السبت ١١ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم مجدي علي السماك

معركة في الخليل

في مدينة الخليل، ليس بعيدا عن الحرم الإبراهيمي.. بينما كان عبد الرحيم الفلاح الشاب البسيط واقفا قرب نافذة غرفة المعيشة،المطلة على حديقة منزله الموروث عن أبيه.. يحاول بأنف متأهب استنشاق أكبر قدر ممكن من رائحة ورود القرنفل الفائحة بإغراء شهي، وقد كانت تتدفق بعذوبة باذخة عبر النافذة المفتوحة على آخرها كفم إنسان يتثاءب في كسل هادئ وديع.. مدّ عبد الرحيم رقبته كما الإوزة، وأخرج رأسه بكاملها ودلاها إلى أسفل تحت شمس ساخطة كانت تنظر إليه بغضب جامح، وتحط أشعتها بعصبية على شعر ناعم ناصع السواد وقصير، وبقسوة أخذت تنقر أذنيه وصفعت قفاه الرفيع الخمري. ثم بدأ بشغف يقرب أرنبة أنفه العريض من ورود تحملها فروع تطاولت أغصانها بإسهاب، ليشم بنهم أكبر عبيرها الغزير المنساب في سطوع يدغدغ الخياشيم.. مستحوذا على معظم الرائحة، باذلا أقصى جهده لئلا يفلت شذاها ويبتعد عن طاقتي أنفه الواسعتين.. وترك جسده مقوسا في الداخل.

وظل عبد الرحيم في وضعه هذا يشم ويستنشق حتى هدر أنفه وفرقع بعطسة شديدة طيرت الحمام عن أغصان شجرة الأكاسيا المنتصبة في آخر أطراف الحديقة. وقبل أن ينتهي من حمده لله لأن روحه لم تطلع، ولم يقف قلبه مع قوة عطسته الشديدة المدوية.. لحظتها سمع صراخ ابنته الصغيرة وقد أفزعتها الفرقعة.. والتفت عبد الرحيم وهو يمسح أنفه بمنديل كرمشه في جيبه، فرأى زوجته تهب لتلتقط صغيرتها وتسحبها من تحت الطبلية، حيث اعتادت أن تحشر جسدها الطري لاهية عن الدنيا ومن فيها.. واحتضنتها، وطبطبت عليها.. ومع هذا دشن فمها أول ابتسامة مكتملة التكوين تألقت في شفتيها منذ الأمس.. وبان نابها الناصع البياض النافر عن بقية الأسنان.. واستمرت تهدهد وتطبطب حتى هدأتها.. فسكتت.. وعادت الدنيا إلى سجاها.

وبينما كان عبد الرحيم في وضعه هذا لاهيا عن زوجته وابنته بالشم والاستنشاق والعطس.. رن جرس الباب.. رنات عصبية فيها شوشرة تضجر الأعصاب وتنفرها..

حدق عبد الرحيم من هنا، ومط شفتيه ورفع حاجبين كثين وعوج فمه، وكان له حاجب أعلى من حاجب، ثم حدق من هناك.. وأسرع يفتح الباب. وبعد أن فتحه ظل باهتا للحظات ينظر كالخياطين من فوق إلى تحت يعاين جسد القادم كأنما يريد أن يفصل له بذله. وكان القادم جاره اليهودي الساكن في المستوطنة المحاذية، والذي له حديقة ملاصقة لحديقة عبد الرحيم.. في سياج مشترك.

ثم بدد اليهودي المستوطن ثقل الصمت حين فاه مسفسطا بلغة عربية مشروخة فيها شقوق وخروق..
 ما ينفع.. أن تعطس وتطير الحمام والعصافير من حديقتي.. هذا إزعاج كبير.

 أنا يا خواجة عطست في بيتي.. في حديقتي.. لم اعطس عندك.. أنا حر.
 اعطس على مهل.. بالراحة.. عطستك مثل القنبلة.. بم بم بم.. طيرت الحمام.. العصافير خافت.
 الله خلقني هكذا.. لا استطيع التحكم بالعطسة.. ربما أصابني زكام.

وسادت لحظة صمت واسع احتبست فيها الأنفاس الساخنة في صدر عبد الرحيم وسمطت رئتيه، ولم يستطع زفرها مرة واحدة أو بالتدريج، وانعقد لسانه، فبقيت محبوسة وزاد ضغطها فراحت تحزّ حتى سطحت قلبه في صمت أوسع وأكأب.. وظل ذهلا وهو واقف يحدق في الجسد المسرف في كبره والذي ينتصب أمامه أضخم من شجرة بلوط، له جلد أشقر فيه بياض كثير.. يرتدي بنطلون شورت وبلوزة كت، وقبعة لها حواف من كل الجهات.. ينتشر على جسده نمش لونه فاقع كحبيبات العدس المطبوخ على نار هادئة.. وعلى مشارف خده بموازاة فمه تنبت وحمة سوداء لها أطراف وذيل مما جعلها تبدو كالعقرب. ولم يستغرب عبد الرحيم من شكله غير المألوف، رغم أن هذه هي المرة الأولى التي يراه فيها عن قرب.. فهو يعرف أنه يهودي أوكراني قدم قبل عشرين عاما.. وزوّر أوراقا للملكية أمام المحاكم في تل أبيب، كي يستولي على مساحة واسعة من الحديقة التي ورثها عبد الرحيم عن أبيه. أبوه الذي مات يومئذ وهو يدافع بشجاعة لا توصف عن حديقته.. وكان عبد الرحيم في ذلك الوقت ما يزال صغيرا في المدرسة الابتدائية.. ولمّا كبر أدرك أن جاره هذا يسكن في حديقته المسروقة زيفا.. وعرف أنه هو الذي يمنع عنه وعن حديقته الماء منذ سنتين.. مما اضطر عبد الرحيم إلى إحصاء قطراتها بدقة فائقة حتى يستطيع أن يعيش.. وصار ينهى زوجته عن التبذير.. خمس قطرات للوضوء.. عشر قطرات للطبخ.. خمسة عشر قطرة للاستحمام.. عشرون قطرة لشطف المنزل..

هب عبد الرحيم في وجه جاره صائحا وكاد ينفجر وهو يصرخ معربدا..

 لكنك تسكن في أرضي.. وتسرق الماء.
 لا يا شاطر.. هذا موضوع قديم.. أنا ساكن بقرار من المحكمة العليا.. صارت ملكي.

سكت عبد الرحيم وراح يلهث بكل جسده، وأحس أن كل شيء حوله صار يلهث مع لهاثه النازف من ذاكرة فيها جروح ما فتئت تتعمق وتكبر مع كرور الزمن.. وأحس بكابوس ثقيل كأن بغلا مكتمل النمو جثم فوق صدره وطوق رقبته بساقيه الأماميتين.. ليخنقه ويخنق العائلة والأشجار.. وأحس أن كل شيء حوله صار مخنوقا.. وأحس أن الدنيا تموت.

لكن الجار المستوطن لم يترك عبد الرحيم غاضبا، فحاول أن يمحو من عقله ذكريات قديمة ما زالت معششة في مخه.. فاقترح عليه في غرور طاغ أن يغلق النوافذ والأبواب جيدا حين يريد أن يعطس.. ورفع قبعته ففاحت منها رائحة كرائحة البيكنج باودر.. ثم أردف ويده لم تكف عن التلويح بالقبعة..

 هذا أحسن حل للمشكلة.. هل أنت موافق؟ ستعطس كما تريد.. يجب أن توافق.

اتسعت مساحة البياض في عيني عبد الرحيم وانطفأ فيهما اللمعان.. وارتفع سوادهما إلى أعلى في تشاؤم فصارتا كأنما تنظران إلى داخله المسموط، وكان ينبعث منهما كلاما يفند بمرارة ما كتبه له القدر وما سوف يكتبه.. واستحضر منظر أبيه ممدا أمامه غارقا في دماء بقيت إلى الآن جارية تشعل دمه وتهتك تفكيره.
لكن المستوطن أيقن بأن عبد الرحيم لم يقتنع بكلامه.. فقدح خاطره فكرة جديدة فيها حل جذري للمشكلة.. واقترح على عبد الرحيم أن يصّغر أنفه بعملية تجميل ويضيق طاقتي أنفه.. عملية جراحية بسيطة تجعله يعيش بهدوء وينتهي من عطسات عبد الرحيم وفرقعاتها.. فتصير الحياة أريح.. وأجمل. وظل اليهودي مسلطا بصره على الأنف الكبير الذي يملأ وجه عبد الرحيم.. الأنف الذي يتسع بسهولة لعقلة بأكملها من سبابته الثخينة.
جاء صوت زوجة عبد الرحيم يقعقع من الداخل.. كان صوتها سميكا وعريضا قد اضمحلت أنوثته بشكل ملفت.. تطلب من زوجها أن يبصق في وجه جاره بعد أن يلطه بالشبشب.. ثم اقتربت وفي يدها الشوبك.. لكنه دفعها في رفق وأمرها أن تعود إلى الداخل.

وبينما كان جاره يشرح ويوضح مسترسلا في تفاصيل العملية الجراحية.. وعبد الرحيم يحاوره ويقاطعه ويكثر من مقاطعته دون جدوى.. ثم تركه فجأة وقد عصفت في رأسه فكرة واتته على الفور.. ودفعته ساقاه بسرعة إلى المطبخ.. وعاد يحمل سكينا وكان في عينيه حمرة وقد استطار منهما الشرر في غضب بركاني..
ما إن رأى المستوطن السكين.. حتى هرب يسابق الريح.. لكنه عاد مع حلول الظلام.. واندلعت معركة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى