالية وباء شيطانيا قام بتكراره على لسان رلنج؛ ليؤكد خطرها على المجتمع (ألا فليأخذك الشيطان ص140)، وهذا الصراع بين المثالية الشيطانية وكذبة الحياة استمر حتى آخر تركيب في مسرحية البطة البرية (يا للشيطان! ص193).

ويبقى الصراع في هذا النص الكلاسيكي المكتوب مفتوحا على مصراعية بين المثالية واتباعها من المشعوذين والدجالين وكذبة الحياة، وهو نص لا يسعى إلى إبراز حقيقتهم فحسب، بل إلى تفجيرها في ظل الضحايا الكثيرة المتناثرة هنا وهناك في عالمنا المثالي، وبطتنا البرية لا تختلف عن بطة إبسن التي دفعت هيلمر المتأثر الجديد بالمثالية إلى أن يقول: (بودي لو قصفت رقبة تلك البطة البرية الملعونة ص 132)، وهي ذاتها التي جعلت جينا الضحية تقول: (هذه هي النتيجة التي نصل إليها عندما يسعى بعض المعتوهين للترويج للمثل العليا ص162).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى