الاثنين ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم فرهاد ديو سالار

موقف أبي العلاء المعري من الدهر

الموجز

يفكر الإنسان دائما في حاله كما أنه يفكر في الكون وألغازه وأسراره؛ وعنده أسئلة كثيرة يعقبها عدم الراحة والقلق والخوف وهي: من أين أتى؟ ولماذا؟ وإلى أين يذهب؟ وليس هذا الخوف إلاّ خوفا من المجهول الغامض الذي يخافه الإنسان مدى الدهر. ويعرف أنه يعيش حياة قصيرة متغيرة، فيها الشيخوخة والمرض والنهاية المحتومة إلى الفناء، كما أنه يعلم أن البقاء مستحيل وكل حي مصيره الفناء فيصيب بالقلق الوجودي. في هذا المنطلق، يؤمن بعضهم بأن الدهر هوسبب الهلاك؛ كما أنه سبب اضطرابه الفكري وقلقه الروحي. والدهر غالب وناظر على الأمور كلها، ويضيفون إليه كل حادثة فيحيلون عليه باللوم والعتاب؛ كأنه مسؤول عن أعمالهم، إذن هم متشائمون. وقليل منهم الذين يصلون إلى الكمال والنضج العقلي فاستطاعوا أن يعتقدوا بالقضاء والقدر ويؤمنوا أن الدهر لايهلكهم؛ بل الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، إذن موقفهم إيجابي وهم متفائلون.

هذا اللون الشعري المطوي على ذم الدهر سمي شكوى الدهر أوالدهريات، حيث أصبحت فنا مستقلا في العصر العباسي الثالث وانصرف كثير من الشعراء إلي نظمها والإكثار منها. هنا نريد أن نناقش موقف أبي العلاء المعري من الدهر.

الكلمات الرئيسة: الدهريات، شكوى الدهر، ذم الدهر، العصر العباسي الثالث، القلق الوجودي.

المقدمة

إنّ الإنسان في حياته خاضع لتقلب الزمن وحدثان الدهر، وهذا صحيح أنّ المرء يستطيع أن يعيش بالشكل الذي يريده ويرضاه. ولكن في الحياة، أحوالاً لاتخضع لإرادة الإنسان فهي تارة حلوة وتارة أخرى مرة. وقليل من الناس يصلون إلى الكمال والنضج العقلي وينظرون الحياة بمنظار التفاؤل، ولكن أكثرهم يدفعون نحوالتشاؤم في الحياة وهم أولئك الذين لايرون في الحياة غير الشقاء والفساد ويشعرون بالخيبة وفلسفتهم في الحياة مبنية على التشاؤم.

بعد أن فسدت الأحوال السياسية في العصر العباسي ولاسيما في العصر العباسي الثالث لانحلال الدولة العباسية وأدى ذلك إلى الاضطراب وإلى سوء الحالة الاجتماعية والحالة الاقتصادية، انتشرت الفتن فازدادت الأفكار التشاؤمية. فمن جراء ذلك لجأ كثير من الناس إلى التشكي فنظموا أبياتا مستقلة في شكوى الدهر وذمه واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم فاستقل هذا الفن الشعري وسمي بالدهريات.

شعر الدهريات شعر وجداني مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها وقد رسم لمخاطب صورا جليّة مثّلَت شرائح المجتمع الإسلامي في العصر العباسي. وهوشعر صادق لم ينظمه أصحابه رغبة في منصب أوتزلّفا لحاكم؛ إنما كان نبض فؤاد واضطراب جوانح كشف كثيرا من الدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية وألقى الضوء على الواقع الذي عاشته أمة الإسلام حينا من الدهر.

سار الشعراء في العصر العباسي على نهج سابقيهم الذين أكثروا الشكاية من الدهر وحوادثه التي أوهنت قواهم ونسبوا للدهر كلّ بلاء وسوء متناسين حكم الشرع في النهي عن سبِّ الدهر وحسبوه عدوالأحرار وكرام النفوس كما نرى الحال عند المتنبي حيث بلغ من حنقه عليه أن اعتبره غريما حيا يطارده ويعاكسه. كما على رأيه أن الدهر هوالذي يقسم الحظوظ والمواهب على الناس ولكنه مطبوع على الجور.

وأما الأفكار الإيجابية فقليلة جداً في العصر العباسي وقلما تجد شاعراً متفائلاً بالنسبة إلى مسألة الدهر ويمكن أن نعد أباتمام شاعراً مع نظرة إيجابية للدهر. مع أن حياته كانت ملئية بالآلام والمشا كل وأحس قسوة الدهر وشقائه، ولكنه تصبر واعتقد أن الإنسان مادام يرى الأمل في نفسه عليه أن يجاهد وألا ييأس حتى يصل إلى هدفه.

يمكن أن نقسم تشاؤم الشاعر العباسي بالنسبة لمسألة الدهر والموت إلى قسمين: التشاؤم النفسي والتشاؤم الاجتماعي.

وأما التشاؤم النفسي عند الشعراء العباسيين، فيجعلهم مشغولين بأنفسهم ويعكفون على آلامهم وهذا اللون من شعر المعاناة والألم الذي يهتم الشاعر العباسي ببيان آلامه النفسية ينبع جميعاً من أصل واحد وهوالشعور بالفناء وعبثية الدهر ويتخذ الموقف السلبي ويبدأ بالشكوى عن الدهر ويتبرم به.

ويمكن أن نرجع شكوى بعض الشعراء العباسيين إلى إدراكهم أوشعورهم بنقص في أجسامهم وضعفهم ويعانون من العقد النفسية مثل عقدة الشعور بالنقص وعقدة أديب. مثل مايشعر أبوالعلاء المعري وإبن الرومي بضعفهما الجسمي حيث يجعلان أدبياتهما مبنية على التشاؤم لأن الدهر يحرمهما من لذة الحياة والدنيا.

أما التشاؤم الاجتماعي عند الشاعر العباسي، فينبع من مجتمعه ولا من نفسه وحده. لأن الشاعر العباسي عاش في عصرشديد الاضطراب سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً وعقائدياً. إنّ المصائب أحاطت به، وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في أشعاره ويترك آثاره فيها. وقد تأثر الشعراء بما أصاب الناس من خراب، تعذيب، إذلال ودمار. ينتشر الترف في بيوت الخلفاء والأمراء حينما ينتشر الفقر في عامة الشعب، فيلجأون إلى العزلة ويدق نفسيتهم في إدرك الواقع.

على سبيل المثال أبوالعلاء، المتنبي، الشريف الرضي وغيرهم من الشعراء لم يكن شعورهم وفقا على خلجات أنفسهم فقط؛ فهم قد شاركوا الشعب في مصائبهم وسمعوا شكاوى المظلومين والفقراء وعالجوا مشاكل مجتمعهم مع أنهم عانوا بذاتهم، لكنهم لن يغفلوا عن المجتمع الذي عاشوا فيه.

من الشکاوى السائدة في العصر العباسي هي: الشكوى من السجن والاغتراب، والشكوى من المرض والآفات والشکوی من أمراض الكِبَر وفقد البصر والشكوى من الآفات: آفة الشباب الشيب وآفة الحياة الموت...وإلخ.

المعري، حياته وشعره:

أحمد بن عبدالله بن سليمان بن محمد التنوخي المعروف بالمعري ولد في المعرة سنة 3٦3 ه. توفي سنة ٤٤٩ ه.

أصابه الجدري وله أربع سنين، فكف بصره وهوطفل، وكان يقول: "لاأعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر".

وجد المعري في محبسه بالمعرة مالم يجده في بغداد من الشهرة فراسله العلماء والأدباء والأمراء وقصده طلاب العلم من كل مكان يغترفون من علومه وفنونه.

وشهد هذا العصر صراعات بين تلك الدويلات الصغيرة التي نشأت في قلب الأمة وتطاحنا شديداً جعل الأمة من الداخل كما يغلي المرجل بالماء.

عاصر أبوالعلاء المعري من تلك الدويلات البويهين والحمدانية والمرداسيين والفاطميين وشاهد التطاول الدامي بينها.

وفي ظل تلك الأوضاع السياسية القائمة انعدم العدل والإنصاف وساد الطغيان والظلم، وزالت رحمة الراعي على الرعية، وحلت محلها الغلظة والخشونة.

أما الحياة الاقتصادية فلم تكن بأفضل من الحياة السياسية فإن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطميين، وعمل كل منهم على كل مايستطيع من الأموال لنفسه، فكانت تدخل على الضرائب والجنايات زيادات ترهق الشعب إرهاقاً شديداً وما أحسن ما صور به أبوالعلاء ذلك الظلم الذي يقع على الناس إذ يقول مصوراً حال عصره:

وأرى ملوكاً لا تحوط رعية
فعلام تؤخذ جزية ومكرس

والحياة الاجتماعية هي الأخرى أصابها الوهن فضعفت الثقة بين الأفراد فانتشر الفساد وعمت الفوضى أرجاء البلاد.

وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر في الدين والفرائض، فأصبح الدين أضعف من أن يسيطر على النفس والضمائر وأصبح الإنسان في عصر لايفكر إلا في مصلحته ولوعلى حساب الآخرين.

عاش المعري حياة طويلة مضطربة فيها قلق وتشاؤم ومرارة وشكوى، وكان لعناصر شخصيته أثر في توجيه تفكيره، وصبغ آرائه بصبغة خاصة ميزت المعري عن غير من الشعراء والأدباء وخاصة أن قرر المعري لزوم بيته وانصرافه عن كل شيء في الحياة إلى النقد والتهكم دون أن يحاول الإصلاح الذي يقترح له سبيلاً بل يرى أن الإصلاح أمر مستحيل، ومن يحاول ذلك فإن مصيره الفشل.

والمعري شديد التشاؤم، شديد الكراهية للحياة وملذاتها، وكان لذلك التشاؤم داوفع متعدة أهمها: عماه الباكر، فقده لأبيه، نكباته في بغداد، فقده لأمه، مزاجه السوداي وفساد الحالة السياسية في عصره. وإن كان المعري يتظاهر بالصبر والتجلد، ولكن يخونه تجلده أحياناً فتراه يصرح بالشكوى من العمى.

وكم اشتكت أشفار عين سهدها
وشفاؤها مما ألم شفار
ولطالما صابرت ليلا عاتما
فمتى يكون الصبح والإسفار

ويقول:

عمي العين يتلده عمى الدين والهوى
فليتني القُصرى ثلاث ليال

وكل هذه العوامل المجتمعة أثرت في نفسية أبي العلاء فجعلته ينظر إلى الحياة نظرة قلق والتشاؤم، ودفعته إلى العزلة وحبس نفسه في بيته، وإلى تنبيه تلك الأفكار التي ضمنها كتبه وأشعاره ومنها لزومياته التي مملوءة من أفكاره الناضجة، فيه يتساءل عن حقيقة الحياة وأسرار الوجود ويبحث عن مشكلات الخير والشر وعناء الحياة وراحة الموت، والتي صور فيه بصدق حالة العصر الذي عاش فيه، صورة صادقة نابعة عن تجربة مؤلمة في مجتمع تحكمه المادة، والتعالي على الآخرين، ولذلك اتجه المعري إلی أمر أخر يحقق به ذاته، وهوالتفرغ للعلم والعمل، وتحقق له بذلك ما أراد، ففاق فيه أهل زمانه، فكان حقا موسوعة علمية غزيرة.

يری المعري أن المصائب سببها الناس وأخلاقهم وأفعالهم السيئة والتي يصرون عليها وقد أطال التفكير، فلم ينتج له ذلك إلا أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه. وجميع البشر في نظره سواء في الفساد وقبح الطباع لأنهم ثمرة فساد، وهكذا، فكل حي علي الأرض شرير كاذب. فالطبيعة البشرية عند المعري فاسدة من أصل الخلقة، فالفساد غريزة فيه والشر قاسم مشترك بين الناس، إنهم يتفاوتون غنىً وفقراً وجمالاً وقبحاً ولكنهم يتساون عند طبعهم الشرير.

إن مازت الناس أخلاق يعاش بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أوكان كل بني حواء يشبهني
فبئس ما ولدت في الدهر حواء

ويرى أن تلك الطبيعة الفاسدة إنما هوقضاء، قضاه الله على بني آدم وماالناس في هذه الدنيا إلا كلاباً يتصارعون عليها رغم أنها لاتتعدى أن تكون جيفة نتنة.

رأيت قضاء الله أوجب خلقه
وعاد عليهم في تعرفه سلباً
وقد غلب الأحياء في كل وجهة
هواهم وإن كانوا غطارفة غلباً
كلاب تغاوت أوتعاوت لجيفة
وأحسبني أصبحت الأمها كلباً
أبينا سوى غش الصدور وإنما
ينال ثواب الله أسلمنا صدراً
وأي بني الأيام يحمد قائل
ومن جرب الأقوام أوسعهم ثلباً

ومهما حاول الإنسان أن يظهر النفع لأخيه؛ فإنه في ذلك ماكر ومهما امتدح نفسه فهوكذاب يغتاب الأصل ويدعي التقوى والصوم والوفاء.

إذا أقبل الإنسان في الدهرصدقت
أ توهمني بالمكر أنك نافعي
وتأكل لحم الخل مستعذبا له
أحاديثه عن نفسه وهوكاذب
وما أنت إلا في حبك جاذب
وتزعم للأقوام أنك عاذب

والإنسان في هذه الحياة بئس المعاشر لما يتصف به من الغدر وحب السب للآخرين:

بني آدم بئس المعاشر أنتم
ئ وجدتكم لاتقربون إلى العلى كما
فما فيكم واف لمقت ولاحب
أنكم لاتبعدون عن السب

وما في هذه الدنيا من صغير وكبير إلا أثوم غشوم ميال إلى الشر فخور بفعل الخيرات يتبع المن والأذى حيث يقول:

لعمرك ما في الارض كهل مجرب
ولا ناشىء إلا لإثم مراهق
إذ بض بالشيء القليل فإنه
سوء السجايا بالتبجّج فاهق

وهذه طبيعة البشر حب الفساد والشر فيا ليتهم لم يولد وكانت ولادتهم شرا وبلاء، يقول:

يا ليت آدم كان طلق أمهم
أوكان حرمها عليه ظهار
ولدتهم في غير طهر عاركا
فلذاك تفقد فيهم الأطهار

هكذا ينظر المعري إلى الطبيعة البشرية. إن الإنسان شرير بطبعه والفساد غريزة فيه، ولذلك لم ينتفع إصلاحاً ولم يرج لآلامه شفاء. ولا شك أن ما لاقاه المعري من آلام في حياته وشرور في عصره هي التي قوت في نفسه هذا الرأي، مما دفعه إلى اعتبار الناس جميعهم أشرارا وأنّ الخير معدوم فيهم، ولا فائدة في إصلاحهم ولا حلّ إلاّ في اعتزالهم وهجرهم.

لم يكن رأي أبي العلاء المعري في الدنيا بأ‏فضل من رأيه في الإنسان، فهوعليها ناقم ومن خستها اشتق لؤم الإنسان، فلم يزل يذمها ويصفها بصفات القبح حتى إنّه ليعد أكثر الشعراء ذماً للدنيا وبغضا لها وكان يرى الدنيا من خلال الظلام المسيطر على قلبه، فيرى في كل شيء فسادا وهكذا تلمس في تشاؤمه ألما مكبوتا وعنفوانا مضغوتا.

وقد ملأ أبوالعلاء كتابه اللزوميات بهذا التشاؤم الواسع من الدنيا ووصف لها بأنّها دار آلام وعذاب يستعرض الحياة فيها من جميع جوانبها وينقدها نقدا ساخرا في جرأة وصراحة.

والدنيا خسيسة أف لها ولأبنائها ليس بها إلا المصائب والبلايا، حيث يقول:

خسئت يا أمنا لها
لنا بنوالخسيسة أوباش أخساء
وقد نطقت بأصناف العظات لنا
وأنت فيما يظن القوم خرساء

يقول طه حسين عن لزومياته: " إنها إلى أن تكون كتاباً فلسفياً أقرب منها إلى أن تكون ديواناً شعرياً، وعمد بشعره إلى إثبات النظريات الفلسفية في الطبيعة والرياضة والألوهية والأخلاق".

يقول أبوالعلاء في ذمّ زمانه وأهل زمانه:

أتروم عن زمن وفاءً مُرضياً
إن الزمان كأهله غدار

يرى المعري الزمان نعم غدار، ويصرح بأنه لا أمل في إصلاح الحياة بل إنّ المحاولة لإصلاحها مستحيل:

فلا تأمل من الدنيا صلاحاً
فذاك هوالذي لايستطاع

ويرى المعري أن الزمن قديم كالمادة ولاشك أنه كان يرتبط الصلة الوثيقة بالفلسفة اليونانية في مبدأ قدم العناصر، وقدم الزمان والمكان، يقول:

قالوا لنا خالق قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا زمان
ولا مكان ألا فقولوا

اعتقد الشاعر بالجبرية، يرى أن الإنسان مجبر يولد مكرها ويهرم مكرها كما يعيش مكرها ويسير كذلك مكرها؛ يعني أن الإنسان لا يملك اختياراً ولاحرية ولا رأياً وهوأسير مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر:

ما باختياري ميلادي ولاهرمي
ولا حياتي، فهل لي بعد تخيير
ولا إقامة إلا عن يدي قدر
ولا مسير إذا لم يقض تيسيير

كما يرى في القضاء والقدر:

نبكي ونضحك والقضاء مسلّط
ما الدهر أضحكنا ولا أبكانا
نشكوالزمان وما أتى بجناية
ولواستطاع تكلماً لشكانا
والدهر لايدري بمن هوكائن
فيه، فكيف يلام فيما كانا

إن النظرية الفلسفية عند أبي العلاء تقوم على قائدة الشك في كل شيء إلا في حقيقتين هما: الله والعقل، فهوحائر في سبب الموت والوجود والخلق، ففي لزومياته صيحات ألم وصرخات حزن، كان القارئ يلمس يأسه وقنوطه من خلال أسئلة الدالة على شكه وارتيابه.

يضع المعري بجانب الله سلطة أخرى، هي القدر وهذه السلطة تبدوغاشمة ظالمة متحكمة بشوؤن البشر، قوتها لاتدفع ولاتغلب ولا ترد. يبدوأن المعري مضطرب في هذه الناحية أشد الاضطراب. فهوفي بعض الأحيان ينسب الظلم إلى القدر والزمان، كما في قوله:

وهوالزمان قضى بغير تناصف
بين الأنام وضاع جهد الجاهد

وإيمان المعري بالقدرناجم عن فلسفته الجبرية، كم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان في رأيه مجبر تحركه الأقدار كالريشة في مهب الريح لايستطيع إفلاتاً منها، وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق.

يغدوعلى درعه الزراد يحكمها
وهل يُنجّيه، مما قُدّر الزّردُ

يعترف المعري بأنه يجهل من خلق البشر، ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قديراً وهوالمنعم المفضل على عباده سواء أكانوا أهلاً للفضل أم لم يكونوا، سواء آمنوا به أم كفروا:

تورعوا يا بني حواء عن كذب
فما لكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبوا لقبيح من فعالكم
ولم يجئكم لحسن التوبة المطر

وكل ما يحرزه المرء في الحياة من نجاح وفوز فإنما هوبفضله ومنّه، لا بسعي الإنسان وجهده:

لم تبلغ الآراب شدة ساعد
ما لم يعنها الله بالإسعاد

ويلاحظ أن المعري يقر بوجوده، ويعترف بعظمته، ويشير إلى فضله.

كما يعترف أبوالعلاء بحرية الوجود، والعقل هوالدليل؛ لأنّ وجود العقل يقتضي أن الإنسان قادر على البحث والاختيار، ولوكانت الحياة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث، ولكان البشر بلاعقول أفضل منهم مزودين بها، بيد أن دور العقل أمام دور القدر:

الصمت أولى، وما رجل ممنعة
إلا لها بصروف الدهر تعثير
والعقل زين، ولكن فوقه قدر
فماله في ابتغاء الرزق تأثير

في هذه المرحلة شعر أن العقل شيء عظيم، ولكن القدر المطبق يلغي دوره، ويعطل تأثيره، ما قيمة عقل لاينفع أولايؤثر؟

وهكذا فيرى أبا العلاء المعري قد بالغ في ذم الدنيا، والتحقير من شأنها حتى إنه امتنع من أية لذة فيها وحذر من الجري وراءها، أواليسر في طريقها حتى لصغار السن. يقول:

فلا تطلب الدنيا وإن كنت ناشئاً
فإني عنها بالأخلاء أرباً
وهي ليست دار قرار إقامة
والرحيل منها أولى من البقاء

ويقول:

لعمرك ما الدنيا بدار إقامة
ولا الحيّ في حال السلامة آمن
وإنّ وليداً حلّها لمعذب
جرت لسواه بالسعود الأيامن

فالمعري لا يرى في الدنيا شيئا من الخير، وإنّما ملؤها الشرور والآثام لا سبيل إلي دفعها والدنيا في رأيه أفرغت الشر علي كل ما فيها سواء أكان إنسانا أوحيوانا، فهوساخط علي الدنيا متبرم بها، فطبيعي أن يرحب بالموت يريحه من المتاعب.

حياتي تعذيب وموتي راحة
وكل إبن أنثى في التراب سجين

ومن شدة كراهية للحياة فإنه يعتبره الموت عيداً، وأي تشاؤم بعد هذا التشاؤم أن يرى الرجل يوم موته عيداً يسعد به وينتظره بفارغ الصبر، خلاف الفطرة البشرية التي جبلت على حب الدنيا وكراهية الموت، كما يرى أن الإنسان يصنع الشر طبعا والخير تكلفا. يقول:

أنا صائم طول الحياة وإنما
فِطري الحمامُ ويوم ذاك أعيد

والعاقل المتدبر في نظر المعري ليست له راحة في الحياة التي عدمت منها مكارم الأخلاق إلاّ الموت. يقول:

تعالى رازق الأحياء جمعاً لقد
وهت المروءة والحياء
فمالي لاأكون وصي نفسي
ولاتعصي أموري الأوصياء

والموت أفضل من طول العمر والغنى في هذه الدنيا؛ لأنه راحة من مصائب الدنيا وشقائها:

موت يَسيرٌ معه رحمةٌ
خير من اليسر وطول البقاء
وقد بلونا العَيش أطوارهَ
فما وجدنا فيه غير الشقاء

والمعري لايكره الموت كما يكرهه الناس بل هويتمناه؛ لأن فيه راحة أبدية مما لاقاه في هذه الحياة المصائب والمحن. يقول:

إن يقرب الموت مني
فلست أكره قربه
وذاك أمنع حصن
يصير القبر دربه
من يلقه لا يراقب
خطباً ولايخشى كربه

وهكذا يری أبوالعلاء تفضيل الموت على الحياة لنقمته عليها، ولما لاقاه فيها من الإهانة والكوارث، فهويلوذ به وينتظره، خلاصه من كل شر، وشفاؤه من كل داء.

لم يكتف أبوالعلاء المعري بتمني الموت نفسه، وجعله منقذا له من حبسه في هذه الدنيا، بل يعتقد بأنّ الإثم كل الإثم؛ إنّما هوإنجاب الأبناء وتعريضهم لجميع ألوان الشقاء وبالغ حتى تمنى العدم لهذا الوجود وتمنى للوليد ألايولد وللحي أن يفنى. يقول:

فليت وليداً مات ساعة وضعه
ولم يرتضع من أمه النّفساء

وفي امتناعه عن الزواج والنسل ما يجعل المخاطب يرى جانباً من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على جميع أفكاره، ولعل ذلك ماجعله يوصي بأن يكتب على قبره:

هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيت على أحد

ويصل أبوالعلاء المعري ذروة التشاؤم في هذه الدنيا التي أذاقتها أفاويق العذاب أصنافا، فيحرم نفسه من لذة بها عندما تمنى الموت فلم يجده وطال به البقاء حتى مل الحياة وما فيها، ولذلك بادر إلى حبس نفسه في بيته واعتزال الناس، وفضل أن يكون نباتيا؛ لأن الاعتداء على الحيوان ظلم وتعسف. لم يكتف فيها الإنسان بظلم أخيه الإنسان بل تعداه إلى ظلم الحيوان والجور عليه، ومن هذا المنطلق فإن المعري يرى ترك هذا الظلم بالعزم على ألا يأكل من إنتاج حيواني وهويعض أصابع الندم على عمره الفائت الذي كان يشارك فيه الناس ظلمهم للحيوان.

ولما لم ير المعري في هذه الدنيا سبيلاً لإصلاح ولاطريقا لشفاء مما يعاني منه المجتمع ومما يراه المعري ظلما وعدوانا على هذه الحياة، ولم ينفع معها الحبس واعتزال الناس ولاترك الشهوات والملذات والاكتفاء بالقليل من الزاد، بدأ يتبرم بها فإذا هويرى كل ما حوله يبكي وأن الحزن يلتف حول رقبته يكاد أن يقطع عليه، حتى تغاريد الطيور يراها نواح وبكاء:

لعمرك ما بي نجعة فأرومها
وإني على طول الزمان لمجدب
حملت على الأولى الحمام فلم أقل
يغني ولكن قلت: يبكي ويندب
وذلك أن الحادثات كثيرة
وغالبُهُن الفطّ لا المتجدب

كان للعوامل النفسية والاجتماعية أثر كبير على أدب المعري وأفكاره التشاؤمية وكان أبوالعلاء المعري قلقاً متشائماً شاكاً في كل ما حوله، لايثق بأحد، ولا يعتمد على أحد، عزيز النفس كريما، رغم ما لاقاه في حياته من نكبات.

قصده من نظم اللزوميات الوعظ والإرشاد، وتضمنت اللزوميات آراء ‌المعري حول عصره والحياة فيه فكان لها ناقدا صريح النقد، كما قيل. بالغ المعري في آرائه حول المرأة فلم يجد فيها شيئاً حسناً بل اعتبرها صغيرة أوكبيرة سبيلاً للشرور. توصل أبوالعلاء إلى أنّ الراحة من شرور الدنيا ونكباتها العدم وقطع النسل. والأمل الوحيد الذي كان ينتظره المعري هوالموت يريحه من الحياة.

لذا لم يعد الموت لعنة، بل أصبح قدراً محتوماً لا يمكن أن يفلت منه الغني ولا الفقير، لا القوي ولا الضعيف، لا الحاكم ولا المحكوم، لا الطيب ولا الشرير، لا المريض ولا الصحيح. بل لعله حقيقة الوجود الوحيدة، فالحياة سريعة الانطفاء بحيث لا يمكن الاطمئنان إليها البتة. لم يعد الموت مخيفاً‌ والتحرر من هذا الخوف جعل إرادته أقوى وسخريته من الدهر أكثر قسوة ومرارة وانصرافه عن حياته وما أحاط بها ملذاته اختياراً صائباً وحكيماً، وقدرته على تحمل المشاق أشدّ‌ صلابة ومتانة.

إنّ الشعراء الآخرين يبحثون عن المجد والثروة ناسين أن الحياة قصيدة وأن الموت لهم بالمرصاد. وللحصول على ما يبتغون لا يترددون في بيع الضمير وماء الوجه والتمسح بأعتاب الملوك، أما هوفلا يعنيه شيء من كل هذا؛ لأنه أدرك مبكراً أن الحياة لا تستحق أن تعاش، وأن التعلق بها لايؤدي بصاحبه في النهاية إلاّ إلى الضرر وإلى ندامة ليست بالنافعة.

يرى الشاعر بالنسبة لدينه، بأنه ليس هناك دين أفضل من دين آخر وأنّ كل الأديان لها سماتها الخاصة، فإنه لجأ إلى العقل تماماً. لذا حكم أبوالعلاء المعري عقله في أغلب الأحداث السياسية والدينية التي عرفها عصره المضطرب.

كثير من الدراسين يعتقدون أن أبا العلاء تأثّر بالفلسفة الهندية لاجتنابه عن أكل اللحوم والبيض واللبن وتحريم إيلام الحيوان، كما في قوله:

فلا تأ كلنْ ما أخرج البحر طالما
ولاتبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولابيض أماتٍ أرادت صريحه
لأطفالها دون الغواني الصرائح
ولاتفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شرالقبائح

ولكن طه حسين يعتقد بأنه تأثر بفلسفة اليونانية.

تبدوأن حياة أبي العلاء أثرت في اتجاهاته المختلفة وفلسفته في الحياة ويمكن أن يقال بأنه كان ينشد عند العوامل النفسية والاجتماعية التي كان لها أثر كبير على أدبه وأفكاره التشاؤمية. فقد ذكرت آراء كثيرة حول بواعث النفسية بنسبة تشاؤمه للدهر وأهله ويرجع تشاؤمه إلى فقده البصر، الأم، الأب، الفقر، إساءة الناس إليه، تحول جسده، قبح منظره ومزاجه السوداوي كان من أهم الأسباب التي جعلته متشائماً من الحياة فترة طويلة من حياته.

ومن العوامل الهامة الأخرى في تشاؤمه، ردود الفعل الناجمة عن رفض أهل العصر لأفكاره الفلسفية اليونانية الهندية وغيرها، وما فيه من ثورة على الأوضاع السائدة وكان هذا الرفض في إتهام البعض له بالفكر والزندقة وتغير نفسيات أتباعه وتلاميذه، وهما كان يشعر بالمرارة وعدم الثقة بالناس، وبقسوة والجحود والظلم.

لذا يمكن القول بأنه كان يعاني من عقدة النفس ويشعر بها حين يدرك أن لديه نقصاً عن الآخرين، فيعتزل عن الناس ويبتعد عن أكل اللحم والزواج. يحتمل أن يقال بأنه يحب الحياة والدنيا كثيرا ولكن وجود نقائصه هوسبب اعتزاله وتشاؤمه، كما قال طه حسين بأنه تأثر بالفيلسوف اليوناني أبيقور الذي يذكر أن رأي أبيقور الذي انتهى إلى رفض اللذة عملاً؛ لأنه لم يستطع أن يحصلها دون الألم وهذا ما تدل عليه اللزوميات في مواضع كثيرة منها، قول أبي العلاء:

وقال الفارسون حيفُ زهدٍ
وأخطاءتِ الظُنون بما فَرَسْنه
ولم أعرِض عن اللذات ألاّ
لأن خيارها عنّي خَنَسْنَه

وعندما اشتدت الشعور بهذه النقائص مال إلى عدم الإعتراف بما لديه من عيوب، غير أن كل ما يذكر بالنقص يحمله بتلقائية على الدفاع عن نفسه. ومن سمات الشخص المصاب بعقده النقص: العدوان. كما يكره أبوالعلاء الدهر وأهله. فيحتمل كان يتظاهر المعري بالصبر والتجلد، ولكن أحيانا يرى، يصرح بالشكوى من العمى. من قوله:

وكم اشتكت أسفار عين سهدها
وشفاؤها مما ألم شِفار
ولطالما صابرت ليلا عاتما
فمتى يكون الصبح والإسفار

ويقول أيضاً:

عمى العين يتلوه عمى الدين والهوى
فليتنى القصرى ثلاث ليال

على هذا، أشعل هذه النقائص ونظريته الفلسفية التي تقوم على الشك في كل شيء إلا في حقيتين: هما الله والعقل، في نفسه جذوة اليأس والألم، فمُقت الحياة واعتزل الناس. فإنه يسجن نفسه وروحه في ثلاثة سجون وهي العجز، العمى وشرور النفس الإنسانية. يقول:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلاتسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث

بصورة عامة ترى أن الموارد المذكورة سببت إلى حدما أنه يعد الموت طريقا وحيدا للخلاص من هذه الآلام. من ناحية سايكولوجية، كان الشاعر قد يعاني عن مرض وفي النهاية نظرته إلى الدهر متشائمة شديدة التشاؤم وأدبياته مبنية علي التشاؤم؛ لأن الدهر في رأيه غاشم يعبث بالناس ولا يتيح لهم التمتع والانتفاع كما يشتهون فاشتدت عليه ضغينته ونقمته.

وقصارى القول أن أبا العلاء ابتدأ جبرياً وانتهى جبرياً، وعندما حاول أن يفتح باب الحرية وأعمل العقل، وجد أن العقل لايغير من طبيعة الناس شيئاً ورأى أن الشر شامل بين الناس مشترك أما الخير فطارئ غير مشترك وأن اللؤم موثق بالطبع البشري فأسرف الشاعر في التطير وامتلأ شعره بأنغام التشاؤم، كما رأى في الحياة سلسلة من النوائب والحرمان تصل بين مهده ولحده، لذلك أثر العزلة وعاش ينتظر الموت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى